من كوبنهاجن إلى صنعاء(1)
هذه ليست (سياحة) في كتاب (من كوبنهاجن إلى صنعاء) فقط،بل هي محاولة لإلقاء النظرة على أحد أسباب ما أصبح عليه الغرب،أو بعض الأسباب التي جعلتهم يحيطون بنا من كل جانب،ويبنون حضارتهم على حسابنا،أو عبر تحويلنا إلى مجرد (مستهلكين) أو (زبناء)،لمصانع الغرب ... لقد درسوا كل ما يتعلق بنا،رسموا لنا (خرائطنا) .. درسوا مناخنا،أسواقنا،ديننا،لغتنا،وفنون البناء عندنا ... ولم يسلم منهم حتى (ختاننا) إناثا وذكورا!!! نعم .. لم يأت التفوق الغربي اعتباطا،لقد بذلوا الجهد كله ... مات أبناؤهم،وارتوت صحارانا،وبحارنا،من دمائهم .. فهل نتعجب إن تفوقوا؟!! الكتاب الذي بين يديّ هو (من كوبنهاجن إلى صنعاء)،لمؤلفه توركيل هانسن،وقد نقله إلى اللغة العربية،الدكتور محمد أحمد الرعدي،ونشرته دار العودة ببيروت،والطبعة التي بحوزتي هي الطبعة الثانية 1983م { مقدمة الطبعة الأولى في سنة 1968م.} ويقع الكتاب في 376 صفحة. في البداية نقتطف جزء من المقدمة التي كتبها الدكتور عبد العزيز المقالح والكتاب – من كوبنهاجن إلى صنعاء – بموضوعه البالغ الأهمية وبأسلوبه الروائي الجذاب،ويروي تفاصيل رحلة علمية وسياسية،كانت قد قامت بها بعثة أوربية مؤلفة من ستة أفراد من الدانمرك إلى اليمن،ولم يعد إلى وطنه من أفراد هذه البعثة سوى واحد،ولقي الباقون مصرعهم في البر أو البحر،شأنهم شأن عشرات الآلاف من الرواد وطلائع الكشوف العلمية والاستعمارية في مطلع عصور الارتياد والاكتشافات الحديثة.){المقدمة (ب)}.مقتطفات من (القسم الأول) من الكتابعنون المؤلف لهذا القسم بالعناوين التالية خط سير البعثة – البداية الحقيقية للمشروع – دوافع الرحلة – اختيار أعضاء البعثة – التنافس بين الدنمارك والسويد .){ص 21}. بعد الكثير من الاستعداد والتجهيز .... (في صباح يوم هادئ من أيام شتاء عام 1961،في الرابع من شهر كانون الثاني(يناير) ركب فريق مكون من خمسة رجال قاربا،في طريقهم إلى إحدى السفن،مرتدين ملابس الرحيل. وقفوا جميعهم في القارب،وأعطوا الشمس ظهورهم ليروا مدينة "كوبنهاجن"وكأنها في متناول أيديهم،المدينة ذات الشهرة الواسعة،وقد أخذت تتوارى ببطء من خلال أشعة شمس كانون الثاني (يناير) الخافتة.هناك في عرض البحر،أمام القارب،وتحت أشعة الشمس ترسو السفينة (جرين لند) التي تربط عاصمة الدانمرك بمدن العالم البحرية الأخرى،إلى هناك حولوا أنظارهم ووقفوا في مواجهة أشعة الشمس،وقد زروا أعينهم،اتقاء منها،وحتى يكون في استطاعتهم رؤية الصواري وحبال السفينة. ومن المحتمل أن يكون قد غمر بعضهم شعور بسيط بعدم الارتياح لمنظر السفينة وكأنها شبح أسود. كان على تلك السفينة الراسية هناك أن تأخذهم معها في الأشهر القامة،وتعبر بهم مياه البحر الأبيض المتوسط حتى تصل مدينة القسطنطينية،ومن ثم يواصلون رحلتهم إلى الإسكندرية،فالقاهرة،وعبر مياه البحر الأحمر إلى الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة العربية .. إلى هناك،إلى أرض المعجزات،حيث اللبان والمر العلاجي،والبلسم،إلى جنة الله على الأرض، التي حلم لإسكندر الشاب بغزوها،والتي منذ الأزل أطلق عليها اسم العربية السعيدة،ذلك رما لأنه لم يصلها أحد. وكان جميع أعضاء الفريق يسمونها في مذكراتهم بهذا الاسم. ){ص 21 - 22}.ظل خبر البعثة – أو أمر "المغامرين" – سرا!! إلا أن انطلقت الرحلة،فنشرت إحدى الصحف الخبر،مع التنويه بدور جلالة ملك الدنمرك،رغم مشاغله : (كان أمر هؤلاء المغامرين الخمسة سرا لم يكشف،ومع هذا ما إن مر أسبوع على بدء رحلتهم حتى نشر الخبر التالي بتاريخ 20 كانون الثاني (ينار) عام 1761،على الصفحة الأولى من جريدة كوبنهاجن بوست :"إن جلالة الملك في هذا القوت العصيب،ورغم مشاغله الرسمية المرهقة،يناضل دون ملل من أجل غزو آفاق جديدة للمعرفة والتقدم العلمي،وتحقيق مجد أكبر لشعبه. لقد أرسل بعثة من العلماء على ظهر السفينة "جرين لند"(..) وتتألف البعثة من 1 – البروفسور فريدريك كرستيان فون هافن متخصص في اللغات. 2 - البروفسور بيتر فورسكال عالم نبات،وفيزيائي. 3 – المهندس الملازم كارستن نيبور،عالم في الرياضيات الفلك. 4 – الدكتور كرستيان كرامر،طبيب وفيزيائي. 5 – الهر جورج ولهم بورنفانيد،فنان ونحات. هؤلاء الرجال سوف يمضون عدة سنوات في الشرق كما سبق وأمضوا عدة سنوات يعدون أنفسهم لهذه المهمة،ولهذا فمن المتوقع بثقة،أن جهودهم ومؤهلاتهم سوف يكون لها نتائج مرضية،من أجل تقدم المعارف العامة،ومن أجل ترجمة أكثر صحة للكتاب المقدس خاصة.){ص 22 - 23}.هذه الإشارة إلى (الكتاب المقدس)،تلاها حديث أكثر تفصيلا عن أهداف الرحلة (الدينية)،أو (الدينية التأريخية) – إن صح التعبير - : (وكان البروفسور ميشاليس طبيا بالخبرة،تماما كما كان الأطباء الإنجليز،وكان يؤمن بوجود الله،وينكر الوحي وكل ما يتعلق بالأديان من اعتقادات،وعدل عن المبدأ الذي يقول بأن كل كلمة،في التوراة،هي وحي من عند الله،وعليه فإن التوراة كتاب لا مجال فيه للنقص أو المخالفة،واعتبر الكتب السماوية ككل الكتب العادية،لابد أن تخضع للنقد الحر من الناحية اللغوية والتاريخية،وأثناء دراسته بدا له أن القيام برحلة إلى البلاد العربية سوف يلقي الضوء على كل الأمور والتساؤلات المتعلقة بالدراسات اللغوية للكتب المقدسة. فعلى سبيل المثال،سيكون في الإمكان التعرف على الأشجار والحيوانات بالبلاد العربية واختبارها ومطابقتها بما جاء ذكره في التوراة من أشجار وحيوانات،كما يمكن دراسة جغرافية شبة الجزيرة العربية (خاصة حركة المد والجزر في البحر الأحمر)،كدليل كبير في محاولة فهم موضوع (الهروب من مصر).كما تمكن الرحلة من دراسة عادات العرب اليومية،,ملابسهم،وفن البناء لديهم. كان ميشاليس مقتنعا بأنه لم يبق إلا بلدان قليلة في عالمنا هذا،لا يزال شعبها محافظا على القديم،كشعب شبه الجزيرة العربية،وإن في "العربية السعيدة"إمكانية عظيمة لوجود آثار حضرية متنوعة شبيهة بتلك التي في إسرائيل القديمة وأحسن من تلك التي في فلسطين.){ص 24 - 25}. وهذه إطلالة على سيرة أحد أفراد البعثة،ومكانته العلمية.ربما تلقي الأسطر الآتية – أيضا – الضوء على نقطة تتعلق باللغة (العبرية)،والتي كثيرا ما نقرأ أن اليهود أحيوها بعد أن ماتت،ولسنا نجادل في ذلك،ولكننا نشير فقط،إلى أن البحوث العلمية كانت تكتب باللغة العبرية في تلك الفترة المبكرة،كما لا ننسى أن اللغة العبرية كانت لغة وسيطة بين اللغة العربية (لغة الحضارة) في وقتها،وبين اللغة اللاتينية،وذلك عبر المترجمين اليهود الذين كانوا يجيدون اللغة العربية ... على كل حال،يقول المؤلف عن البروفسور بيتر فورسكال يبدو أنه في سن العاشرة انخرط في بجامعة ابسلا (..) حيث كان عليه أن يدرس العلوم الدينية،,في ذلك الوقت،لم يكن من المستغرب أن يدخل الجامعة صغار السن،ومع هذا فقد أثار فورسكال حوله نوعا من الحماس والفخار عندما ألف رسالة جيدة مطولة باللغة العبرية بعد دخوله الجامعة بثلاث سنوات فقط.(..) عرّض نفسه للهجوم حين قدم رسالة جدلية أخرى إلى جامعة (ابسلا) (..) في هذه الرسالة الجديدة غامر بيتر فورسكال بتقديمه بعض الآراء ووجهات النظر،التي جعلت مجموعة كبيرة من الرجال الأقوياء تقف ضده (..) كتب جزء من الرسالة باللغة اللاتينية،والجزء الآخر باللغة السويدية وحملت العنوان التالي : آراء وأفكار عن الحرية المدنية. وفي الوقت الذي كتبت فيه هذه الرسالة كانت الملكية المطلقة قد انتهت في السويد،غير أن أي إنتاج فكري جديد كان لابد أن يخضع لرقابة الحكومة أو على الأصح لرقابة أصحاب النفوذ،وذلك بواسطة مجلس العدلية الذي كانت رقابته أكثر من شدة منها في العهود التي كان يتمتع فيها ملك السويد بسلطة مطلقة.تحت وطأة دكتاتورية الحزب الواحد،أعد فورسكال دفاعه عن الحرية المدنية،من أربع وعشرين مقالا،استهلها بأن ذكر أن أعز وأغلى ما يملكه الإنسان،بعد حياته هي حريته،وأن الخطر الوحيد الذي يهدد هذه الحرية،هو سيطرة وجبروت أصحاب المناصب والوجهاء،وأصحاب الأموال الذين كبرت سطوتهم على البلاد،واستغلوا نفوذهم في سبيل الحصول على الامتيازات على حساب الشعب،وحتى في كثير من البلدان الجمهورية،حيث يملأ الحكام الدنيا ضجيجا وزعيقا باسم العدالة والحرية،نجد أن غالبية الشعب قد أصبح عبدا للطبقة الحاكمة.(..) رفضت الكلية طباعة الرسالة شأن كل الأعمال الخطيرة والجريئة،وذلك في محالة منها لإخماد الشعلة التي يمكن أن تسبب الانفجار (..) لم يستسلم وقدم شكوى إلى مجلس العدلية،فأصبح كالمستجير من الرمضاء بالنار. وبطبيعة الحال،أيد مجلس العدلية قرار الكلية (..) واستأنف فورسكال الحكم،غير أنه حصل على نفس النتيجة،فقد طلبا إلى مجلس العدلية يبدي فيه استعداده لأن يغير كل شيء يجده المجلس خطأ،وكان نصيب هذا الطلب أيضا الرفض. وكتب للمرة الثالثة طالبا أن يوضح له المخالفات التي يفترض أنه ارتكبها وأبدى استعداده مرة أخرى،في تصحيح أي أخطاء يمكن أن تكشف له،فرفضت كل طلباته.فلجأ إلى قوة النضال بقوة وإيمان،وعمد إلى الاتفاق مع صاحب مطبعة،,في الثالث والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1759 صدر كتابه : "آراء وأفكار عن الحرية المدينة" من 500 نسخة وما إن خرجت آخر نسخة من المطبعة حتى قام في نفس اليوم بتوزيعها على تلامذته في جامعة ابسلا،(..) وأصدر مجلس العدلية حكما بمنع الكتاب،وأمر مدير الجامعة بجمع كل النسخ التي طبعت،لكنه لم يستطع أن يجمع إلا تسع وسبعين نسخة من الكتاب،تم إحراقها في الحال.){36 - 40}.بعد حادثة إحراق الكتب،ننقل مقطعا (مطولا) من التوصيات الأخيرة التي تسلمتها البعثة تسلم المستر كريستيان نيبور،توصيات الملك الأخيرة،التي تضمنت ثلاث{هكذا} وأربعين مقطعا. كان أهمها ما يلي:1 - سوف ترحل البعثة إلى القسطنطينية (..) تواصل طريقها من هناك إلى العربية السعيدة،حيث تلاحظ وتدرس كل شيء،على أن تظل أهداف البعثة نصب عين الجميع.2 - إن الطريق الذي سوف تسلكه البعثة،سيكون مؤديا أولا إلى القسطنطينية ثم إلى الإسكندرية،فالقاهرة،ثم إلى سيناء،ثم جنوبا،عبر البحر الأحمر إلى مدينة المخاء {في الصفحة 65 : "إلى الإسكندرية ثم السويس،نزولا في البحر الأحمر إلى جدة القريبة من مكة،ثم إلى ميناء المخاء في اليمن السعيدة"} ويتسلم أعضاء البعثة من سفير جلالة الملك في القسطنطينية جوازات سفرهم (..) وسوف تمكث البعثة في العربية السعيدة سنتين وعند الضرورة ثلاث سنوات.3 - إن واجبكم الأول هو أن تتعلموا اللغة العربية،قد استطاعتكم،وسيسعدكم ذلك،من رفاقكم،عالم النبات وعالم اللغات.5 - سيكون لكل واحد منكم مذكرة يسجل فيهل ذكرياته،وعليه أن يبعث بصورة منها بشكل دائم،حين تسمح الظروف.6 - على كل منكم التعامل مع (المحمديين) في حذر شديد،واحترام دينهم،وعدم التصرف مع نسائهم،بحرية كما يتصرف،مع النساء الأوربيات.7 - سوف يكون تحت تصرفكم مبلغ 2000 ريجسدالر لشراء المخطوطات بأسعار معقولة،(..) والغرض من هذا شراء مخطوطات التأريخ الطبيعي،والجغرافيا،والتأريخ،وشراء المخطوطات القديمة للتوراة،ونسخ للترجمة العربية للتوراة،وخاصة الغائر منها في القدم والتي كتبت بأحرف أبجدية تختلف عن التي تستخدم الآن. 8 – على الأعضاء أن يعملوا جهدهم للإجابة على الأسئلة التي وضعها البروفيسور ميشاليس،وأيضا على تلك التي يرسلها العلماء الأوربيون،وترسل إلينا من هذه الأخيرة نسخ ترفق بصور المذكرات. 9 - (..) وحين تقومون بحساب خطوط الطول والعرض،عليكم أن تجمعوا المعلومات لعمل خرائط للمناطق التي تمرون بها،وعليكم ملاحظة الاختلافات التي يمكن أن تكون بين الفصول الجافة والفصول الممطرة،وعليكم الاهتمام بأي شيء أثري من العصور القديمة،ووجهوا هممكم أيضا إلى حجم السكان وإلى خصوبة الأرض.وأكثر من هذا عليكم أن توجهوا أهمية خاصة لحركة المد والجزر في البحر الأحمر،والعلاقات بين الأحياء والأموات،وإلى تأثير تعدد الزوجات في زيادة ونقصان السكان،وإلى العلاقات بين الرجل والمرأة،وإلى عدد النساء في المدينة والريف.على الدكتور كرامر أن يولي اهتمامه بالأمراض الخاصة بالمناطق المزارة،وبالقيام بمكافحتها،وستكسبون ثقة العرب بمساعدة مرضاهم.11- على البروفيسور فون هافن أن يلاحظ تقاليد وعادات أهل البلاد،وخاصة تلك التي ألقى عليها القليل من الضوء الكتاب المقدس والقوانين اليهودية،وعليه أن يعمل ليكتشف بقدر الإمكان كل شيء عن العرب والإسرائيليين والسوريين،وأن يطلع على طقوس وعادت الوثنيين قبل الإسلام،ويسجل أي اختلافات يجدها عما جاء في التوراة المكتوبة باللغة القديمة،وعما جاء في المخطوطات اليونانية. وأية مخطوطات قديمة عربية أو شرقية لا يستطيع تفسيرها،عليه أن ينقلها طبق الأصل.12- على البروفيسور فورسكال أن يجمع المعلومات عن الحيوانات والنباتات وعلى الأخص تلك التي جاء ذكرها في التوراة.){69 - 71}. نختم هذا الحلقة،بتعليق المؤلف،على ما يتعلق باهتمام البعثة بالدين وهل كان فقط هدف البعثة(فتح آفاق جديدة للمعرفة وفي سبيل ترجمة أكثر صحة للكتاب المقدس؟) .. إنهم مهما أولوا الناحية الدينية من اهتمام،فإننا نستطيع أن نضعه جانبا،ذلك أن الدين قد استغل عبر التاريخ،بحجج تخفي وراءها مهام غريبة مستهجنة. وهناك أمر آخر يؤكد هذا،ذلك أن جميع الرسائل المتعلقة بالبعثة،لم تشر إلى الناحية الدينية مطلقا.){ص 74}.أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة في 3/2/1432هـ