حل العقدة الفلسطينية/سوسن برغوتي
التاريخ: 1430-3-16 هـ الموافق: 2009-03-13 03:45:34
منذ إعلان الرئيس عرفات عن قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف عام 1988م، دخل معظم الفلسطينيون، قادة وشعب دوامة الدولة، وتعاملت الدول العربية مع السلطة المحلية على أنها ركن تأسيس الدولة الموعودة، وتباروا في فتح السفارات، واستقبل الرئيس باعتباره ممثل الدولة المنتظرة. على الصعيد الدولي، بقيت منظمة التحرير حبيسة صفة المراقب في الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها، ولم تتمكن من تجاوز هذه الصفة، بسبب الحضور القوى للكيان الصهيوني، الذي وقف باستمرار، عقبة في وجه الاعتراف الأممي بمنظمة التحرير الفلسطينية، كممثل يحظى بالأغطية القانونية، رغم أنها اعترفت بوجوده على أرض فلسطين...
إن عقدة الدولة الفلسطينية، غدت واضحة وجليّة، لدرجة أصبح فيه من المتعذر أن نقرأ بيانًا، أو تصريحًا، دون الإشارة لها، والتأكيد المستمر على أن مطالب الشعب الفلسطيني، تحقيق دولته وعاصمتها القدس.
رغم أن الاحتلال "الإسرائيلي" للأراضي المفترض قيام الدولة فوقها، لا يزال قائمًا، بالإضافة إلى افتقار السلطة لكافة مقومات وهياكل الدولة، بما في ذلك القوة العسكرية، القادرة على حماية الفلسطينيين والدفاع عن أراضيهم وممتلكاتهم.
واقع الحال، في الأراضي الفلسطينية التي احتلها الكيان الغاصب عام 1967، يؤكد افتقار تلك المناطق للبنية التحتية، وللمؤسسات الاقتصادية القادرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين. بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن السلطة قد مارست تخريبًا منهجيًا للمؤسسات الوطنية والجمعيات الخيرية، بذريعة أن تلك الجمعيات تدعم "الإرهاب". وتأكد للقاصي والداني أن أجهزة السلطة كانت ولا تزال تقوم بمهمات تكميلية لأجهزة الأمن "الإسرائيلية"، وفي كثير من الحالات تمارس وكالة تلك الأنشطة، بما في ذلك حملات الاعتقال والمطاردة للمقاوميين.
أكدت أحداث ما بعد اتفاقيات التطبيع، أن العملية السلمية في أبسط بديهياتها تعني المزيد من التفريط بحقوق الشعب الفلسطيني، وقد تآكلت في زخم اللهاث العاجز، معظم الحقوق التي ناضل الشعب الفلسطيني لإنجازها. وكلما استمرأ الطرف الفلسطيني المفاوض طريق التسليم، كلما تآكل جرفه، حتى أصبح لا يملك أي شيء يتفاوض عليه، وتراجع مع حملة التآكل مشروع القدس الشريف، عاصمة الدولة المزعومة، وكل المقولات "التكتيكية".
من المؤكد أن الصراع ليس على أراضٍ متنازع عليها، والنضال من أجل تحرير الأرض والإنسان والكرامة. وأي يكن موقف التخاذل والتراجع، فسوف تبقى هذه القضايا حية، تنفخ في الأجيال روح التمرد والثورة. الصهاينة من جانبهم، كما نحن لن يقبلوا أبدًا بأقل من كل فلسطين، وقد أكدت التجربة التاريخية أن فلسطين لا تقبل القسمة، وأن مسارها التاريخي، هو وحدتها، وثبات هويتها العربية، التي عبرت عن حضورها في سلسلة ممتدة لآلاف السنين.
في هذا السياق، تأتي تصريحات الحكومات الصهيونية المتعاقبة، منذ توقيع اتفاقية أوسلو، منسجمة مع المشروع الصهيوني في الحيازة الكاملة لأرض فلسطين، ضمن مسارات تدريجية، من مقايضة السلام مقابل الأرض، ثم السلام مقابل الأمن، إلى السلام مقابل الرغيف، وهو ما سوّق له نتنياهو حديثًا، تحت يافطة السلام الاقتصادي، وإبقاء الوضع السياسي على ما هو عليه من احتلال الضفة الغربية، واستمرار تضييق الخناق، بمعاقبة الإقليم المتمرد اقتصاديًا، إلا إذا رضخ لما يسمى بالشرعية الرباعية، أو قدم تنازلات، مقابل فتح المعابر وإعمار غزة، الذي تم تسيسه لصالح هذه النظرية.
إن السلام الاقتصادي، الذي يطرحه اليميني المدلل نتنياهو، هو تمهيد لمرحلة جديدة في الصراع مع الصهاينة، تختزل مفرداته، في معالجة الأوضاع المعيشية للفلسطينيين، وليس قضية شعب سُرقت بلاده، كيانًا وهوية وأرض، وسُلب حقه في الحرية وتقرير المصير.
إن أي مصالحة فلسطينية- فلسطينية، تخرج عن هذه السياقات، لن يكون بمقدورها إضافة أي بعد إيجابي، في معادلة الصراع، وسيكون من شأنها تحقيق المزيد من الهدر والتفريط والتسليم لشروط العدو. ولا مفر لمعالجة هذه المعضلة من تغيير الخطاب الفلسطيني، والعودة إلى فهم مقدمات الصراع، باعتبارها نقطة الإرتكاز في بناء استراتيجية التحرير، وليس بناء دولة في ظل احتلال.
هذه النقطة التي ينبغي أن تنطلق في كل الأحوال من وعي طبيعة المشروع الصهيوني، باعتباره أخطبوطًا إستعماريًا، يهدف إلى التمدد ليشمل الوطن العربي بأسره، مستغلاً حالة انعدام الرؤية والإرادة، وغياب التوازن على جميع الأصعدة.
تحقيق التحرير الشامل لأرض فلسطين، غاية تبدو الآن بعيدة المنال، بسبب الأوضاع المأساوية العربية، والتدخلات الصهيونية- الأمريكية في الشؤون الداخلية، كما أن التحالفات الدولية، بمجملها ترى في "اسرائيل" أمرًا واقعًا، تحت ذريعة التسليم بمنطق الشرعية والقانون الدولي. لذلك أمامنا نضال طويل وصعب وشاق، لتصحيح المعادلة، ولن يتم الإصلاح ما لم يُعاد صياغتها في البيت الفلسطيني، والاعتراف بفشل السياسات التي جرى تبنيها من قبل النظام العربي الرسمي، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
هكذا يبدو أن لا مناص من إعادة ترتيب الاستيراتيجية والأولوية، في إصلاح منظمة التحرير والعودة بها على أساس مشروع التحرر الوطني وخندق المقاومة، وفك ارتباطها بالسلطة، والتخلص نهائيًا من خيالات وزيف الدولة.