عرس وردة


كان السكون يعمّ المكان وقد خرج البستان من صمته المعتاد .
تجمّل وارتدى حلّته الخضراء فاصطفت الأشجار الواحدة تلو الأخرى احتراما له

حطّت العصافير الصغيرة الملوّنة على كف المساء
وهرولت الأسماك من أحواضها حتى لا يفوتها عرس الوردة هذه الليلة,

قالت الوردة :

أنا من أحيا أعراسه ووهب اللّؤلؤ لعينيه

في حمرتي، ماءٌ و ترانيمُ وقصائدُ تفيض أقحوانا

أنا أميرة العبير خذلتني الأقنعة الملوّنة فمات الربيع على جذعي.

كيف أرقص الآن على سلّم العشاق؟

و أعبر بضفافي إلى جهة الشمس؟

ضحك البستان و أغلق على نفسه نافذة الهواء الوحيدة التي تتنفس منها الوردةُ. كان يعرف أن الموت سيغمرها و أنّها ستنتهي تحت أقدام الصدمة.

كاذبة هي مرايا الأمكنة التي مازالتْ تمنح للذاكرة شذى غريبا قريبا إلى القلب.

تلك المرايا ، مازالتْ تدوّن" أوراقـًا مسافرةً" في سجلّ العابرين.

قال البستان وقد تقاطر حسنا وصوتا من برجه العالي مزهوّا بصولاته وجولاته في عالم رقميّ :

متى تدركين أيّتها الفوّاحة أنّك مثل آلاف الأزهار المنتشرة على الشبكة، الذابلة واليانعة ، الحقيقيّة والمزيّفة ، الوليدة والعجوز ؟

اغربي عنّا أيّتها الوردة الجميلة، كفّي عن العطاء والسعادة التي تهبينها للجميع فنحن لا نحتاج كلّ هذا، فالعالم الرقميّ لوحةٌ مزيّفةٌ.
لملمت الوردة بعض عبيرها المتساقط حولها وصعدت لأوّل مرّة منبر البستان لتعبّر عن غضبها بعد صمت طويل في ثانية أو ثانيتين.

انقلب الطقس وزمجر البستان وأرعد واعتبرها جريمة لا تغتفر فداس على رقّة الوردةِ غير مبال بصراخ أوراقها الشفافة ألما وحزنا.

اعتصر رحيقها بيده الغليظة بلا رحمة وتناسى في خضمّ غضبه كم توّجته تلك الوردةُ بالمحبّة والحنان والاحتواء... كم عانت من الغربان وسواد قلوبها من أجل أن يظلّ اسم البستان يرفرف عاليا.

كانت تحتفظ بنبراته في كيس ملوّن تفوح منه رائحة زكيّة كلّما حرّكته قليلا ، تعبق الأرجاء وتعرّش قصائده فوق أعشاش الطيور فتضيء أعمدة الشبكة ويحطّ الحمام على كفّيها.

لم ترض أن يحتلّ الغرباء باحة قصره وكان لابدّ من أغانيه كي يفوح ليمونا و أكليلا

و زعترا بريّا .

كثيرا ما كانت تهمس في غيابه:

هذه دموعي سنابل سوف تكبر في المدى و هذه لهفتي عصافير ملوّنة تنتظرك عند اللقاء.

غير أن البستان، صعد عاليا تاركا الوردة تطوي وحدها حقائب الجمال المحتضر، تتنفّس بصعوبة و النافذة تزداد انغلاقا.

. ((الأهداء إلى امرأة نثرت لآلئ الكلمات في قلوب تواقة للحرف الجميل فأينعت إبداعا))

النص النقدي
الموضوع نص عرس وردة
الكاتبة سليمى السرايري


قد يختلف تقييمي وفهمي للنص عن تقييم بقية الأخوة فقد وجدت فيه عمقا ورؤيا أعمق بكثير من بعض التحليلات التي جاءت دون أن تغوص في المكنونات القصدية التي أوحت بها الكاتبة ، وغوري في أعماق النص جاء عبر قراءة الواقع الذي يعيشه العرب بصورة عامة وتونس بشكل خاص ، فما جاء بهذا النص ترجمة لهذا الواقع ، وما شابه من تداعيات وهو مقالة مشفرة يراد أن تفك رموزها، وتحريرها من تشفيرها
فالكاتبة عميقة ومرهفة الحس وما تمور به الساحة من أحداث ، قد ترك أثره عليها ، فجاء عملها ليكشف لنا عن عمق معاناتها الداخلية واضطرابها النفسي بحيث يبقى يدور في خاطرها سؤالا
إلى أين نحن متجهون ...؟
وربما هو ذات السؤال الذي يدور في عقول الكثير من شعوب الدول التي قامت بها ثورات الربيع العربي .
النص
النص يعتمد على التوظيف الدقيق لكل عناصر البناء من حالة تأملية ، وملاحظات ، وتذكر ، وبناء وتركيب للصورة المرسومة ، عبر سيناريو وحوار يدور بين رمزين
فهي تحرك الجماد والنبات لتحوله إلى مادة حية ،تؤنسنه ،و تجعله أنموذجا للإنسان الممتلئ بالأحاسيس والمشاعر ،
لسان حال الواقع تنطلق من مواصفات العناصر الرمزية الطبيعية لتحيلها إلى أشكال إنسانية تتكلم بلغة تخاطبية ، قابلة للتأويل عبر سلسلة متواصلة من سجال سرد شاعري ، فالبستان رمزا للسلطة التي أتت بها الثورة ، وهو نتاج الربيع الجميل الذي أتى يحمل عبق أمال دغدغت عقول البسطاء من الشعب بكل أطيافه ، فاصطفت كل أشجار البستان احتراما له ،فهو الكل الذي أحتوى كل الأجزاء والمكونات مهما صغرت وانصهرت في بوتقته ،
وحتى العصافير أتت ، والأسماك قد خرجت مهرولة ،وهو تصوير سريالي حاذق ، ليعمق في داخلنا تصوير لمشاعر الفرح التي ارتأت الكاتبة أن تعطيها هذا الحجم وما يحيط به من هالات ، بهذه الرمزية الغرائبية،
لتظيف مدلولا آخر هو أن الخارجون لعرس الوردة لم يكونوا بنفس درجة الوعي والأيمان بذلك العرس ، ربما خرجوا لرؤية كرنفالا ، وبهرج من الألوان ، فالكثير عادة ميالا للتغيير أي كان شكل هذا التغيير ، حتى لو جاء بالضد من تطلعاته وأمانيه ، مادام يحقق أهدافا آنية ، فهو يرسم مستقبله على أساس عاطفي ويسلم زمام أموره بأياد قد لا تكون أمينة دون دراسات مسبقة وفهم عميق ، وهذا ما رأيناه في الكثير من القوى التي كانت مؤثرة في الثورة ثم ابتعدت عنها بمحض إراداتها أو إنها كانت مجبرة على ذلك ، تلك القوى التي قادت الربيع إلى ربوع الوطن ، وهي صاحبة المصلحة الحقيقية بهذا التغيير لكنها لم تحقق أي أهدافا ذاتية ، لأنها لم ترسم أهدافا استرتيجية بعيدة المدى فقدر لها أن تكون عود الثقاب الذي يشتعل مرة واحدة ، كان هدفها التغيير فقط ، لتتسلق قوى أخرى ، البعض منها كان نفعيا وانتهازيا ، والبعض كان الشارع هو من منحه القوة بفعل انجذاب الجماهير للبديل المنقذ الذي بني على أسس عاطفية وتصورات غير مدروسة .
يبدأ النص باستعراض للبستان الذي اكتسى بحلتة الخضراء، ليحضر عرسا مزعوما للوردة ، فبعدما كان الصمت يلف المنطقة وهو تعبير دقيق وترميز لحالة الخنوع والذل والهوان الذي كانت تعيشه الشعوب
فتنتفض هذه الشعوب بثورات تطيح برموز الظلم والجور،
وبداية وقبل الدخول إلى عمق النص فالبستان والربيع
والأسماك والعصافير والوردة و كرنفال الفرح ، … هي مقدمة تمهيدية للولوج
إلى النص
والنص مكون من رمزين أساسيين يشكلان بمجموعهما الخطاب الذي أرادت أن تقوله الكاتبة من خلال هذا النص ، وهو يعكس رؤيتها السياسية والتفسيرية لما حدث وما سيحدث (
عرس الوردة هذه الليلة ) لتكون الوردة هي بطلة النص ، والسارد الثاني فيه ، والتي جاءت بداية حديثها وكأنها حالة عتاب أو لوم للبستان أو ( السلطة)التي قامت بعد التغيير
حيث كانت تؤكد باليقين إنها هي التي كست الربيع حلته
أنا من أحيا أعراسه ووهب اللّؤلؤ لعينيه
في حمرتي، ماءٌ و ترانيمُ وقصائدُ تفيض أقحوانا
أنا أميرة العبير خذلتني الأقنعة الملوّنة فمات الربيع على جذعي.

أذن
هناك اعتراف ضمني إنها من قامت بكل هذا التغيير ، وهي التي منحت الثورة جمالها ورونقها ، بعدما انخدعت ببريق زائف
وخذلتها الشعارات البراقة ، فهذا العطاء السخي الذي أعطته دون مقابل ، وهي لم ترغب بمثل هذا المقابل ، لأنها عملت بنكران ذات وإيثار و بقت رغباتها بعد التغيير مجر د أماني وتساؤلات
كيف أرقص الآن على سلم العشاق ..؟
وأعبر بضفافي إلى جهة الشمس ..؟

نعم هي تواقة للحرية تواقة لأن يغمرها شعاع الشمس ، ولأنها أول من ضحت وهي التي أحيت تلك الأعراس لذا لابد أن تجني ثمار هذه التضحيات وهذا البذل والعطاء ، لكن البستان يرفض ، فأولئك الذين تسللوا إلى القيادة وسلطة القرار ، سدوا عليها كل المنافذ وخنقوها ، لأن الحقيقة قد تكشف الزيف الكامن فيهم فدوافعهم التي جاء ت بهم غير ما هي معلنة ، لذا أرادوا وأد هذه الحقيقة قبل أن تصبح ثورة تصحيح في داخل ثورة وهذا بالفعل ما يحدث في تونس الآن فهناك دعوات لتصحيح مسار الثورة ،هذه الدعوات اعتبروها جرائم لذا أغلق البستان النافذة الوحيدة التي تتنفس منها الوردة ، فإن لم تختنق تموت من الصدمة ،
انقلب الطقس وزمجر البستان وأرعد واعتبرها جريمة لا تغتفر فداس على رقّة الوردةِ غير مبال بصراخ أوراقها الشفافة ألما وحزنا.

هكذا كان الحكم على الوردة على من قاموا بهذا التغيير ، تلك القوى التي لم تضع في حسابها أن كل شيء سيسرق منها ، وحتى فرحتها بالانتـصار ما كان لها أن تدوم ، لأن اللصوص والانتهازيون والمنتفعون يقفون لها بالمرصاد
، يعترف البستان بأن الوردة ما كانت ولن تكون إلا محطة في حيا ة الثورة ، وأن ما قدمت من تضحيات لن تحسب لها
، وإنما تحسب لهم ، فهي ما كانت ولن تكون إلا سلما لارتقاء الغير
متى تدركين أيّتها الفوّاحة أنّك مثل آلاف الأزهار المنتشرة على الشبكة، الذابلة واليانعة ، الحقيقيّة والمزيّفة ، الوليدة والعجوز ؟
وأن ما دونته في العالم الرقمي وهي إشارة لما كان للإنترنيت من دور كبير في استنهاض الهمم وتكوين البذرة الأولى لتلك الثورة قد لا يعطيها الشرعية بأن تكون شريكا في العملية السياسية ، أذن هناك عملية خنق وإجهاض لكل من يريد أن يقول الحقيقة أو يأخذ حقه الشرعي ، فالشرعية وهم من الأوهام ، وتبقى الشرعية والغلبة لمن يثبت نفسه على الساحة قويا مقتدرا بنفوذه وسلطته وأساليبه،
بكل غرور وصلف يؤكد البستان هذه الحقائق الجديدة التي لم تكن بحساب الوردة التي اعتصرتها الآلام لما آلت إليه الأمور ، بعد أن أكد البستان إنها رقم من آلاف الأرقام التي فجرت هذا الربيع أولئك الشباب الذين ضحوا بحياتهم وبذلوا الدماء رخيصة في سبيل عزة الوطن وكرامته وإيجاد حكما ديمقراطيا عادلا و بديلا للحكم الشمولي الجائر ، والإصرار على المضي قدما ، في وضع حدا للتدهور والنهب الاقتصادي والمالي ،
فمن أوقد لهيب الثورة وأشعل فتيلها ، هؤلاء الجنود المجهولين والذين حشدوا طاقاتهم الخلاقة والمبدعة ، وعملوا أناء الليل والنهار بلا كلل ولا ملل ، يخرج بلا امتيازات وبكل جحود يقولون لهم ،
(أنتم قد أديتم ما عليكم ولسنا بحاجة إليكم بعد ذلك ، وإن ادعاءكم بأنكم أنتم من قمتم بهذه الثورة هو وهما تتوهمون به ، و ما العالم الرقمي الذي تدعونه إلا وهما آخر وهو انقلاب على الحقائق )
اغربي عنّا أيّتها الوردة الجميلة، كفّي عن العطاء والسعادة التي تهبينها للجميع فنحن لا نحتاج كلّ هذا، فالعالم الرقميّ لوحةٌ مزيّفةٌ.
يتناسى البستان ما للوردة من دور ، ويتنكر للأهداف والمبادئ التي جاءت بها ومن أجلها الثورة ، فالخير والعطاء والحب لم يعد إلا دعاية للتسويق وقد راح وقتها ، الآن هناك مهام أخر أكثر أهمية وهي تحقيق المنافع الشخصية ، لذا فيتم اعتصار تلك الوردة ورحيقها ومحاولة تشويه معالمها ليحيلوها بلا عطر ولا جمال يشوهوا منظرها ،
احتفظت تلك الوردة بصوت الثورة ، جميلا له طعما خاصا لازال ينبض بالحياة في أروقت ألنت ولازالت تلك القصائد التي تغنت بالثورة تحمل عبق هذه الثورة وأريجها ، فالوردة لم ترد للغربان أن يعششوا في أرض البستان ، بل أرادتها أن تكون نقية صافية ثورة من أجل الفقراء من أجل إيصال صوت
محمد بوعزيزية الذي قام بإضرام النار بنفسه إحتجاجاً علي أوضاع تونس المتردية

مما دفع المواطنين للخروج إلي الشارع في ثورة شعبية عارمة هدت أركان الظلم ، وبعد السقوط هل هناك وفاء لمبادئ هذه الثورة يبقى الجواب حائرا ، فبين الأمس واليوم يبقى الغد لغزا عصيا ، فكشف ما مخبئ لنا مرهونا بقادم الأيام ،

الدموع التي سقطت ن والندم الذي عشش في القلوب ، إلا بداية لثورة أخرى سنابل ستكبر وستتفرع وستنمو من جديد رغم محاولات البستان غير بغلق كل النوافذ ، وإجهاض كل محاولة للتغيير



أن البستان، صعد عاليا تاركا الوردة تطوي وحدها حقائب الجمال المحتضر، تتنفّس بصعوبة و النافذة تزداد انغلاقا
بهذه الخاتمة تنهي الكاتبة نصها ، وقبل الأفاقة ، من متابعة النص ترتسم في أذهاننا قراءات عدة عن مغزى وفحوى هذا النص ..؟وما كانت ترمي إليه..؟ وماهي الرسالة التي تريد أن ترسلها الكاتبة ..؟،وما تقصده عبر هذه التكوينات الرمزية ..؟، والتي حملته أكثر من قراءة وأكثر من تفسير ليكون نصا قابلا لتأويلات تعدة
ولكني وجدت أن النص قد سار بهذا المسار الذي سبق وأن حللته ، لأن الكثير من الكلمات كانت توحي بذلك ، وليس أكثر دلالة من قول الوردة إن الربيع مات على جذعها فهو إشارة واضحة بان ما عنته هو ربيع هذه الثورات ،
كان النص رائعا راقيا لغة وسبكا وجمالا ، حيث جاء متكاملا ، غنيا ومكتنزا
بمفاهيمه العميقة ومضمونه الكبير ، وقد خلقت سليمى نصا ينطلق من همها الخاص ليعانق هما عاما يراود الجميع ، وتساؤلات شتى تطفو على سطح روحها ، حيث شيد ت جسورا من الإضاءات حول موضوع في غاية الحساسية والأهمية ، ولكنه جاء بأسلوب شاعري عذب ورقيق