القراءة واجبة والكتابة إدمان
سؤال وجه لي ولغيري: لماذا تكتب ما دمت لست متفرغا ولا ممتهنا؟ حقا ما فائدة تسويد الصفحات بالمداد سواء أكان من صرير قلم أو ما يخرج بهيئة أنيقة في زماننا على صفحات المواقع الإلكترونية المختلفة؟ هل ستأتي بما لم يأت به سابقون لك؟ وفرضا هذا حصل، ما الذي سيغيره القلم في عالم تحكمه وتضبط شأنه الأموال والأسلحة والعادات المتوارثة والتراكيب السياسية والاجتماعية؟ وإذا كان آخرون بما كتبوا قد استطاعوا في مراحل زمنية سابقة تغيير واقع ما، أفلا ترى أن صناعة الرأي وتكوين الأفكار في هذا الزمان قد تغيرت أدواتها وتطورت، أليست كتابة المقالات والتدوينات والكتب تشبه محاولة (حنطور) مسابقة سيارة قديمة أو حديثة؟
لا أنكر أن مثل هذه الأسئلة لها مشروعيتها ووجاهتها، وحق الإجابة المقنعة عليها؟ ولكن ثمة صعوبة لا يدري عنها إلا من يعيش الحالة؛ فلا يدرك حالة العاشق إلا من كابد العشق، وانتظر المحبوب وجاهد اللهفة.. ولا يحس المرء بإحساس وشعور امرئ آخر إلا إذا خبر ما يجده وجربه. هل يكفي أن أقول: الكتابة حالة إدمان عند الكاتب يصعب شفاؤه منها، إذا كان يجب أن يشفى منها أصلا؟ وإذا كان علاج المدمن على المخدرات يكون بفطام تدريجي، فعلاج الكاتب أن يكتب فقط، ومن الصعب على من لم يصب بإدمان الكتابة أن يتصور أو يتخيل هذا الشعور؛ وقد يسهل عليه وهو الذي لم يجرب شيئا من المواد المخدرة أن يتفهم إدمان مدمنيها عليها، ولكن أنّى له أن يتفهم أن الكتابة في وعي الكاتب وحياته هي من متطلبات الحياة، يحتاجها كما يحتاج الطعام الذي يقيم صلبه؟
هناك من يرى أو يحسب بأن ابن تيمية ربما مات كمدا وغما لمّا مُنع وهو حبيس قلعة دمشق من الكتابة حيث صادروا الأقلام والأوراق والكتب منه، فلجأ إلى حيلة للتغلب على هذا الظلم والحرمان، الذي لو خيروه بين أن يحرموه من ثلثي ما يقدم له من طعام وشراب مقابل أن يزودوه بأقلامه وأوراقه لرضي بكل رحابة صدر واعتبرها غنيمة كبرى، والحيلة كانت أن غسل رسائل وردته فكتب عليها بالفحم، وقد توفي بعدها بحوالي شهر عليه رحمة الله.
دواء الغرور وإطلاق الأحكام القاطعة يكون بالتعلم والقراءة، لأن الإنسان كلما قرأ وتعمق وتعلم شيئا جديدا شعر بتواضع علمه مهما بلغ، وأحس أنه لا ينبغي له جعل نفسه الحكم والأستاذ الوحيد
وكان الشافعي لفقره لا يقدر على اقتناء الورق فكتب على العظام، رحمه الله.. وروي أن الطبري قد اختصر تفسيره إلى ثلاثة آلاف ورقة، لما رأى ضعف همة وعزيمة تلامذته لما عرض عليهم إملاءهم التفسير ومقداره 30 ألف ورقة، رحمه ورحمهم الله تعالى. ويقال بأنه ليس كل ما كتبه سيد قطب، رحمه الله، مجموع لأنه كان يكتب على أي ورقة يلقاها بما في ذلك الأوراق الخاصة بالمحاكم!
حين تقف أمام ما خطته أقلام السلف، وقد صار كتبا مطبوعة مجلدة، تشعر برهبة ممزوجة بالحيرة والعجب، علما بأن كثيرا من الكتب لم تصلنا لأسباب مختلفة منها غزو التتار للعراق والشام وما دأبوا عليه من حرق الكتب وإغراقها.. ترى السيوطي وابن عساكر والخطيب البغدادي وابن تيمية والنووي والطبري والغزّالي وغيرهم (بغض النظر عن الترتيب الزمني في ذكر الأسماء) قد صنّفوا الكتب حتى لا تكاد تسعها رفوف مكتبة إلا من ذوات الحجم والمساحة الكبيرتين.
ولم تكن لديهم من أدوات الكتابة ما لدينا، وأعمارهم لم تبلغ أحيانا سوى نصف قرن في المتوسط.. وعلى فكرة ذكرت علماء الدين غير غافل عن غيرهم كالجاحظ الذي وقعت عليه خزانة كتبه فمات، أو الفارابي حيث أن مؤلفاته جمعها مستشرق ألماني في مجلد ضخم ولم يصلنا منها إلا قليل، أو ابن سينا صاحب المصنفات والموسوعات في الطب والفلسفة،...وهذا باب واسع جدا بحث فيه باحثون، فظهر ما يثير أعلى درجات الدهشة، أعني عناية أولئك الذين عاشوا قبل قرون بالتصنيف والتأليف، أو صناعة الكتابة كما في تعبير الجاحظ.
ولكن مهلا فأين أنا أو غيري ممن ذكرت من قامات لست قزما فقط بجانبها بل كحصاة لا تكاد تبين وضعت إزاء صخرة تؤلمك رقبتك وأنت تتأمل ارتفاعها؟! هذا صحيح، ولن نلحق بهم ولو جهدنا، لا كمّا ولا نوعا، فبضاعتنا مزجاة إذا قيست ببضاعتهم، وجهدنا لهو ولعب وكسل لو بذلنا فيه كل سنين العمر، مقارنة مع جهد أحدهم في شهر بل في أسبوع واحد.. أولئك من جعلوا لنا مفخرة ومباهاة بحضارة ما زلنا وسنظل نتغزل بها وبهم، وحفروا لنا في سجلات مجد كل الحضارات والثقافات ومدنية البشر اسما بارزا لم يستطع حتى أحقد حاقد علينا أن يتجاوزه إلا بوصف واقعنا وهو ينظر مخزيا إلى ماضينا.
نتاج القلم إذا شئت أن يكون جيدا، وافر الحصاد شهي الثمرة، فأوجب على نفسك القراءة والاطلاع
مواقع التواصل
ولكن في سيرهم في التصنيف والتأليف وعشق الكتابة التي أفنوا فيها أعمارهم كما قال مالك، رحمه الله، لما سأله أحدهم عن سبب حمله محبرة وقد بلغ أمره ما بلغ: مع المحبرة إلى المقبرة! في هذه السير والأخبار، وأمام هذا التراث العظيم الجميل ما يحفّز النفس على السعي لجهد المقل بشيء من الكتابة والتدوين.. فإذا كان يصعب على السائل تصوّر أو استيعاب إدمان الكتابة، فلينظر إلى الأمر من زاوية المحبة والعجب ومحاولة التقليد المجتزأ من ألف ألف جزء من الرجال المذكور عينات منهم!
وليتخيل السائلون الكاتب في صورة امرأة حبلى قد جاءها المخاض، ولا بد أن تضع مولودها، إذا وفقني الله بهذا التقريب أو التشبيه! ولكن يبقى أمر في غاية الأهمية وهو أن إدمان الكتابة يوجب القراءة؛ فلا كتابة دون قراءة، وإذا كان الخبراء يضعون أهدافا شتى للقراءة، فإن الكاتب يرى أهمها وأسماها النوع الموسوم بـ(القراءة بهدف الكتابة).. فكتابة بلا قراءة هي شوهاء، أو إذا عدت لمثال المرأة الحبلى، هي ولادة قبل موعدها وأوانها فتتحول إلى إجهاض مؤسف. وفي زمن الشبكة العنكبوتية التي هيأت لأي كان أن يكتب، خاصة مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر وتطفو على السطح من بعض من تصدروا للكتابة والتنظير على الناس، نصوص من متثاقف أو ممن نصب نفسه أستاذا على خلق الله، دون أن تكون نصوصه قد نبتت من أرض القراءة، لا في مبناها ولا معناها.
فترى يوميا بل إذا شئت كل ساعة من يقدم معلومة خاطئة، أو فكرة مبنية على فهم ضحل، أو يقدم لك حكما قطعيا في مسألة تحتاج بحثا ونقاشا، وغير ذلك مما نرى على مدار الساعة، لأنه ببساطة كتب دون أن يقرأ، وهو وإن كانت نواياه حسنة، وثمة ما شغل باله وفكره، يشبه من يدعوك لأكل لحم نيء.. بل إن دواء الغرور وإطلاق الأحكام القاطعة يكون بالتعلم والقراءة، لأن الإنسان كلما قرأ وتعمق وتعلم شيئا جديدا شعر بتواضع علمه مهما بلغ، وأحس أنه لا ينبغي له جعل نفسه الحكم والأستاذ الوحيد الأوحد فلعله قد أتى غيره من العلوم ما لم يأته.
وليتذكر هذا أن الله سبحانه وتعالى بدأ بالأمر(اقرأ) قبل أن يأتي على ذكر(القلم).. فنتاج القلم إذا شئت أن يكون جيدا، وافر الحصاد شهي الثمرة، فأوجب على نفسك القراءة والاطلاع. غني عن القول بأنني أنصح نفسي وأعظها قبل أن أعظ غيري، فيا نفس تصبّري على القراءة، ولتكن لذتك من صفحات الكتب عظيمة.. حتى يكون علاجك مما أدمنت شافيا!