بين قطعِ الطرَفِ والدّابر
بشارةٌ للمُصابـِر ونذارةٌ للمُكابـِر !
لا أحد أغير من الله تعالى على خلقه ، فالخلق كلهم عيال الله تعالى ، يعولهم فيرزقهم مِن خبء السموات والأرض ، ويسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، ويزيدهم من فضله حين يشكرون ، ويمهلهم بحلمه حين يعصون ، ويغيثهم بلطفه حين يستغيثون ، ولم يأذن لأحد أن يسارع إلى رسم مصيرهم لا باللفظات والأقاويل ، فضلا عن بشاعات وشناعات الأفاعيل !
ومن هنا فلمّا كان يوم أحد كُسرت رباعيّة النبيّ – صلى الله عليه وسلم – وشُجّ في جبهته حتى سال الدم على وجهه ، فتلفّظ عليه الصلاة والسلام بلفظات ، مُبَطّنة بتساؤلات ، وكأنها تستوضح مآلات ، فقال : ( كيف يُفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم وهو يدعوهم إلى ربّهم ؟! ) فأنزل الله تعالى :{ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذّبهم فإنهم ظالمون} ( آل عمران128 ) (صحيح مسلم 1791)
فإذا كان هذا النفي القرآنيّ { ليس لك من الأمر شيء } قد جاء بشأن كفرة عصاة ، ينفي المسارعة إلى البتّ في مآلهم ومصيرهم ! فكيف يكون الحال بشأن الموحّدين التقاة ؟! وكيف إذا ما بغى أحد عليهم ، فراح يسفك دماءهم ، ويزهق أرواحهم ، ويمطرهم بوابل من القذائف لتتطاير على إثرها أشلاؤهم ، ويرسل عليهم حمم الموت لتجوس خلال مراقدهم ؟! فذا سوف تتناوشه سنة ربانيّة جارية كشفها قوله الحق جلّ شأنه : { هل يهلك إلا القوم الظالمون } ( الأنعام 47) فالظلمة إنما يلقون أنفسهم في التهلكة ، ويجرّون أنفسهم وأشياعهم إلى مَهلكة ، تجعلهم للورى عظة وعِبرة ، ولا يجدون من يسكب عليهم من أحرار البريّة عَبْرة !
وطريقة هلاك الظلمة غدت سنة مفهومة ، ومن قديم الزمان معلومة ، كشفها قول الحقّ جلّ شأنه : { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } (الأنعام 45) والظلم : مشتق من الظلام ؛ لأن المتورّط فيه دأبه دأب الماشي في الظلام ! تجده يسير على غير هدى فيضع قدمه في غير موضعها ، ومعنى قطْع دابر القوم أي : استئصال شأفتهم بحيث لا يبقى منهم أحد ، ذلك أنّ قطع دابر الشيء : إزالته كلّه إزالة تأتي على آخر فرد منه يكون في مؤخرّته من ورائه ، فالمستأصل يبدأ بما يليه ويذهب ويستأصل إلى أن يبلغ آخره وهو دابره ، وهذا ممّا جرى مجرى المثل وقد تكرّر في القرآن كقوله تعالى { وقضينا إليه ذلك الأمر أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } (الحجر66)
ونظير السنة الربانيّة السالفة سنة ( قطع الطرَف) التي كشفها قوله تعالى : { ليقطع طرَفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين } ( آل عمران 127)
فقوله ( ليقطع ) أي: بالقتل (طرفا) : طائفة من كبرائهم وزعاماتهم وصناديدهم يهنون بمصرعهم ! فيقطع من جسم الظلم أهمّ أعضائه ، وتنكير (طرفاً) للتفخيم (أو يكبتهم ) : بكسرهم وردّهم بغيظهم من الخزي أذلاء يعتلجهم الهمّ ، ويكابدهم الكمد والغمّ !
وقد حسن في هذا السبك القرآنيّ المحكم ذكر الطرَف دون الوسط لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الأطراف !
وسنة قَطع الطرَف والدابر ، ليست رهينة الزمن الغابر، وليست بالناموس الربّانيّ الطارئ العابر ، بل إنها إرادة ربانية ماضية ، وسنة إلهيّة جارية ، انتصر الله تعالى بها وانتصف لأمّة محمّد – صلى الله عليه وسلم – في أول عراك دمويّ نشب بين جموع المسلمين أنصار التوحيد ، وفلول المشركين أرباب الشرك العنيد ، كان ذلك في غزوة بدر الكبرى التي نزل فيها قوله تعالى : { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين } ( الأنفال 7)
وقد كان أن قطِعَ دابرُ كفارِ قريشٍ في تلكم المعركة ، ولم يكن قطعُ دابرِ كفار قريش بإفنائهم عن بكرة أبيهم ، إنما تأتّى ذلك وتحقّق حين جندلت سيوفُ المجاهدين رؤوسَ الشرك وصناديدَه ، فكان في مقتل الطغمة الطاغية من قادة قريش وساستها قطعٌ لدابر القوم ؛ إذ هم العقول المفكّرة ، أصحاب القلوب المنكرة ، والنفوس المستكبرة ، والإرادات المحرّضة ، والتوجهات الداميّة ، والمقاصد المذءومة ، والأحقاد المحمومة ، والنوايا الخبيثة المشئومة ... ففي مصرعهم تشتيت لشمل مَنْ بَعدَهم ، وإشارة بيّنة لمصير مَن حذا حذوهم ، وبشارة نيّرة لمن ذاق مرارات ظلمهم ، وتجرّع غصّات جرائمهم، من أنّ هؤلاء وأشياعَهم إلى زوال ، وسينعِمُ المولى على عباده الصابرين المصطبرين بحسن المآل !
وكذا سنّة قطع الطرَف : تجسّدت في الغزوة ذاتها ، فبعد أن تمادى ساسة قريش في الظلم فاستنصروا وللجموع حشدوا ، ولزعامات جديدة فوّضوا الأمر وأسندوا ... فما لبثوا أن حلّت بهم سنة قطع الطرَف ليظل القوم في دائر الاستهداف والتلف ...
هذا وقد ختم المولى سنة قطع الدّابر بقوله ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا ) ختمها بما يدلّ على آلائه الجسيمة التي تستدعى حمده وشكره ، فقال عزّ من قائل : (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله ربّ العالمين ) (الأنعام 45)
فحمد الله تعالى نفسَه أن قطع دابرهم ، واستأصل شأفتهم ، لأن ذا يجري مجرى النعمة العظيمة في إزالة شرور أولئك ! فهو تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة ، وأعمالهم الخبيثة ، وبطشهم بالعباد وإفسادهم في البلاد ! فكان مِن أنعُمِه تعالى التي تستدعي الحمد أنه لم يُبْق منهم باقية ، ولم تعصمهم من نقمة الجبار جل شأنه جيوشهم الباغية وآلة بطشهم العاتية ! فنقلوا من الآلاء إلى الضرّاء ، ومن الرخاء إلى الضنك والشقاء ! ومن الترف إلى التلف...
وعليه : فإن كان ثمّ تعقيب إعلاميّ مُنصِف على مصارع هؤلاء وأضرابهم فلا أجلّ ولا أبهى من تعقيبه عز وجل على ذلك بقوله : ( والحمد لله ربّ العالمين ) فاستحقّ القاطعُ لدابر المجرمين استحقّ الحمد مِن كلّ حامد ....
وبعد : فهاتان سنتان ربانيّتان جاريتان ماضيتان ، وإن كانتا قد تحقّقتا قي بدر ، إلا أن التعبير عنهما جاء بصيغة الفعل المضارع ، فقال في السُّنة الأولى { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين } ( الأنفال 7) وقال في السُّنة الثانيّة { ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين } ( آل عمران 127) وفي ذلك إفصاح واضح بتجدّد هاتين السنّتين وديمومتهما ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية : ففي ذلك دعوة إلى استحضار تلكم الحالات العجيبة في ذلك النصر المبين المنقطع النظير ...
كما أنّ هاتين السّنتين توحيان بانتقام الله تعالى من الظلمة بألوان من الانتقام : فانتقم من طائفة منهم بقطع دابرهم ، ومن طائفة أخرى بقطع طرَف منهم ، ومن بقيّتهم بالكبت ، وهو الحزن على قتلاهم ، وذهاب رؤسائهم ، واختلال أمورهم ، واضطراب أحوالهم ...
ومن تعقّب جريان هاتين السنّتين الربانيّتين - سنة قطع دابر الظلمة وسنة قطع طرَف منهم - لا يسعه إلا أن يلهج بالحمد قائلا : الحمد لله جلّت قدرته أنه قد أخذ كُلا بذنبه ؛
فالحمد لله أن وفّق ؛ فسدّد رمية مَن رمى ، في ساحات الوغى ، فأصابت من العدى مقتلا ! { فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } (الأنفال17)
والحمد لله الذي أغرق ، مَنْ لأمّته في مزالق الضلالة والتيه أغرق !
والحمد لله أن أوبق ، مَنْ لرعيّته ببطشه وطيشه أوبق !
والحمد لله الذي أحرق ، مَنْ بلظى قذائفه للأطفال الرّضع والشيوخ الرّكع قد أحرق !
والحمد لله الذي مزّق شرّ ممزَّق ، مَنْ للحوم أبناء وطنه حرّق ومزّق !
حتى إذا ما تعاقبت هاتان السنّتان الربانيّتان فنزلتا بساح قوم ، لم يبق إلا أن يعقبهما مرحلة ارتقاب تحقق قوله تعالى : { يومئذ يفرح المؤمنون ، بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم } ( الروم 4،5 ) فالحمد لله من قبل ومن بعد ! فارتقبوا إنا مرتقبون ...