رتوش في علاقتنا
-------------
تلك قصة قد تحدث فى أي وقت , اخترت لها الحرم الجامعي مسرحا ليلعب فيه أبطال القصة ادوارهم بما فيها من رموز وايحاءات عن التلاحم العربي المصري والعربي الفلسطيني , الذي ظل وسيظل على مر السنين خالدا , وككل قصة حب فى هذه الدنيا , لا بد من رتوش .. رتوش لا اكثر ولا أقل ..
***
كانت فتاتي فى التاسعة عشرة من عمرها , وربما أقل من هذا بقليل .. كانت جميله .. مفرطة فى جمالها .. أنيقة , غاية فى الاناقة .. كل شىء فيها كأنه مرسوم بلوحة فنان تعبيري خالد , ذلك الشعر الحريري البنفسجي بلون عينيها الواسعتين , وذلك الانف الدقيق , فوق شفتين ساحرتين , على جسد دقيق , يميل الى النحافة , برشاقة … ! وكنت انا وحدي , وبينى وبين نفسي اعيش هذا الجمال قطعة , قطعه , دون ان ابوح بمكنون ذاتى لأحد ..!! لسبب بسيط فقد كانت فتاتي واقعة تحت سيطرة معينة , من شاب آخر له سطوته فى الجامعة … لذا خفت من اعترافي بحبى لها , ولكني لم اكن يائسا من يوم يقربنى الى قلبها , رغم غطرسة الشاب وسطوته بإعتباره معيداً فى الجامعة , وقد كان مهما بالنسبة لها , وهو يفرش لها طريقا للنجاح معبداً , ميسوراً ومؤمنا بينه وبين زملائه !!!
المهم فى الامر , ان الفتاة اعجبتنى اعجابا ملحا وشديداً , وكنت ابحث عن أي أحد ينقذني من أزمة الاعجاب التى اعيشها , والتى تحولت على البعد الى حب افلاطوني اعيشه من طرفى انا دون ان تشعر هى به .. لكن اصدقائي الذين حاولت ان اجد لديهم ما يعيننى , أصابوا احساسي بالاحباط ومشاعري بالكبت .. وكان "طارق" اقرب أصدقائي , وهو من أصل شامي , يمتلك مع أسرته عددا لا بأس به من المحلات التجارية المنتشرة فى أحياء القاهرة المتعددة .. كان يقول لى : { يا عم هى حتسيب المعيد , وتجيلك , واذا فكرت تسيبه حترجع له ثاني , عشان محتاجة له , فى الامتحانات , وانت عارف المحاسبه وقرفها , والاقتصاد الزفت } .. لكنى لم أكترث , واحسست مع مرور الايام ان علاقتى " بميسرة " وهذا هو اسمها الذي اخترته لها – علاقة مصيرية لا يمكن ان تنفصم …!!
كنت أطيل اليها النظر كثيرا , واعجبني فى شكلها , تقاطيعه الشفافة , التى يختلط فيها الصخب بالبراءة , وكنت اخشى الصخب فى وجهها , بنفس القدر الذي احببت فيه البراءة التى تحتويه .
هل هو عدم الثقة بالنفس ..؟؟ لم اكن كذلك .. كل الشواهد كانت تؤكد اننى امتلك من الثقة ما يجعلني قادرا على بناء جسور متعددة ومتنوعة من العلاقات الانسانية التى شملت كل اتجاه فى الحياة الجامعية , ترفيهيا , وثقافياً , وتربوياً ..!!
-وبقدر ما كانت هى محبوبة بين اقرانها , استطعت وفى مدة قصيرة ان اكون محبوبا فى الكلية مثلها ..
- وتلك صفة جمعتنى واياها , وجعلتنى موقنا بأن كل الامور ستدفعنا الى طريق واحد لا خلاص منه أبداً ,
- ولكن هذا المعيد الذي يفرض سيطرته عليها , ويقضي معها وقته ماذا أفعل به ..!!؟
ظلت الامور كذلك حتى كانت ذكرى إنطلاقة "فتح" فى ذلك الوقت التقى جميع الاصدقاء والزملاء من كل قطر عربي وقرروا الاحتفال بالذكرى فى الجامعة .. وبدأنا الدعاية لهذا الاسبوع , وتوليت أمر الدعاية مع صديقي "طارق" وبعد ان التقينا بمجموعة من الاخوة العرب الذين رحبوا بالمهرجان ومجموعة اخرى من الاخوة المصريين الذين قرروا مشاركتنا فى الدعاية والاعداد للمهرجان , صدمنا بذلك المعيد الذي أظهر عدم اهتمام واضح , وكأن الأمر لا يهمه وهو من شريحة المثقفين , وكاد يتحول الموضوع الى مواجهة بينى وبينه , لولا أن "ميسرة" تدخلت لفض الاشتباك بينـنا وهى تقول : "ما يهمكش حنكون اول ناس تشارك فى المهرجان " .
وكان هذا ما يهمنى على المستوى الشخصي , ان اسمع "ميسرة" ان اتحدث اليها , وتتحدث الىَ , ونسيت بعد ذلك ما تفوه به المعيد من كلمات حول الطريق الصعب والدرب الطويل , والنتيجة الحتمية للأمور …!! ونسيت كل شىء فى الحقيقة ولم يعد عقلي قادرا الا على استيعاب كلماتها الشفافة ترن فى أذني مباشرة …!!
وكانت عيناي زائغتين فى اليوم الاول للمهرجان , ابحث عنها بين الزائرين للمعرض الفني فى حديقة الجامعة , وهم بالمئات فى ذلك الوقت , يسألون عن معنى هذه اللوحة , وما ترمز اليه تلك , وبين السؤال والجواب اسرق نفسي باحثا عن " ميسرة "… حتى رأيتها تقترب , فذهبت اليها مرحبا , ببشاشة واضحة , كانت وحدها بدون المعيد , ذلك هو قرارها الذي كنت انتظره … وبدأت الحديث معي مبتسمة " باين عليك التعب قوي ".. وكعادتي فى مثل تلك المواقف , احمل الأمور جدية ضرورية ولازمة : " هذا اقل ما يجب ان نفعله "!! بينما كانت "ميسرة" قد توقفت امام لوحة العجوز الفلسطيني الذي يحمل على ظهرة مدينة القدس المحتلة بمسجدها الاقصى , وسألتني بتأثر واضح :
- ما اسم هذه اللوحة …؟؟
- انها جمل المحامل …؟؟
- وماذا تعني …؟؟
- تعني انه مهما تقلب الزمان , ومهما دارت دورته فستبقى فلسطين والقدس والاقصى على ظهورنا , ان مات الشاب والرجل , فسيبقى العجوز جاهزا ويسلمها امانة الى الحفيد الطفل , حتى ولو كانت جبلا فسيحملها ويسير بها .
كانت عيناها مركزتين على العبارات التى اقولها , وكل شىء يدل على اهتمامها الشديد , باللوحة , وما ترمز اليه حتى اذا ما انتهت قالت بلهجة فيها من الاصرار ما يغني عن المناقشة : " اريد ان اشتريها , فارتبكت لان لوحات المعرض ليست للبيع فهى ملك لكل مهرجان يقام , ولا يمكن التفريط بها , الا انني صممت على تقديمها هدية لها , فقلت : اننا لا نبيع لوحاتنا , ولكنني بعد انتهاء المهرجان سأقدمها هدية لك , على امل ان تهتمى بها وتحتملى كل ما تعنيه لنا , فهى جمل المحامل … قالت : اننى لا اريدها الا لأنها جمل المحامل, ووالدى زار القدس مرات عديدة قبل ان يحتل اليهود فلسطين وحدثنا عن جمال القدس , وبهائها , والرهبة التى يعيشها الزائر لهذه المدينة المقدسة , وسيسعده ان يضع هذه اللوحة فى المدرسة التى يمتلكها لتعليم اللغات .. وقبل ان ارد عليها , وصل الى المكان ممثل فلسطين فى القاهرة ليلقي كلمته امام طلاب الجامعة فى المهرجان فإستأذنتها , لأكون فى إستقباله , على وعد بإستكمال حديثنا فى وقت لاحق …!!
وهكذا استمر الحال بينى وبين "ميسرة" طوال ايام المهرجان الخمسة فى الجامعة نتناقش ونتحاور حتى توثقت العلاقة بيننا , وزادت توثقا , حين قدمت لها لوحة " جمل المحامل " هدية منى لها , حيث فاجأنا المعيد , بتحية باردة , فبادرت " ميسرة " بتقديم اللوحة له كى يشاهدها , وهى تعبر له عن اجابها الشديد بها وبما تعنيه , فتنهد تنهيدة طويلة وقال بسخرية : يا سلام يا ميسرة , احنا ناقصين هموم دلوقت , فردت عليه ميسرة :
لا ما لكش حق , دى القدس …
ونظر اليها مندهشا وقال :ايه يعني ..؟!
وعند هذا الحد لم احتمل فتدخلت فى الحديث قائلا:
القدس هى انا وانت , وكل عربي , كل مسلم , وكل مسيحي , هي كل مصري وكل فلسطيني …!!
وإزداد الحوار حدة حتى انهيته بقولي :
إنني اتأسف على الدقيقة او الدقيقتين اللتين قضيتهما معك , لكن ما يخفف ذلك على ان ميسرة بيننا .
وانسحبت تاركا المكان له , وانا لا اعى ما حولي .. وما يكون ورائي او امامي , وقبل ان أصل الى باب الجامعة الخارجي , سمعت صوتا جذابا ورقيقا يهتف وينادينى بالحاح ان اتوقف , وانتظر , وكدت لا أصدق نفسي فهذه "ميسرة" أمامي هى التى تنادي وتقترب .. ومدت يدها وهى تقول بصدق وحب واضحين : ( هات ايدك ) .. ووضعت يدي فى يدها , وخرجنا سوية لاول مرة معا..
انا وهى وحدنا .. نسير على غير هدى, انا غير قادر على النطق بكلمة واحدة , وهى تحمل اللوحة بكل ثقلها وتسير بجانبي تنظر الىَ بين الحين والآخر , وأنا اتحاشى النظر اليها خوفا من جمال عينيها , حتى بادرت بخفة ورقه قائلة : " مش تريحنى شويه … انا حامله اللوحة كل المسافة الطويله دي , وانت ماشي جنبي ومش داري بحاجة , امسكها عنى شويه يا أخي) !!
وارتبكت , وتصبب العرق بغزارة على وجهي وانا استلم منها اللوحة معتذرا لها عن غيابي بجوارها .. حيث اكملنا الطريق متناوبين على حمل القدس .
</b></i>