لم نعد نجد نهج عبد الناصر وروحه
لا خوف من المستقبل على الرغم من الانهيار الكبير
ياسين الحافظ

------------
1
لقد كان عبد الناصر رجل فعل ولم يكن منظراً. لقد كان فعله، وهو فعل رجل تاريخي عميق الارتباط بالشعب، يتكشف عن خلفية من التصورات والمنظورات كانت تطابق الواقع من جهة، وتستشف بعض آفاق المستقبل من جهة أخرى. لقد كانت ممارسات عبد الناصر في جوانبها الأساسية، أقرب، موضوعياً، إلى (أو أقل بعداً عن) ماركسية ماركس ولينين من ماركسية تسعة أعشار من ينسبون أنفسهم إلى ماركس ولينين في وطننا العربي.
لقد كان عبد الناصر رجلاً قومياً ، وجاء ارتباطه بالجماهير ليعطي نزعته القومية طابعاً متطرفاً. إلا أن النزعة القومية، مهما بلغت من تطرف ، عاجزة عن أن توفر الحلول لمشاكل بلد متخلف في عصر الإمبريالية. ومن هنا كان تجاوز هذه النزعة جدلياً (أي تحقيقها وتجاوزها في آن) شرطاً لحل كل مشاكل الوطن العربي. ولقد كانت مسيرة عبد الناصر الفكرية عملية تجاوز مستمرة لهذه النزعة، في اتجاه أفق اشتراكي، كان فضفاضاً وعريضاً ، إلا أنه كان أكيداً وجدياً ، وفي حال تقدم دائم إلى أمام . إن هيكل، الذي يتولى الآن تحويل عبد الناصر إلى بطل رواية انتهت، قد اعترف في حديث له مع النهار، إذا لم تخني الذاكرة، بأن عبد الناصر كان يفكر بـ " ثورة ثقافية " في النظام بعد الانتهاء من تصفية آثار العدوان.
عندما تسألني عن إضافة أو مساهمة ناصرية في الفكر السياسي العربي، يحق لي أن أسأل بدوري : أين هي مساهمة مَن افترضت فيهم أو نسبت إليهم المساهمة؟ الفكر القومي (البعث مثلاً) باستثناء تأكيده الصائب على فكرة الوحدة العربية، كان فكراً مثالياً شرقياً متثائباً يكرر نفسه ويحلبها في انفصام عن الواقع التفصيلي الحياتي المنظور. أما الفكر الماركسي العربي، سواء أكان التقليدي أم المستحدث، فقد كان، بدغمائية، فكراً شرقياً كسولاً مقلوباً على رأسه. لقد كان، لنفاد صبر أو لسطحية، يخرج الواقع من رأسه ولا يخرج رأسه من الواقع . وكثيراً ما أتذكر، عند قراءة نص ماركسي عربي، قولاً للينين: المثالية الذكية أقرب إلى المادية الديالكتية من المادية الغبية.

2

تجريبية الناصرية
لا شك في أن عبد الناصر كان تجريبياً . لكن تجريبيته هذه، بسبب الطابع التاريخي لشخصية عبد الناصر وارتباطه العميق بالشعب، كانت تنمو إلى وعي مطابق، إلى "ماركسية موضوعية"، بحسب تعبير موفق لعبد الله العروي . هذه التجريبية بالذات كانت أعلى بكثير وكثير من الفكر القومي المثالي، ومن الماركسية الدوغمائية العربية. وبهذا وحده يمكننا تفسير تفوّق عبد الناصر على بقية أطر اليسار، اليسار القومي العربي واليسار الماركسي العربي.
ومن هنا فإن التراث الثوري العربي الوحيد، العظيم والقاصر في الوقت نفسه، هو تراث عبد الناصر. من هذا التراث، من تمثله ديالكتياً، أي استيعاب كل عناصره الإيجابية ونقدها وتجاوزها، ستستمد النظرية الثورية الغربية عناصر جوهرية، لكي تنضجها وتصوغها وفقاً لمعطيات الواقع العربي ومتطلباته. لا يمكن حركة ثورية، تريد لنفسها أن تصبح حركة جماهير، وليس مجرد عصب وحلقات معزولة، إلا أن تتخذ موقفاً إيجابياً من كل ما هو خصب وثمين وإيجابي في هذا التراث العظيم، تستوعبه وتتجاوزه لصياغة نظرية تكون، بحسب تعبير الشيوعيين الصينيين، ماركسية تماماً مثلما هي عربية تماماً.
قلت في بداية حديثي إن عبد الناصر كان رجل فعل ولم يكن منظراً. ومع ذلك ، إذا كان لا بد من الحديث عن المساهمة المميزة للناصرية في الفكر السياسي العربي، يمكن من خلال تنظير شذرات كتاباته وخطاباته ومجموع أفعاله أن نقف عند الإضافات المهمة التالية :
الناصرية والبعث
لقد أدرك عبد الناصر، وحده تقريباً ، آلية الهيمنة الإمبريالية والخصوصية المميزة لعمل هذه الآلية في الوطن العربي. قد يعترض على قولي هذا قارئ أو آخر. والحق، إن الفكرة دقيقة. ولنحاول إيضاحها بمقارنة نظرة عبد الناصر بنظرة كل من البعث أو الأحزاب الشيوعية العربية.
البعث، بسبب عقيدته القومية الخالصة تقريباً، كان يرى السيطرة الإمبريالية مجرد سيطرة أمة أو أمم غريبة على الأمة العربية. كانت هذه السيطرة كابوساً على الأمة، يجرح كرامتها ويسحقها ويستغلها. هذا كله صحيح، لكنه ضرب من إدراك إجمالي تقريبي غامض، كإدراك الأطفال، لحقيقة وآلية السيطرة الإمبريالية، التي تجد مرتكزاتها في البنية الطبقية للمجتمع العربي ( للطبقات الضالعة مع الإمبريالية) وفي البنية الاقتصادية (التخلف العربي) وفي البنية المفتتة لكيان الأمة (التجزئة). سيرد بعضهم : ولو! لقد خاض البعث، في سوريا خاصة، صراعاً ضد الرجعية، ونادى بالاشتراكية وناضل في سبيل الوحدة. هذا صحيح لكنه رد مبسط ، ولا ينقض قولنا إن البعث لم يفهم آلية الهيمنة الإمبريالية وجوهرها المميز في الوطن العربي .
لقد كانت الوحدة، بالنسبة إلى البعث، مثالاً وفكرة ينبغي أن تتجسد . الوحدة عودة الأمة إلى الوضع السوي. وما عدا ذلك كان مضافاً . إن مصطلح "الشعب " و"الجماهير" مصطلح وافد إلى البعث الرجعي. لم يكن طبقة بالمعنى الحقيقي، بل مجموعة أفراد فاسدين . وصراعه معهم كان صراعاً سياسياً من حيث الأساس، لذا فإن أكرم الحوراني، على الرغم من أنه أول من طرح مشكلة الفلاح في المشرق العربي وقاتل مع الفلاحين (وهذه نقطة مضيئة في تاريخه)، إلا أن طرحه للمشكلة وهو الإقطاعي الصغير (أكبر من كولاك وأصغر من إقطاعي، لكن دعامته الأساسية كانت كولاكية)، كان إصلاحياً جداً، إلى درجة أنه أسكت أصواتاً بعثية كانت تطالب، قبل عام 1958، بطرح شعار الإصلاح الزراعي. (أما عفلق والبيطار فلم يكن يخطر لهما على بال، جدياً). أما الاشتراكية، حتى في ممهداتها الأولية كمواجهة مع الكومبرادور والبرجوازية، فلم تكن تخطر للبعث ببال. أما ما نفذه البعث بعد عام 1963 في سوريا من إصلاح زراعي أو تأميمات، فكان بمثابة فتح باب مفتوح.
في نظر البعث، المطلوب هو الوحدة القومية العربية (هذه رأسماله، ورأسماله الثمين تاريخياً والذي جعله يتفوق على الأحزاب الشيوعية ويبقى في نهر الشعب الكبير). وهذه الوحدة مطلوبة، أساساً، كتجسيد لفكرة خالدة مطلقة. أما الاشتراكية، كما يتصورها البعث، فتأتي كإضافة تجمل الوحدة القومية. عندما رأى البعث أن هذه الفكرة تجسدت في وحدة يقودها عبد الناصر ركض وراءها. وعندما رأى أن هذه الفكرة انخلعت عن عبد الناصر ووحدته، ازورّ عنها. ولو ملك البعث إدراكاً ما لآلية السيطرة الإمبريالية، ومرتكزها الأساسي، التجزئة، لبقي مع الوحدة في صيغتها الوحيدة الممكنة، وأعني الصيغة الناصرية.
وإذا كانت المسألة الاجتماعية، في نظر البعث، شيئاً مضافاً إلى الوحدة القومية، فمن نافلة القول إن مسألة ترابط الثورتين، التي تشكل موضوعة رئيسية في فكر عبد الناصر، كانت بعيدة عن منظوراته.
3

الناصرية : القومية الاشتراكية
* ما هي، في ضوء المعطيات الراهنة، آفاق الناصرية؟ وهل يمكن الحديث عن ناصرية بلا ناصر؟ وما هي التيارات التي تتفاعل أو تصطرع داخلها؟
- لكي أجيب عن الفقرة الأولى من السؤال، لا بد من الإجابة عن الفقرة الثانية أولاً . الناصرية ليست شيئاً آخر سوى الحركة القومية العربية، المتحولة إلى حركة اشتراكية، في نضالها التاريخي الطويل في سبيل النهضة العربية والوحدة العربية. ومن هنا، فإن مستقبل الحركة الناصرية هو مستقبل الحركة القومية العربية بالذات، ومن هنا أيضاً أن ثمة ناصرية من دون ناصر وبعد ناصر.
لا شك في أن غياب القائد، بثقله وتاريخيته، سيؤثر في الناصرية، سلبياً، على المدى القريب، خاصة لأن القيادات المحلية الناصرية بشكل عام، وفي ما عدا القطر السوري إلى حد ما وجزئياً، تقف على يمين عبد الناصر من جهة، كما أن وعيها أقل نمواً من وعي عبد الناصر. فإذا أضفنا إلى ذلك كون التنظيم الناصري لا يزال سديمياً إلى حد ما، وأن العقيدة السائدة لدى الجماهير دون مستوى الميثاق، ندرك عندئذ الصعوبات التي ستعانيها الحركة الناصرية على المدى القريب.
أما على المدى التاريخي أو على المدى المتوسط ، فإنني لست بالمتشائم، بل على النقيض من ذلك. فالجماهير الناصرية جماهير تغيير متطرف، وإن لم تكن واعية لتفاصيل هذا التغيير. كما أن المشاكل العربية تزداد إلحاحاً وتعقيداً . إن تراث عبد الناصر، الذي ستجري محاولات محمومة لتزييفه وإفراغه من محتواه الثوري ، سيكون عنصراً إيجابياً ثميناً في استئناف النهوض الثوري ومساعدة الجماهير في النهوض من جديد.
وبصرف النظر عن الاسم والإطار اللذين ستأخذهما حركة الجماهير النامية في المستقبل، فإن التراث والتقليد الناصريين لا بد وأن يشكلا مرتكزاً أساسياً من مرتكزات هذه الحركة. إن حركة الجماهير الجديدة، عندما تكون حركة جماهير فعلية، لا يمكنها إلا أن تنطلق من النقطة التي وصل إليها عبد الناصر، تنطلق من هذه النقطة، مستوعبة كل الإرث الناصري ، لتتجاوزه إلى وعي يناسب ويرتفع إلى مستوى المرحلة التي تعيشها.
إن المنطلق القومي لمسيرة عبد الناصر، وفي هذا المنطلق تكمن جوانب قوتها وضعفها في آن معاً ، جعل الحركة الناصرية حركة شعب عريضة غير متجانسة طبقياً ، تجد فيها أفراداً من بقايا الإقطاع بل أمراء، ونجد فيها أيضاً كتلاً كثيفة من الفلاحين والعمال. ومن الطبيعي، بعد أن يغيب القائد والمعلم والحكم، أن تبرز التناقضات في ما بينها. ولكن لا خوف على هذه الحركة ككل لأن صلبها هو حركة جماهيرشعبية.
سيسعى اليمين الناصري إلى تقديم صورة سكونية للتراث الناصري، وسيجزئه ويقطعه، في محاولة لتصوير النقطة التي سقط فيها عبد الناصر كنهاية مطاف التطور الثوري، نازعاً هكذا ديناميتها. أما حركة الجماهير الشعبية فستحافظ على دينامية الناصرية وعلى كليتها، جاعلة منها نقطة انطلاق متجدد لصياغة نظرية قادرة على شحذ فعالية الجماهير وتأطير وعي مطابق وشمولي لمستقبل الثورة العربية. لقد بدأت الثورة العربية الحديثة مع عبد الناصر، وإن إكمالها سينطلق من النقطة التي وصل إليها وقضى شهيداً.
لا خوف من المستقبل، على الرغم من ارتسامات الانهيار الكبير والليل الزاحف.
………………..
نشرت في : النهار، 1/ 10/ 1971