سلسلة :
هـندسة الـذات .. بآيات الغـزوات
غـزوة الأحـزاب (4)
( وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ((10) وزيغ البصر أن لا يرى ما يتوجه إليه ، فيـريد التوجه إلى صوب فـيقع إلى صوب آخر من شدة الرّعب والانذعار ( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) : ( تمثيل لشدّة اضطراب القلوب من الفزع والهلع حتى كأنها لاضطرابها تتجاوز مَقارّها وترتفع طالبة الخروج من الصدور إلى الحناجر)
( وتظنون بالله الظنونا ) : أي ظننتم ظنا بعد ظن ، فما ثبتم على ظن ؛ فمنكم مَنْ أحسن الظن ، وثبت على الظن الحسن كالمؤمنين الصادقين ( ولمّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) ومنكم مَن أساء الظن ، كظن المنافقين ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا )
حتى القراءات القرآنيّة لقوله تعالى ( الظنون ) قد حملت في طيّاتها دلالات نفسية ؛ حيث أثبت ابن عامر ونافع عن عاصم ( الألف ) في الوصل والوقف فقرأوها : ( الظنونا ) إشارة إلى اتساع الأفكار وتشعّب الخواطر ؛ زيادة في مبنى الكلمة دلّ على زيادة في المعنى ، فلربما اشتدت الكروب على الناس ، وادلهمّت عليهم الخطوب حتى تذهب هواجس بعضهم وظنونه تحت مطارق الابتلاء وسيف العناء كلّ مذهب !
في حين أثبت ابن كثير والكسائي وحفص (الألف) في الوقف ( الظنونا ) دون الوصل (الظنون ) إشارة إلى اختلاف الحال تارة بالقوة وتارة بالضعف ، فـتارة تسكن القلوب وتـقـر فـتضمر الظنون السلبية ، وتارة تجزع القلوب فيغشاها الذعر فـتـنشط فيها الظنون السيئة.
وخلاصة القول في ذلك كلّه : إنّ على المؤمن أن يوطّن نفسه على حسن الظنّ بالله تعالى ، فيظلّ يقـينه بالله وبوعد الله عامراً ، لا تشوبه شائبة ، فتتجاوز رؤيته ببصيرته ما يراه ببصره ، فبصيرته مستـندة إلى وعد الله تعالى لعباده المؤمنين بالنصر والظفر ( والعاقبة للمتقين ) وإن كان ما يراه بـبصره من ملابسات الواقع وضغوطاته الثقيلة لا توحي بذلك .
وبعد : فـ ( إنّ القرآن الكريم ليس كتاباً للتلاوة ولا للثقافة وكفى ، إنما هو رصيد من الحيوية الدافعة ، وإيحاء متجدد في المواقف والحوادث ، ونصوصه مهيّأة للعمل في كل لحظة ) .