بيرس ونظام الشرق الأوسط الجديد
د.غازي حسين
يقوم التصور (الإسرائيلي) للنظام الإقليمي الشرق أوسطي على القيام بدور مركزي قائد فيه وممارسة الدور المسيطر في الميادين الاقتصادية والسياسية والعسكرية، والقضاء الكلي على المقاطعة العربية، وإنهاء عزلة الكيان الصهيوني في المنطقة الناتجة عن المقاطعة ومعارضة التطبيع.
ويخطط الكيان الصهيوني للتغلغل في نسيج جميع البلدان العربية والعبور منها إلى دول الجوار لحل جميع أزماته الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والنفسية، لزيادة الهجرة والوصول إلى إقامة (إسرائيل) العظمى. وبالتالي يشكل النظام الإقليمي للشرق الأوسط الجديد الإطار لفرص الهيمنة الأمريكية والصهيونية على الوطن العربي وإنهاء الصراع العربي - الصهيوني والقضاء على رواسبه النفسية والسياسية والاجتماعية. وهكذا تتخلّص (إسرائيل) من معظم أزماتها المزمنة وتحقق الاستقلال الاقتصادي والتحرر من المساعدات الأمريكية والأوروبية، وتتحول من دور الوكيل الاستعماري إلى دور الشريك في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية في المنطقة.
وضع شمعون بيرس مخططات حزب العمل "الشرق أوسطية" في كتاب صدر في نهاية عام 1993 بالإنكليزية تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد" وطالب بنسيان الماضي، ووضع نهاية للصراع العربي (الإسرائيلي)، وبناء شرق أوسط جديد وسوق شرق أوسطية، وإنشاء كونفدرالية (إسرائيلية) - أردنية - فلسطينية.
ويتكون الكتاب من أربعة عشر فصلاً بألفاظ وعبارات وكلمات مخادعة عن السلام والمصالح المشتركة لتسويق المطامع والمخططات (الإسرائيلية) في الوطن العربي وفرض هيمنة (إسرائيل) الاقتصادية عليه ويتألف المشروع من شقين:
الأول اقتصادي والثاني أمني.
ويهدف الاقتصادي إلى دعم العامل الأمني عبر تشابك المصالح، ويهدف الأمني إلى المحافظة على تفوق (إسرائيل) العسكري.
يتحدث بيريس في الفصل الأول عن فجر السلام الذي بزغ في أوسلو ويقول:
"فرحتي في أوسلو كانت مزدوجة، فقد تصادف تلك الليلة أيضاً عيد ميلادي السبعين، وقتها قال لي أبو علاء، وهو يبتسم بجدارة: الاتفاقية هي هديتنا لك في عيد ميلادك، قلت في نفسي يا لها من هدية، هدية متميزة وغير متوقعة بل من المستحيل تقييمها".
ويؤكد بيريس أن (إسرائيل) حصلت في اتفاق أوسلو على تنازلات أمنية، وأبقت قضية القدس و (المستوطنات) خارج بنود اتفاق الحكم الذاتي المحدود.
ويتحدث الفصل الثاني من الكتاب عن ازدياد التهديد الأصولي خطورة في الفترة الأخيرة بامتلاك إيران القدرة النووية ويقول: ".. وخطورة وجود سلاح نووي في أيدي متعصبين دينيين لا يشكل خطورة على جيرانهم فحسب بل إنها تمتد لتشمل العالم بأسره، إن الخلط القاتل بين الأصولية الدينية والصواريخ والأسلحة غير التقليدية إنما يهدد السلام العالمي".
ومن المعروف أن (إسرائيل) لا تمتلك أسلحة الدمار الشامل النووية فحسب وإنما أيضاً الكيماوية والبيولوجية، وتمتلك أكثر من 200 رأس نووي، وترفض إخضاع منشآتها النووية لأي تفتيش أو رقابة دولية، وترفض وضعها تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما ترفض التوقيع على اتفاقية حظر انتشار السلاح النووي في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وهي مدججة بالسلاح التقليدي وغير التقليدي، وتشعل الحروب العدوانية وتحتل الأراضي العربية وتمارس الاحتلال والضم والتهويد، والاستيطان والعنصرية والإرهاب كسياسية رسمية.
ويتناول بيرس في الفصل الرابع النظام الإقليمي ويريد من السلام بين (إسرائيل) والعرب أن يخلق البيئة الملائمة لإعادة تنظيم مؤسسات الشرق الأوسط بصورة أساسية ويقول: "هدفنا النهائي هو خلق أسرة إقليمية من الأمم، ذات سوق مشتركة، وهيئات مركزية مختارة، على غرار الجماعة الأوروبية، وأن الحاجة إلى هذا الإطار الإقليمي تقوم على أربعة عوامل جوهرية:
1- الاستقرار السياسي: إن الأصولية تشق طريقها سريعاً وعميقاً في كل بلد عربي في الشرق الأوسط مهددة بذلك السلام الإقليمي، ناهيك عن استقرار حكومات بعينها..
2- الاقتصاد: إن إنشاء منظمة تعاون إقليمية تتحرك على قاعدة فوق قومية هي الرد بل الرد الوحيد على الأصولية.
3- الأمن القومي: إن السبيل الوحيد لضمان مستوى معقول من الأمن القومي في هذا العصر، عصر الصواريخ أرض - أرض والقدرات النووية، هو إقامة نظام إقليمي للرقابة والرصد..
4- إشاعة الديموقراطية: وليست الديموقراطية مجرد عملية تضمن الحرية الشخصية والمدنية، بل هي أيضاً هيئة رقابية تحرص على السلام وتعمل على تبديد العوامل الكامنة وراء التحريض الأصولي .
ويتناول بيريس في الفصل السابع موضوع مصادر الاستثمار والتمويل والحاجة إلى استثمارات دولية كبيرة لإقامة الشرق الأوسط الجديد، ويعترف أن السبب الرئيسي في توجهه الجديد هو الصعوبات الاقتصادية التي تعانيها الولايات المتحدة، مما يقلل من إمكانياتها في تقديم المساعدات المالية (لإسرائيل) ويقول: "تواجه الولايات المتحدة الآن متاعب اقتصادية جمة، الأمر الذي يجعل قابليتها لتقديم العون المالي المباشر تتناقص بصورة واضحة، وإنها لم تعد قادرة على الإسهام مالياً".
ويؤكد بيريس أن أمريكا لم تعد قادرة على الاستمرار في تقديم المساعدات المالية الضخمة (لإسرائيل) ويضرب على وتر المصالح الأمريكية والأوروبية في المنطقة ويشجعهم على الاهتمام فيها لخدمة مصالحهم الاقتصادية والسياسية ويقول إن للأمم المتقدمة في العالم مصالح سياسية واقتصادية كبيرة في الشرق الأوسط وإن للسوق الأوروبية مصالح قديمة في المنطقة. ويتناول حديثه مع المستشار الألماني هيلموت كول السابق حيث اقترح عليه تقليص البطالة الألمانية عن طريق إيجاد تنمية أسواق جديدة في الشرق الأوسط، وبالتالي تساهم ألمانيا مع أوروبا في حل مشكلاتها الخاصة وتساعد الشرق الأوسط الجديد.
وطالب بإقامة بنك في الشرق الأوسط يديره أشخاص من المنطقة، وتطرق إلى رأس مال البنك وقال: "يمكن تقسيم رأس المال إلا ثلاث فئات: الأولى أموال سيتم جمعها من المنطقة نفسها, والفئة الثانية من رأس المال ستكون من مساهمة الشركات الدولية الكبيرة. والفئة الثالثة هي المعونة المباشرة التي يمكن أن تأخذ طريقها إلى السكان المعوزين، مثل أهالي قطاع غزة".
ويقصد بذلك من أموال دول النفط وأموال من تخصيص نفقات التسلح ومصادر خارجية.
ويتناول في الفصل الثامن تحت عنوان الحزام الأخضر المشروعات التي يجري تخطيطها في (إسرائيل) للزراعة الصحراوية وتطوير تكنولوجيا الزراعة وتحلية المياه ومقاومة التصحر وتربية الحيوانات ويقول: "ألسنا بحاجة إلى الانتظار إلى أن يحل السلام رسمياً، من أجل الشروع في شراكتنا التكنولوجية. نحن نقوم فعلاً بإدارة مشاريع تعاونية مع الأقطار الصديقة التي لنا علاقات ديبلوماسية كاملة معها، مثل مصر". ويمضي ويقول "إن العمل من أجل صبغ الشرق الأوسط باللون الأخضر، هو الوسيلة لضمان الغذاء الكافي، الهواء النقي، بيئة منصفة متحررة من الخوف والقمع".
ويحدد في الفصل التاسع تحت عنوان المياه أربعة عوامل لافتقار المنطقة إلى المياه وهي "الظواهر الطبيعية, والزيادة السريعة في عدد السكان، والاستغلال الخاطئ, والسياسة التي تفتقر إلى الترشيد المطلوب"، ويتحدث عن كيف أن المياه كانت سبباً لنشوب العديد من الحروب.
والمياه في الشرق الأوسط هي ملك للمنطقة، ولعل المياه أكثر من أي قضية أخرى تعتبر دليلاً على مدى الحاجة لإقامة نظام إقليمي. ويتطرق إلى مشروع المياه التركي وتحلية المياه.
ويتناول في الفصل العاشر "البنية التحتية للنقل والمواصلات" ويقول: "إن بناء الطرق، وتمديد خطوط السكك الحديدية وتحديد المسارات الجوية وربط شبكات النقل وتحديث وسائل الاتصالات وتوفير النفط والماء في كل مكان وإنتاج البضائع والخدمات عن طريق الكمبيوتر، سوف يفتح حياة جديدة في الشرق الأوسط".
ويتطرق إلى خط سكة حديد الحجاز وشحن البضائع من ميناء حيفا إلى الأردن وسوريا، وبناء ثلاث شبكات من الطرق السريعة وإحداها تخترق الشرق الأوسط من شمال إفريقيا إلى أوروبا، وإقامة مناطق تجارية حرة بمحاذاة موانئ البحر المتوسط والبحر الميت، وقناة البحرين من البحر الأحمر إلى البحر الميت.
ويتطرق في الفصل الحادي عشر إلى تطوير السياحة، ويقول إن فتح الحدود وحده سيساعد في إحياء النشاط السياحي بين دول الشرق الأوسط، وقد يكون المكسب الرئيسي في تعاظم عدد السياح الأجانب.
ويركز على الأموال الهائلة التي يمكن الحصول عليها من جراء تطوير السياحة الإقليمية.
ويتناول في الفصل الثاني عشر موضوع الكونفدرالية الفلسطينية - الأردنية، وترتيب إقامة اتحاد أردني - فلسطيني (إسرائيلي)، وإبقاء القدس تحت السيطرة (الإسرائيلية).
ويتناول في الفصل الرابع عشر والأخير مشكلة اللاجئين ويرفض حقهم في العودة إلى وطنهم فلسطين لأن العودة برأيه: "ستمسح الوجه القومي لدولة إسرائيل محولة الأغلبية اليهودية إلى أقلية، وبالتالي فليست هناك أية فرصة لقبولها سواء الآن، أم في المستقبل".
وعند تحليل نتائج القمم الاقتصادية واتفاقات أوسلو. ووادي عربة يظهر بجلاء أن تحقيق الأهداف والمخططات التي وضعها بيرس في كتابه: "الشرق الأوسط الجديد" قد أخذت طريقها إلى التنفيذ في بعض البلدان العربية.
ويريد بيرس تحقيق (إسرائيل) العظمى الاقتصادية بدلاً من (إسرائيل) الكبرى الجغرافية فيقول: "إن إسرائيل تواجه خياراً حاداً بين أن تكون إسرائيل الكبرى اعتماداً على عدد الفلسطينيين الذين تحكمهم، أو أن تكون إسرائيل الكبرى اعتماداً على حجم السوق التي تحت تصرفها".
ويمضي بيريس معلناً بصراحة وقحة قائلاً: "أنا أقول إنه لن يكون هناك أي حل دائم إذا لم يصبح هناك شرق أوسط جديد لقد أدركنا أنه لا قيمة للاستقلال السياسي بدون أسس اقتصادية قوية".
لقد قدم بيرس في كتابه مشروعاً استعمارياً جديداً للمنطقة العربية ولكن بأسلوب جديد ولباس جديد مخادع يخفي خطورة الأفكار والمخططات والعبارات الواردة فيه.
إن التخطيط الذكي والعبارات المغرية والخلابة لا يمكن لها أن تحجب حقيقة أن بيرس وحكام (إسرائيل) هم أعداء العروبة والإسلام، وهم الذين أفشلوا التقدم والازهار في البلدان العربية وعرقلوا وحدتها وتطورها وتقدمها، ويعملون اليوم لإخضاع الاقتصادات العربية لهيمنة (إسرائيل).
يعتمد بيرس في كتابه على ببعض عبارات وأساليب بارعة في التكتيك، لإبعاد أنظار العرب عن مخاطر النظام الجديد الذي يطرحه، وللتغرير ببعض الأوساط العربية وتضليلها، ويهدم بأساليب خبيثة فكرة العروبة والإسلام والوحدة العربية ويستعدي العالم على العرب وعلى فئات واسعة من مواطنيهم، ويعمل للحط من التراث الفكري والثقافي للأمة العربية وتسخيف المبادئ والأهداف التي أجمعت عليها الأمة، وتشويه أمانيها وآمالها وأحلامها وعاداتها وتقاليدها، وتدمير كل صلة بين الماضي والحاضر، والهزء بالوطن والنضال والعدالة والحقوق والتاريخ والجغرافيا والمقدسات، وجعل اللاوطنية بضاعة سهلة التناول للأطفال والشباب للقضاء على نقاء الأمة وتراثها، ونشر التفسخ وكراهية العروبة والإسلام لأن حكام (إسرائيل) يعرفون أن الأمة العربية المتمسكة بتراثها ودينها بعقلانية وإيمان لا يمكن لها أن تستسلم وتسلم القيادة في المنطقة (للإسرائيليين) الغرباء عن المنطقة، والدخلاء عليها والمغتصبين لفلسطين العربية والمقدسات الإسلامية والمسيحية، ولذلك يشن بيرس حملته على الدين الإسلامي تحت شعار التطرف والأصولية.
ويسوّق بيريس مشروعه للدول الغربية بالقول إنه يهدف إلى تعزيز استقرار سوق النفط العالمية، أي العمل على ضمان هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على النفط العربي.
ويقترح تطبيق نظام الشرق الأوسط الجديد على مرحلتين الأولى تتضمن إقامة مشاريع مشتركة في مجال الطاقة والسياحة والمواصلات والمياه بين بعض بلدان المنطقة ومنها تركيا. ويعتبر اتفاق الإذعان في أوسلو ووادي عربة بداية تطبيق مشروع الشرق الأوسط الجديد.
وتتضمن المرحلة الثانية من مشروعه إقامة سوق مشتركة ومؤسسات مركزية على غرار السوق الأوروبية المشتركة.
وأكد يوسي بيلين، أحد القادة البارزين في حزب العمل (الإسرائيلي) أمام مجموعة من المستثمرين البريطانيين في أيار عام 1994، العمل من أجل إقامة السوق الشرق أوسطية وقال: "قد نشهد خلال الأعوام الخمسة المقبلة تشييد بنية تحتية مشتركة في الشرق الأوسط تشمل إضافة إلى إسرائيل كلاً من فلسطين، ومصر، والأردن، وسورية، ولبنان، وإذا تم ذلك، فإننا سندرس إمكان إقامة سوق مشتركة في الأعوام العشرة التالية".
إن الكيان الصهيوني يهدف من نظام الشرق الأوسط الجديد والسوق الشرق أوسطية تكريس الهيمنة (الإسرائيلية) على البلدان العربية، في ظل اختلال موازين القوى والدعم الأمريكي المطلق له، ولممارساته العدوانية والعنصرية والإرهابية والاستيطانية.
* * *