بمناسبة وفاة ملكة بريطانيا وتغزل البعض بالديموقراطية البريطانية والملكية الدستورية حيث لا يتمتع الملك سوى بصلاحيات شكلية.

البعض يروج لفكرة رومانسية ساذجة أن ملوك بريطانيا تنازلوا طوعًا عن سلطاتهم وأعطوا الشعب كامل الصلاحيات لأنهم حكام صالحون وشعوب متحضرة.

بريطانيا لم تصل لهذه المرحلة إلا بعد 500 عام تقريبًا من الصراعات والحروب الأهلية والثورات والثورات المضادة.

سيخلف الملكة ابنها تشارلز وسيطلق عليه تشارلز الثالث، ومن الجيد أن أعلمكم أن الملك تشارلز الأول أعدمه البرلمان الإنجليزي وقطع رأسه الذي دحدل أمام الجماهير، وذلك بعد حرب أهلية دامت 7 سنوات بين أنصار الملك وأنصار البرلمان.

جزء من الحرب كان طائفيًا (كاثوليك وبروتستانت) والجزء الآخر حول صلاحيات الملك، فالكاثوليك آمنوا أن قرارات الملوك منزلة من السماء وأنه ظل الله على الأرض أما البروتستانت فآمنوا أنه لا عصمة للملوك وشرعيتهم يجب أن يأخذوها من الشعب.

بعد إعدام تشارلز الأول ودحدلة رأسه أمام الجماهير، حكم بريطانيا نظام جمهوري لعشرة أعوام تحت مسمى "الكومونولث" وكلمة common بالإنجليزية معناها العموم أو عامة الشعب.

إلا أن قلة خبرة قادة النظام الجمهوري والتطرف الديني لبعضهم وخاصة من عرفوا بالبيوريتان (المتطهرين) - أرادوا منع العمل يوم الأحد ومنع الخمور وإغلاق الكنائس الكاثوليكية، كل ذلك دفع الناس للندم على أيام الاستبداد الجميل (تمامًا مثل من يترحمون على أيام مبارك وصدام والقذافي).

وفي لحظة تياسة ثورية تنازل الثوار وأعادوا النظام الملكي، ونصبوا تشارلز الثاني (ابن تشارلز الأول) ملكًا، ثم سرعان ما كشر عن أنيابه فحاولوا الثورة عليه فأعدم من أعدم وشرّد من شرّد.

وانتظر الثوار موته على أحر من جمر (كما ننتظر موت محمود عباس) وبعد موته جاء أخاه جيمس الثاني وكان أكثر تعصبًا للكاثوليكية والاستبداد الملكي.

فوجدوا أنه لا مجال إلا الثورة عليه فجمع أنصار البرلمان قواتهم وجمع الملك أنصار، وقبل بدء المعركة الحاسمة خاف الملك وهرب (ربما تذكر مصير والده الذي دحدل رأسه أمام الجماهير).

جاء الثوار بشقيقته ماري وزوجها وليام اللذين كانا على المذهب البروتستانتي، ولما لم ينجبا أطفالًا واقترب أجلهما خشي البرلمان أن يأتي للحكم أحد أقارب الملكة الكاثوليك ممن يؤمنون بالاستبداد الملكي.

فأصدر البرلمان قوانين تنص على أن يكون الملك بروتستانتيًا وأنه صحيح نظام الحكم ملكي وراثي لكن يجب أخذ موافقة البرلمان على تنصيب الملوك.

بعد موت الملكة بحثوا عن قريب لها بمواصفات تلائم البرلمان، فلم يجدوا سوى أحد أبناء عمومتها الألمان وكان حاكمًا لإمارة ألمانية صغيرة، فجاءوا به وحكم بريطانيا باسم جورج الأول.

لم يكن الملك الجديد يتقن الإنلجيزية فقال البرلمان كيف سنستجوبه ونحاسبه ونتفاهم معه ونحن لا نفهم لغته؟ فطلبوا منه أن يعين رئيسًا للوزراء نيابةً عنه يتفاهمون معه فلم يكن أمامه سوى الاستجابة ففي هذه المرحلة كان البرلمان هو الحاكم الحقيقي لبريطانيا.

وبعد فترة اكتشف البرلمان أنه لا ينسجم مع بعض رؤساء الوزراء، فوضع قانونًا يشترط بحصول رئيس الوزراء على ثقة (موافقة) البرلمان، وبعد فترة تم تقليص صلاحيات مجلس اللوردات (رجال الاقطاع) وأصبحت معظم صلاحيات البرلمان بيد مجلس العموم (عامة الشعب).

وهكذا كل فترة يأخذون القليل من صلاحيات الملك حتى وصلنا إلى ملوك صوريين لا يحكمون.

من الطقوس التي رسخها الإنجليز أن الملك عندما يتوجه لإلقاء كلمة في البرلمان، يقف على الباب ويطرق مستأذنًا ويأتيه الحاجب فيطلب منه الملك الدخول، فيذهب الحاجب ويطلب الإذن من رئيس البرلمان ولا يدخل الملك قبل أن يبلغه الحاجب بالموافقة.

هذه الطقوس اليوم شكلية وفولكلورية لكنها وضعت بالأصل حتى يدرك الملك حجمه الحقيقي وأنه ليس سوى تابع للبرلمان.

لم يصلوا لهذه المرحلة لأن الملوك تنازلوا بإرادتهم عن سلطاتهم بل لأن رأس الملك تشارلز الأول دحدل أمام الجماهير، وقبله كانت ثورات وصراعات كثيرة لم أذكرها حتى لا أطيل عليكم.

وتذكروا أن الحقوق لا توهب بل تنتزع انتزاعًا.

ياسين عز الدين