الأمن الفكريّ
1/4
يقصد بالأمن الفكري : الحرية في إعمال العقل والفكر وعدم الجمود([1])، بل تظل حرية الفكر مفتوحة على مصراعيها ، إذ هي وظيفة العقل الذي خلقه الله تعالى لكي يعمل ، وعمله التفكير([2]).ومن هنا فقد أقرّ الإسلام حرية التفكير والتعبير على أوسع نطاق وأرحبه ، ففي ظل ذلك للإنسان الحق في أن يفكر تفكيراً مستقلاً في كافة ما يكتنفه من شؤون ويقع تحت إدراكه من ظواهر، وأن يأخذ بما يهديه إليه فهمه ويعبر عنه بمختلف وسائل التعبير، ذلك أنه أراد للعقل أن ينهض من عقاله، ويفيق من سباته ، فدعاه إلى النظر والتفكير ، وعدّ ذلك من جوهر العبادة([3])، فقال عز من قائل: { قل انظروا ماذا في السموات والأرض }([4]) فالنظر هنا (مستعمل فيما يصلح للنظر القلبي والنظر البصري) لذلك عدل عن إعماله عمل أحد الفعلين لكيلا يتمحض له ، فجيء بعده بالاستفهام المعلق لكلا الفعلين بحيث أصبح حمل النظر على كليهما على حد السواء ، فصار صالحاً للمعنيين الحقيقي والمجازي، وذلك من مقاصد القرآن)([5]). وقال سبحانه { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون }([6]) وقوله { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون }([7]) وقوله جل شأنه { قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون }([8]) وقوله أيضاً { قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون }([9]) .فقوله {لعلكم تعقلون} : ( رجاء وتعليل ، أي بينا لكم لأنكم حالكم كحال من يرجى فهمه ، والبيان علة لفهمه)([10]). وقوله { لعلكم تفقهون} : فإذا كان العلم هو المعرفة الموافقة للحقيقة، فإن الفقه هو إدارك الأشياء الدقيقة([11])، وكل ذلك جاء الحث عليه والتحضيض .وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام ذات ليلة يصلي فبكى حتى بلّ لحيته ثم سجد فبكى حتى بلّ الأرض ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت : فقال : يارسول الله ما يبكيك ؟ وقد غفر الله ذنبك ما تقدم وما تأخر، فقال : ( ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي في هذه الليلة { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } الآية ([12]) ، ثم قال: ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها))([13]).فالمتأمل في هذه الآيات القرآنية يلحظ أنه سبحانه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته { قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } .. وبين التفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ، فيسلك هذا مسلك العبادة ، ويجعله جانباً من مشهد الذكر ، فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين : الحقيقة الأولى : أنّ التفكر في خلق الله ، والتدبر في كتاب الكون المفتوح ، وتتبع يد الله المبدعة ، وهي تحرك هذا الكون ، وتقلب صفحات هذا الكتاب ؛ هو عبادة لله من صميم العبادة ، وذكر لله من صميم الذكر .والحقيقة الثانية : أنّ آيات الله في الكون ، لا تتجلى على حقيقتها الموحية ، إلا للقلوب الذاكرة العابدة ، وأنّ هؤلاء الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ـ وهم يتفكرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ـ هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ، وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح([14]).مما سبق يتبين أنّ آيات الكتاب العزيز قد استحثت العقول على النظر في ظواهر الكون ، وحضت الناس على التأمل في هذه الظواهر، واستنباط قوانينها العامة ، وأثار في نفوسهم حبّ الاستطلاع لاسيما تجاه الأمور التي لا تثير الانتباه بطبعها لتكرر حدوثها وسيرها على وتيرة واحدة وإيلاف الناس النظر إليها ، كما هي الحال في قوله تعالى: { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج }([15]) ، ثم عقب بذكر العلة من وراء ذلك { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } ، ( تبصرة تكشف الحجب ، وتنير البصيرة ، وتفتح القلوب ، وتصل الأرواح بهذا الكون العجيب، وما وراءه من إبداع وحكمة وترتيب ، تبصرة ينتفع بها كل عبد منيب يرجع إلى ربه من قريب)([16]).وفي غضون تصفحك لكتاب الله المسطور تلحظ أنه يسترعي انتباهك ويستدعي اهتمامك لكتاب الله المنظور ـ الكون ـ للوقوف على عجائب الملك والملكوت ، وما فيه من آيات كبار .. كتعاقب الليل والنهار ، ومن شواهد ذلك قول العزيز الغفار: { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً }([17]) .وقوله: { واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو و الآصال ولا تكن من الغافلين }([18]) ، وقوله: { وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم }([19]) .إنها دعوة قرآنية إيمانية لكل إنسان بأن يخلع عن نفسه ثوب الإلفة تجاه ظواهر هذا الكون، وليفكر فيه ، ويتدبر آياته ، ويتأمل أحداثه وكأنه يعايشها لأول وهلة ، ولينفض ثوب الغفلة عن قلبه ، وليزح غشاوتها عن عينيه ، وحجابها عن عقله ، وليتحين أوقات الغدو والآصال ، ثم لينظر كيف يكور الله الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل ؟! فلا يسعه عندئذ إلا أن يخشع قلبه ويلهج لسانه بذكر الله تسبيحاً وتنزيهاً وحمداً له وشكراً ، وتعظيماً لجلاله وتبجيلاً ... وبذا ينتظم الذكر والفكر بسلك العبادة ويتسقا بها أيما اتساق.وإعمال الفكر كما يتطلبه القرآن يقتضي مزاولة العلم التجريبـي بحثاً وراء الحقيقة ووصولاً إلى اليقين وفي ذلك يقول الله تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم }([20]) . بل لقد استلزم القرآن إيجاد الدليل والبرهان لإثبات أي قضية ، يقول الله تعالى: { قل هاتوا برهاتكم إن كنتم صادقين }([21]) . كما استنكر القرآن الكريم منطق الذين يقابلون الفكر بالعنف ؛ فقال عز وجل: { وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم }([22]) . ومثلما أثنت آيات الكتاب على الذين يخلصون للحقائق ويميزون بين الأشياء بإخضاعها للبحث والتمحيص فيأخذون الأحسن ويذرون غيره ، أثنى عليهم بقوله: { فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب }([23]) ، كذلك تجده عيّب على الذين يجحدون نعمة العقل بحجبه عن الانطلاق فندّد بالمقلدين الذين لايفكرون إلا بعقول غيرهم ، ويجمدون على القديم المألوف ، ولو كان الجديد أقوم قيلاً وأهدى لهم سبيلاً، فقال تبارك وتعالى: { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لايعقلون شيئاً ولايهتدون }([24]) ، وقال سبحانه: { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون }([25]) .وإنما شنع عليهم في فعلتهم هذه لأنهم بذا حرموا أنفسهم من الخير ، عندما عطلوا طاقاتهم الفكرية التي حباهم بها ربّ البرية ، فعموا عن درب العبادة التي خلقوا من أجلها وصموا ، حيث إنه: ( لكل شئ دعامة ، ودعامة المؤمن عقله ، فبقدر عقله تكون عبادته ، أما سمعتم قول الفجار في النار { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}([26]) )([27]).ويوضح حقيقة ذلك ما جاء عن الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ في وصف الفكر بأنه ( شبكة العلوم ومصيدة المعارف ، وأن ثمرة ذلك الفكر هي العلوم والأحوال والأعمال ، إلا أن ثمرته الخاصة هي العلم لاغير ، فإذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب ، وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح ، فالعمل تابع الحال ، والحال تابع العلم ، والعلم تابع الفكر ، فالفكر إذاً هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها ، ولذلك كان إعمال الفكر خير من الذكر ومن التذكر ، فالتفكر أفضل من جملة الأعمال)([28]).
([1]) انظر: العيلي، عبدالحكيم حسن: الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام، دراسة مقارنة ص433.([2]) انظر: البياتي، منير حميد: النظام السياسي الإسلامي مقارنا بالدولة القانونية ص227.([3]) انظر: سابق، سيد: إسلامنا ص17.([4]) سورة يونس آية (101).([5]) ابن عاشور: التحرير والتنوير 11/925.([6]) سورة البقرة آية (219).([7]) سورة الجاثية آية (13).([8]) سورة الحديد آية (17).([9]) سورة الأنعام آية (98).([10]) ابن عاشور: التحرير والتنوير 27/395.([11]) المصدر السابق نفسه 7/398.([12]) سورة آل عمران (190 ـ 191).([13]) أخرجه ابن كثير في تفسيره 2/189 وقال : ورواه ابن حبان في صحيحه ([14]) انظر: قطب: سيد: في ظلال القرآن 1/545، 546.([15]) سورة ق الآيات (6 ـ 8).([16]) قطب، سيد: في ظلال القرآن 5/3358.([17]) سورة الإنسان آية (25،26).([18]) سورة الأعراف آية (205).([19]) سورة الطور الآيات (48 ـ 49).([20]) سورة البقرة آية (260).([21]) سورة النمل آية (64).([22]) سورة غافر آية (28).([23]) سورة الزمر الآيات (17 ـ 18).([24]) سورة البقرة آية (170).([25]) سورة الزخرف الآيتان (23 ـ 24).([26]) سورة الملك آية (10).([27]) الغزالي: إحياء علوم الدين 1/143.([28]) الغزالي: إحياء علوم الدين 15/2793