النص الكامل لمجموعة «الثعبان المزعوم» ليس الفيل
----------------------------------------------------------------
مقدمة
.........
هذه القصص
بقلم: حسني سيد لبيب
..........................
يس الفيل شاعر مخلص لفنه. لا نغالي إذا قلنا إنه صاحب البصمات الواضحة في حركة الشعر العربي المعاصر. واصل العطاء الشعري في مسيرة امتدت إلى نصف قرن من الزمان. وهو يتميز بفيض الأحاسيس، وصدق التعبير، وعذوبة الكلمات.
إلا أنه يكتب القصة القصيرة أحيانا. وقصصه تكاد تنافس في صياغتها صوته الشعري، بجملها القصيرة المكثفة، وتصويرها البارع، ومحاورتها الفكرة ومداورتها، فظهرت قصصه ناضجة المضمون محكمة البناء.
ما يحرك شاعرنا إلى ولوج عالم القصة القصيرة، هو الفكرة الملحة التي تدفعه دفعا إلى القص، فهو صنف من الكتّاب إذا غازلته فكرة ما انتصر لها، وصاغها صياغة تجذب القارئ إليها، وقد تدفعه إلى قراءتها أكثر من مرة.
أبطال قصصه من هؤلاء الذين تسيّدوا أقوامهم بالخُلق الرفيع والشفافية السامية. إذا ولجت عالمه القصصي، تشدك براعة الاستهلال، والصياغة الفنية. يجيد الخطاب السردي بضمير الغائب غالبا. وللمناجاة الداخلية حظ وافر في لغة السرد. يحرص على انتقاء شخصياته انتقاء الأب عريسا لابنته، مكونًا جماعته المغمورة، حسب تعبير فرانك أوكونور، في كتابه "الصوت المنفرد". وإن كانت جماعة يس الفيل المغمورة، لا تصنّف مع موظفين أو مهنيين أو حرفيين - كما فعل أوكونور - إنما هي جماعة تتصف غالبا بالسلوك النبيل والخُلق الحميد. وكثيرا ما يؤلمه الواقع المعيش، فيشحذ يراعه نصلا حادا يستأصل به العلة. كما تتحدد طباع جماعته – أيضا - في المثالية والشفافية اللتين تواجه بهما سلبيات الواقع، وتدفع إلى محاربتها واستئصال شأفتها.
ولا ضير أن يكون الأديب صاحب موهبة مزدوجة. وإذا كان يس الفيل قد أقدم على كتابة القصة القصيرة إلى جانب كتاباته الشعرية، فإن الأمثلة عديدة لأدباء آخرين مزدوجي المواهب، أمثال: عباس محمود العقاد في الشعر والنقد، ووليم بليك في الشعر والرسم، وكامل أمين في الشعر والرسم أيضا، وصالح جودت في الشعر والقصة، ويوسف إدريس في القصة القصيرة والمسرحية، والأمثلة في هذا لا تُحصى.
تحكي قصة "رقص الغوازي" عن الراقصة صفاء التي تذهب إلى المرقص تصاحبها أمها علية. حمادة غير راض عن سلوك بنت خالته وأمها. ما إن يزورهما زيارة عابرة، حتى يرتد عائدا إلى الجبهة. زمان القصة عقب نكسة 67 في إشارة واضحة من الكاتب عن سلبيات المجتمع وتتمثل في السلوك المنحرف، وإيجابياته المتمثلة في حمادة الجُندي، الذي يعود من حيث أتى، وفي نفسه مرارة. وفي نهاية القصة يقول حمادة في مشهد يشبه المشاهد المسرحية: "مستحيل الفجر يطلع من هنا.. مستحيل.. الفجر عمره ما يطلع من هنا.. إلا لما نبطّل الرقص". وتأخذ كلمة "الرقص" معنى الفن الهابط هنا، ومعنى عدم حسم الأمور.
وفي قصة "مدرسة الحياة" يلتقي المهندس الذي تخرج حديثا أحد الفنيين من ذوي الخبرة والعطاء. في البداية يحقد عليه ويحسده على نجاحه. إلا أنه استمع بوعي لكلماته المخلصة، فأدرك عظمة هذا الفنّي الماهر. وعليه - وهو في بدء حياته العملية - أن يتحلى بالهمة، ويضيف إلى علمه كل ما هو نافع ومفيد.
وفي قصة "كبوة الجواد"، أثّر إعراض زوجته عن السفر معه إلى البلد الذي يعمل به على أدائه. غفر المدير خطأه في العمل لما عُرف عنه من كفاءة وإخلاص، واعتبر الخطأ غير المقصود كبوة جواد. القصة مليئة بالمواقف الإنسانية.. موقف المدير وتشجيعه له.. تراجع زوجته عن موقفها.. إلا أن هذا المهندس المثالي، كان مثاليا أيضا في أخلاقه، فلم يشأ اتخاذ موقف يغضب زوجته. ولم يشأ تبرير خطئه أمام المدير بالتحدث - ولو كذبا - عن أخطاء غيره. هو صادق القول مثلما هو مخلص في عمله.
وما أعظم قصة "الوسام"، عن الجندي المقاتل في أشرف معركة، معركة تحرير الأرض المغتصبة. حصل الجندي على الوسام لبطولاته في حرب العبور. لكن الجندي، وهو عائد إلى بلدته، يرى الوسام من حق أبيه، فهو حارب ستة أيام بينما كافح والده ستين عاما. يتنازل عن الوسام لأبيه. لكن الأب يرى أنه لا يستحقه، إنما مصر هي التي تستحق الوسام، فمصر ناضل أبناؤها ستة آلاف سنة.. ويضع الأب الوسام على صدر تمثال يمثل مصر الوطن. قصة رائعة صاغها الشاعر بقلب عامر بالوفاء لضحايا الحرب، والأبطال الشجعان الذين ضحوا بكل غال ونفيس من أجل تحرير الأرض من الغاصبين.
وقصة "الرجل الطيب"، فكرتها مباشرة، عن محاضر شيوعي يبث أفكاره غير المألوفة على الجالسين، فيستهجنون ما يقول. يتصدى له رجل طيب - كما يصفه الكاتب - فأفحمه وأربكه، بما استند إليه من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية. ودعا له بالهداية، وطرح الأفكار الملحدة، وأن يعمر قلبه الإيمان. وقصة "توبة" كسابقتها، في اتخاذ المنحى الديني وسيلة للنصح والإرشاد. شاب أعلن توبته، والفضل يرجع إلى نصح أبيه ودعائه له.
والخوف هو محور قصة "الثعبان.. المزعوم".. حيث التحقق من الخطر أو مواجهته أفضل بكثير من سيطرة الخوف على نفوسنا.
وعن واقع مؤسف عشناه، سطر الكاتب قصته أو لوحته القصصية المسماة "الطوفان.. ينحرف أحيانا".. وهي مستوحاة من غزو العراق للكويت، دون أن يصرح بهذا. سمى الغزو طوفانا، ثم ارتد الطوفان إلى من أشعل الأرض وأفسدها. تميل القصة إلى الرمز الذي يصح أن نطبقه على كثير من الأحداث، وإن نُكب العراق بطوفان أعتى وأفظع.
في قصة "البطل" يتعرض الكاتب لقضية صدق الفنان مع نفسه، وبمعنى آخر أن يكون المظهر كالمخبر. البطولة الزائفة لا تصنع فنا. تطرح القصة عددا من التساؤلات، في مقدمتها: كيف يصير البلطجي بطلا؟
وفي قصة "النتيجة" يعتزم الأب الاطمئنان على نتيجة ابنه في ليسانس الحقوق بنفسه، حتى تكون مفاجأة سارة لابنه. لكن التزاحم منعه من الوصول إلى مكان الكشوف المعلقة. استنجد بشاب فعاد معتذرا حيث مزق الطلبة الكشوف، فعاد إلى بلدته منهوك القوى، ويفاجأ بابنه يبشره بالنجاح بتقدير امتياز. المغزى في عناء الأب وتعبه، وأمله في نجاح ابنه.
وقصة "الميراث" عن وارث لثروة أبيه، لكنه لا يعرف كيف يحافظ عليها، فينتقل الميراث إلى من يستحق، وهذه طبيعة الأشياء، التي حرص الكاتب على التأكيد عليها.
وقصة "الجائزة" عن عامل بسيط يفسح المجال ليتيح لمديره الصلاة في مقدمة الصفوف، لكن المدير حين لاحظ ما فعل، عاتبه مستطردا: "ربما أتقدم عليك أمام الناس.. لكني.. أمامه سبحانه وتعالى.. قد أتأخر عنك آلاف الأميال". بهذه الكلمات البليغة المشرقة وضع الكاتب المفضال قيمة خُلقية يصح بها البشر. المثالية تعمر قلب المدير وقلب الموظف البسيط.
تتميز شخصيات قصص يس الفيل في الغالب بالطموح والسلوك المثالي، وتتطلع إلى التفوق والتألق. شخصيات ذات أحاسيس مرهفة وعواطف نبيلة. لديها مخزون مشرف من أخلاق القرية المصرية، تدفعها إلى الصدق في القول وفي العمل.
لغة الحوار راقية لا تنحرف إلى ألفاظ جارحة. ولغة السرد متأثرة بشعره، تفيض بنبل الأحاسيس وفيض المشاعر.
ولنا في القاص رستم كيلاني خير مثال في هذا المجال، وغيره من البنّائين العظام لكل المعاني السامية الراقية. الفارق بينهما يتحدد في المكان الأثير لكل منهما. فمجتمع رستم هو المدينة، ومجتمع الفيل هو القرية. ينشغل رستم بتفاصيل الواقع، وينشغل الفيل بالصياغة الشعرية التي تعنيها الكليات.
في هذه المجموعة القصصية، نجد من الشخصيات الملفتة للنظر، الجندي المدافع عن بلاده، على النحو الذي رأيناه في قصتيْ: "رقص الغوازي" و"الوسام". كما يبرز الكاتب قيمة العمل وأهميته، في قصتيْ: "مدرسة الحياة" و"كبوة الجواد". ويبرز أهمية التمسك بتعاليم الدين، في قصص: "الرجل الطيب" و"توبة" و"الجائزة". وعن عقدة الخوف نقرأ قصة "الثعبان.. المزعوم". وعن الصدق مع النفس، تطالعنا قصة "البطل". وعن الأبوة نقرأ قصة "النتيجة". وعن "الميراث" نقرأ قصة بالعنوان نفسه. هذا هو عالم الكاتب وهذه مضامينه ذات المغزى والهدف.
وإذا قلنا إن رستم كيلاني أخلص في الكتابة القصصية، وأعطاها عمره وذوب فؤاده. فإن القول نفسه ينطبق على يس الفيل في مجال الشعر، وإن استماله القص فكتب عن حب هذه القصص التي يسعدني تقديمها للقارئ الكريم.