المفكر المصري جلال أمين، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية في القاهرة، شرح في كتابه «مصر والمصريون في عهد مبارك» (دار ميريت، القاهرة، 2009) ما آل إليه حال الدولة المصرية في عهد مبارك، إذ تناول عدداً من الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمس حياة الناس مباشرة، فهو يصف عهد مبارك بدقة وموضوعية، ويرى أن المصريين شهدوا في علاقتهم بمبارك «شهر عسل» لم يدم طويلاً، فقد حرص مبارك في بداية عهده على تهدئة الأوضاع السياسية في البلاد مع مختلف طوائف المعارضة، واتخذ بعد أسابيع قليلة من مقتل سلفه الرئيس أنور السادات قراراً بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين الكبار. كما امتنع عما دأب عليه السادات من استخدام عبارات جارحة في وصف معارضيه، أو تهديدهم بالسجن وأحياناً بالفرم.
وفي شباط (فبراير) 1982 دعا مبارك صفوة العقول الاقتصادية في مصر، من مختلف الاتجاهات، إلى مؤتمر لمناقشة الوضع المتردي للاقتصاد المصري، وهو حدث أشاع في نفوس الاقتصاديين المصريين الأمل في أن إصلاحاً حقيقياً على وشك أن يتحقق، وصحبت ذلك عودة الصحف المعارضة إلى الظهور، بل سمح للصحف الحكومية بمستوى من الحرية لم يعهد منذ قيام ثورة 1952، فشهد المصريون فترة ذهبية من حرية التعبير والنقد أشاعت تفاؤلاً شديداً بما يمكن أن تصبح عليه الحياة السياسية في مصر.
لكن هذا التفاؤل لم يدم طويلاً، إذ بدأت السماء تتلبد بالغيوم قبل انقضاء سنة واحدة على اعتلاء مبارك كرسي الرئاسة، وبدأ اليأس يتسرب إلى النفوس شيئاً فشيئاً من أن يحدث أي إصلاح حقيقي في السياسة أو الاقتصاد.
ويصف جلال أمين الأوضاع في مصر بأنها تحولت في عهد مبارك مثالاً لنظرية عالم الاقتصاد السويدي الشهير جنار ميردال عن «الدولة الرخوة»، تلك الدولة التي يعدها ميردال سر البلاء الأعظم، وسبباً رئيساً من أسباب استمرار الفقر والتخلف. فهي تصدر القوانين ولا تطبقها، ليس فقط لما فيها من ثغرات، بل لأنها تفتقد من يحترم القانون، الكبار لا يبالون به لأن لديهم من المال والسلطة ما يحميهم منه، والصغار يتلقون الرشى لغض البصر عنه. وفي هذه الدولة تباع الرخص والتصاريح، ويعم الفساد، فرخاوة الدولة تشجع على الفساد، وانتشار الفساد يزيدها رخاوة.
ويسوق أمين أمثلة عدة على ذلك، فبعد عام واحد من حكم مبارك قامت إسرائيل بمجزرة صبرا وشاتيلا في بيروت عام 1982، فوقفت الدولة المصرية منها موقف المتفرج، ثم انهار مصرف النوبارية في زاوية عبدالقادر ولم يعاقب الوزير المختص، ثم غرقت العبّارة «السلام إكسبريس» فأبدت الدولة تراخياً مدهشاً في إنقاذ الركاب من الغرق، ثم انتشرت فضائح مذهلة عن وزارة البترول، وانتهت بخروج الوزير من دون أن يقدم للمحاكمة، ثم أثيرت فضائح شركات توظيف الأموال، فتمكن معظم المحتالين من مؤسسيها من الهرب خارج البلاد سالمين. ومن أهم الأمثلة ما تعرضت له مصر من هزة أرضية عام 1992 لم تستمر أكثر من أربعين ثانية، فإذا بالدولة كلها - من فرط رخاوتها - تكاد تسقط متهالكة على الأرض. ففي لحظات انكشفت للجميع نسبة الأبنية المخالفة للقانون ولم يعاقب أحد، والطوابق المحكوم عليها بالإزالة لم يزلها أحد، والآثار الواجبة الترميم لم ترمم، والمدارس التي تجاوزت عمرها الافتراضي سمح للتلاميذ بدخولها.
وفي نظر جلال أمين، فإن أحد أبرز أسباب موت السياسة في مصر أن ثمة فارقاً نوعياً في الرجال المحيطين بالرئيس مبارك عن أقرانهم ممن عمل مع الرئيسين جمال عبدالناصر وأنور السادات، فيرى أن رجال الأخيرين تميّزوا بأنهم كانوا دائماً من السياسيين، وكانت السياسة تجري في عروقهم، وكان كثيرون ممن تولوا الوزارة في كلا العهدين يشاركون الرئيس حماسته للمشروع الذي يقوم بتطبيقه، أو كان لهم على الأقل القدرة على تصوّر وظيفة الوزير على أنها وظيفة سياسية. ثم تغيّر هذا الأمر بالتدريج في عهد مبارك حتى اعتدنا أن يأتي رئيس للوزراء لم تعرف عنه قط اهتمامات سياسية قبل اعتلاء منصبه، ومن ثم لم يكن هناك مجال للتنبؤ بما يمكن أن تكون عليه سياساتهم بعد تولّي المنصب، ثم تبين بالتدريج أنه لا حاجة لأحد بهذا التنبؤ، إذ لم تكن هناك أي سياسة على الإطلاق.
والأسوأ هو ما يعانيه الفقراء في مصر، وهم يشكلون النسبة الكبرى من عدد السكان، فطيلة السنوات العشرين الأخيرة كانت قدرة الفقراء على إشباع حاجاتهم الأساسية (من مأكل وملبس وتعليم وصحة ومواصلات) آخذة في التدهور. كما أن الثراء المفاجئ الذي حققه البعض في السنوات الأولى من الانفتاح نتيجة الهجرة والتجارة والمقاولة والسمسرة وارتفاع أجور بعض المهن الحرة، لم يثر لدى الفقراء من الإحباط ما أثاره الإثراء الذي حدث في السنوات العشرين الأخيرة. ولم يعد الأمر كذلك في السنوات العشرين الماضية، فالأغنياء يزدادون ثراء، والثراء يزداد فحشاً، بينما أغلقت كل الأبواب أمام الفقراء من المتعلمين وغير المتعلمين على السواء. وأصبح الاستيلاء على أموال الدولة أهم مصادر الإثراء في مصر. ففي ظل معدلات نمو منخفضة للغاية، وتدهور مستويات الإنفاق من الحكومة ومن الشعب على السواء، لا يكاد يبقى من فرص الإثراء إلا نهب الأصول الموجودة، وأسهل هذه الأصول نهباً في ظل دولة رخوة ممتلكات الدولة بالطبع، سواء تمثلت في أراض تملكها الدولة تعرضت للبيع، أو أموال مودعة في بنوك الدولة معروضة للإقراض، أو ممتلكات شركات عامة تعرض للخصخصة.
وسمحت الضغوط الأميركية على النظام المصري للمعارضة والقضاء ومنظمات المجتمع المدني برفع الصوت في مواجهة النظام الاستبدادي، حيث رضخ النظام المصري لمطالب واشنطن وأجرى انتخابات رئاسية تعددية في العام 2005، لكن القانون الذي قامت عليه الانتخابات يمنع أي مرشح منافس من تشكيل تحد للرئيس مبارك. ورأينا ما حلّ بأيمن نور من سجن وشق حزبه لاحقاً بعد هزيمته في الانتخابات كمرشح منافس. كما قام النظام بمنع بعض أنصار المعارضة من التصويت في الانتخابات البرلمانية عندما لاحظ أنها تحرز تقدماً.
وبعد فشل المشروع الأميركي في العراق وفلسطين، تغيّرت الأولويات الأميركية في المنطقة وتراجعت واشنطن عن مشروع دمقرطة الشرق الأوسط، في المقابل تراجع هامش الحرية والإصلاح كثيراً في مصر في السنوات الثلاث الماضية، إذ عاد النظام المصري إلى عادته السابقة، من شن حملات على الصحافيين وقمع للإخوان المسلمين والمعارضين الآخرين، إلى التعذيب في السجون.
وبعد اندلاع الانتفاضة الشعبية المليونية في كانون الثاني (يناير) 2011 وتقديم مبارك تنازلات سياسية ووعده بإصلاحات سياسية واقتصادية، وتعهده عدم ترشحه لولاية رئاسية جديدة في أيلول (سبتمبر) المقبل، لم يعد ثمة شك في أن الشعب المصري سيقتنص فرصة التغيير هذه أمام تراجع النظام التدريجي. وأعتقد أن الجماهير المصرية ستواصل تحركها حتى تنحي مبارك، وستعمل المعارضة المصرية لإبرام تسوية مع نائبه الجديد اللواء عمر سليمان كي يتولى الحكم لفترة انتقالية تمهيداً لانتخابات برلمانية ورئاسية تسفر عنها حكومة جديدة تقوم بالإصلاحات المطلوبة. ولعل الضغوط الأميركية والأوروبية على مبارك ونظامه تصب في هذا الاتجاه، والمعارض محمد البرادعي سيلعب دوراً في هذا التحول سواء في ترؤس حكومة انتقالية أو في الترشح للرئاسة.
لكن مشكلة الانتفاضة المصرية هي غياب القائد الملهم لها والذي يمكن أن يوجه الجماهير ويقودها إلى تحقيق مطالبها بالتغيير والإصلاح من جهة، وانقسام المعارضة وتباين سقف مطالبها من جهة أخرى.