منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1

    أوراق نزار قباني المجهولة‏!

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


    عندما كتب نزار قباني سيرته الذاتية المطولة قصتي مع الشعر في بداية السبعينيات‏,‏ كان مقتنعا أن ما رواه عن رحلته الشعرية هو نهاية الكلام‏..‏ وأنه عصر نفسه حتي آخرها‏..‏ وأمسك بكتابه حتي نهايته‏..‏ فلم يبق في حوزته ورقة واحدة لم يرسلها إلي المطبعة‏..‏ ولم يبق في خزانة ثيابه رابطة عنق لم يلبسها في الحفلات العامة‏.‏
    لكن بعد مرور ربع قرن أدرك أن الشاعر لا يمكنه أن يقفل صنبور المياه بشكل اعتباطي‏,‏ ويمنع مياه الذاكرة من التدفق‏,‏ لاسيما إذا كان لايزال يحرث ويزرع ويقدم للناس في كل موسم فاكهة الشعر‏.‏


    لا يمكن للشاعر أن يتخذ قرارا منفصلا بإقفال الستارة علي المتفرجين الجالسين في المسرح ويقول لهم‏:‏ مع السلامة‏..‏ انتهت الرواية‏..‏ فالسيرة الذاتية لشاعر ليست نصا مغلقا‏..‏ ولا هي رواية تنتهي بزواج الأبطال أو موتهم‏..‏ فمادام الشاعر‏(‏ يحيا‏)‏ ومادامت هرمونات الكتابة تتكاثر وتتحرك وتسافر في جسده‏,‏ فلا يمكننا التعامل معه كما نتعامل مع لمبة محترقة‏..‏ أو مع سيارة فرغت بطاريتها‏.‏


    كتب نزار قباني سيرته الثانية من أوراق مجهولة‏,‏ لم تنشر وهو علي قيد الحياة‏,‏ وإنما نشرتها ابنته هدباء بعد وفاته‏,‏ التي كانت في مثل هذه الأيام ولكن قبل ثماني سنوات‏.‏




    في هذه الأوراق يتذكر نزار قباني أسئلة أصدقاء أبيه وهو في سن الثالثة عشرة عن اهتماماته وهواياته ومستقبله؟‏..‏ وعندما كان الأب يجيب‏:‏ ابني يريد أن يكون شاعرا‏..‏ يتغير لون سائليه ويتصبب العرق البارد من جباههم ويتلفتون إلي بعضهم قائلين‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله‏..‏ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا‏.‏


    كان نزار قباني يسمع تلك التعليقات الدراماتيكية فيتصور أن الشعر والكارثة شيء واحد‏..‏ وأن عفريتا من العفاريت ركبه‏..‏ ولابد من أخذه إلي أحد الشيوخ الصالحين في حارتهم ليكتب له حجابا يشفيه من كوابيسه ويطرد الجن من رأسه‏.‏


    كانت أمه مقتنعة بسلطة العفاريت وبقدرتهم علي إيذائه‏..‏ لذلك كانت تلبس ملاءتها كل يوم وتجره من يده إلي أقرب شيخ تعرفه وتعطيه أساورها الذهبية ثمنا لطرد العفريت‏..‏ فيأخذ الشيخ الأساور ويتقاسمها مع العفريت‏..‏ أما أبوه فلم يكن يخشي سلطة العفاريت‏..‏ ولكنه كان يخشي سلطة أمه‏.‏


    إن ربط الإبداع بالجن والعفاريت والأرواح الشريرة تكتيك عدواني مقصود‏..‏ غايته الترهيب والتخويف‏..‏ فالمتضررون من الشعر كثيرون‏..‏ والخائفون منه أكثر‏..‏ لأنه يدعو إلي تغيير الإنسان وتغيير العالم‏.‏


    وعندما بلغت الثلاثين نضجت تجربتي‏,‏ اكتشفت أن الشعر عمل من صناعة الإنسان وحده‏..‏ لا علاقة له بالشياطين ولا بالملائكة‏..‏ فالشياطين خبثاء‏..‏ ماكرون‏..‏ دساسون‏..‏ يشعلون الفتن ويحرضون علي الحروب ويتدخلون في الحياة العاطفية ويحطمون العلاقات الجميلة‏..‏ وهو ما يتنافي مع طهارة الشعر‏..‏ أما الملائكة فإنهم مشغولون بطهارتهم ونظافتهم وغسل أجسادهم بالصابون والكولونيا‏..‏ كما أن حيادهم الجنسي لا يسمح لهم بقراءة قصيدة حب يكتبها رجل لامرأة واستيعاب مضمونها‏.‏


    إن الشعر كلام راق يصنعه الإنسان لتغيير مستوي الإنسان‏..‏ وهو حلم جميل يحتاج إلي لغة ديمقراطية لا أثر فيها للغرور والتعالي والثقافة الكاذبة‏..‏ لغة تفوح منها رائحة الأسواق القديمة والمقاهي الشعبية والحارات المعجونة بعرق الناس وأنفاسهم وأصواتهم وأغانيهم المغسولة بماء العشق‏..‏ لغة لها طعم القرفة واليانسون والقهوة المغلية بالحبهان‏..‏ لغة تخلع نعليها وتجلس علي الأرض‏..‏ لا علي مقعد وثير من طراز لويس السادس عشر‏..‏ لغة تتكحل بها النساء‏..‏ وتتجمل بها العرائس‏..‏ ويشربها الأطفال مع الحليب قبل الذهاب إلي المدرسة‏.‏


    الشعر قدر لا يمكن للشاعر أن يهرب منه‏..‏ أو يعصي أوامره‏..‏ أو يشرك به أحدا‏..‏ والقصيدة امرأة أحادية الهوي‏..‏ تختار رجلا واحدا‏..‏ تحبه‏..‏ وتتزوجه‏..‏ دون أن تفكر في تعدد الأزواج‏..‏ أو تقبل بضرة‏..‏ وهذا يعني أن علي الشاعر أن يكون شاعرا فقط‏..‏ وألا يقوم بأي مهنة أخري لزيادة دخله‏..‏ أو تحسين وضعه الاجتماعي‏..‏ علي الشاعر أن يكون متفرغا حتي الموت للشعر‏..‏ لا أن يعمل قبل الظهر موظفا في وزارة المالية‏..‏ أو خفيرا في مصلحة الجمارك‏..‏ أو ميكانيكي سيارات‏..‏ أو شرطي مرور‏..‏ ويعمل بعد منتصف الليل شاعر غزل‏..‏ إن تعدد الوظائف لا ينفع في الشعر‏..‏ وجميع الشعراء الذين اشتغلوا في الصباح ماسحي أحذية‏..‏ ظلت رائحة الورنيش تعبق من قصائدهم‏.‏

  2. #2
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


    في عام‏1954,‏ كان يعمل دبلوماسيا في سفارة سوريا في لندن عندما نشرت له مجلة الآداب اللبنانية قصيدته القنبلة خبز وحشيش وقمر‏..‏ لكن ما إن وصلت القصيدة إلي أيدي المتزمتين حتي طالبوا بشنقه وطرده من وزارة الخارجية‏..‏ لأنه ـ حسب اجتهادهم ـ خان بلاده وانحرف عن عقيدته وأصبح عميلا للمخابرات البريطانية‏,‏ لأنه ألصق علي مظروف القصيدة المرسلة إلي الآداب طابعا بريطانيا‏.‏


    هكذا‏..‏ ببساطة أصبحت عميلا لأنني هاجمت الكسالي والمسطولين راقصي الزار والدراويش والمنبطحين في منتصف كل شهر عربي تحت أقدام ضوء القمر‏.‏


    كانت القصيدة مذهلة‏..‏ موجعة‏..‏ فاضحة‏:‏ ما الذي يفعله قرص ضياء ببلادي؟‏..‏ ببلاد الأنبياء‏..‏ وبلاد البسطاء‏..‏ ماضغي التبغ‏..‏ وتجار الخدر‏..‏ ما الذي يفعله فينا القمر؟‏..‏ فنضيع الكبرياء‏..‏ ونعيش لنستجدي السماء‏..‏ ما الذي عند السماء لكسالي‏..‏ ضعفاء‏..‏ يستحيلون إلي موتي إذا عاش القمر‏.‏


    في بلادي بلاد البسطاء‏..‏ حيث يحيا الناس من دون عيون ويعيشون علي الضوء الذي لا يبصرون‏..‏ وينادون الهلال‏..(‏ يا هلال‏)..‏ أيها النبع الذي يمطر ماسا‏..‏ وحشيشا‏..‏ ونعاسا‏..‏ أيها الرب الرخامي المعلق‏..‏ أيها الشيء الذي لا يصدق‏..‏ دمت للشرق‏..‏ لنا‏..‏ عنقود ماس‏..‏ للملايين التي قد عطلت فيها الحواس‏.‏


    وصلت القصيدة ـ الجريمة إلي البرلمان وانبري النائب عن جماعة الإخوان المسلمين الشيخ مصطفي الزرقا بتقديم استجواب عنيف لوزير الخارجية آنئذ خالد العظم طالبا منه إحالة نزار قباني إلي اللجنة التأديبية وطرده من وزارة الخارجية‏..‏ وتأييدا لأقواله قرأ النائب المتشدد القصيدة علي النواب‏..‏ ومن حسن الحظ أنه كان فصيح اللسان‏..‏ رائع الإلقاء‏..‏ فما إن انتهي من تلاوة القصيدة حتي انفجرت قاعة مجلس النواب وشرفة المتفرجين ورجال الصحافة بالتصفيق‏..‏ فعاد النائب والعرق يتصبب من جبينه إلي مقعده‏..‏ مخذولا‏..‏ محبطا‏..‏ وباظ الاستجواب‏.‏


    في ذلك الوقت دخل مبني القنصلية السورية في كينجستون بالاس جاردين شيخ مغربي كان يريد تأشيرة دخول إلي دمشق‏,‏ وبعد أن قرأ اسم القنصل نزار قباني علي جواز سفره سأل السكرتيرة‏:‏ هل هو نزار قباني الشاعر أم أنه شخص آخر؟‏..‏ وعندما أجابته أن القنصل والشاعر هما شخص واحد‏,‏ ظهرت الدهشة علي وجهه والتمعت عيناه وطلب مقابلته‏.‏


    ويكمل نزار قباني‏:‏ وانفتح الباب ودخل منه رجل أسمر الملامح نحيل القامة يحمل معه كتبا وجرائد‏..‏ نهضت لاستقباله مبتسما وطلبت منه أن يجلس ويشاركني القهوة‏..‏ ولكنه امتنع عن الجلوس وبقي مزروعا في منتصف الغرفة وفي عينيه شهوة واضحة للقتال والتحدي‏..‏ وأخيرا قال‏:‏ يا سيدي الشاعر ولا أقول يا سعادة القنصل‏,‏ لأن كل الألقاب الأخري المضافة إلي اسمك كشاعر لا تهمني‏..‏ قل لي بالله عليك يا سيدي‏..‏ ما الذي تفعله وراء هذا المكتب؟‏..‏ هل مهمتك أن تنظر في جوازات السفر وتدقق في أسماء طالبي السفر وتلصق طوابع عليها؟‏..‏ لا يا سيدي‏..‏ هذا عمل يمكن أن يقوم به أي موظف من العصر العثماني‏..‏ أما أنت فشاعرنا وصوت ضميرنا والناطق الرسمي باسم أحلامنا وأفراحنا وأحزاننا وهمومنا العاطفية والقومية‏..‏ أتوسل إليك يا سيدي باسم الأجيال العربية التي قرأتك وأحبتك وتعلمت علي يديك أبجدية الحب والثورة‏..‏ أتوسل إليك باسم جميع الأنبياء والرسل وجميع الشعراء الذين استشهدوا من أجل كلمة جميلة أن تترك هذا المكان فورا‏..‏ وتبقي عصفورا يوقظ الشعوب من غيبوبتها ويغني للحرية والإنسان من المحيط إلي الخليج‏.‏


    وخرج الرجل من مكتبي دون كلمة وداع وغادر القنصلية كالبرق تاركا وراءه كلماته الغاضبة تشتعل كالحرائق الصغيرة في رأسي وفي ثيابي وأوراقي‏..‏ وعندما أخذت قرارا واستقلت وركبت السفينة العائدة إلي بيروت‏,‏ شعرت بصوته يأتي من بعيد وهو يقول‏:‏ شكرا لأنك اخترت الشعر‏.‏

    بقلم الأستاذ عادل حمودة
    الاهرام المصرية

المواضيع المتشابهه

  1. مسلسل نزار قباني/أخطاء فاحشة وتدنيس لدمشق/رنا قباني
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان الفني
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-31-2011, 02:10 PM
  2. إغضب !!/نزار قباني
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى من روائع الشعر
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-05-2010, 12:12 AM
  3. يوميات رجل مهزوم/نزار قباني
    بواسطة فراس الحكيم في المنتدى من روائع الشعر
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-29-2010, 01:25 PM
  4. من روائع نزار قباني
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى من روائع الشعر
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 11-11-2010, 01:18 PM
  5. قصيدة صباحك سكر /نزار قباني
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-30-2009, 06:38 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •