خطبتان هما ميثاق عظيم
بقلم:سري سمّور
نعيش ذكرى حدث مهم قبل (1427) سنة قمرية؛ وأرى أن الدارج هو فقط تذكر الحدث وروايته كل عام مثل هذه الأيام، مع أنه يجب أن يكون الحدث حاضرا في الذهن في كل الأوقات، ولعل هذه المقالة أيضا قد سلكت مسلك الموسمية في التعاطي مع الحدث، ولكن القصد منها استغلال الموسم، للتأكيد والتنبيه على ضرورة ووجوب حضور الحدث العظيم في كل ساعة وفي كل حين.
نعود قرونا إلى العام العاشر الهجري، وتحديدا إلى التاسع من ذي الحجة، أما المكان فهو صعيد عرفة، حيث حضر عشرات الألوف، في يوم الركن الأهم من الحج ليسمعوا خطبة لخاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله-صلى الله عليه وآله وسلم- في أول وآخر حجة له، وهي خطبة تكوّن بمفرداتها ميثاقا(دستورا) عظيما، قد خالفناه جزئيا أو كليا، فلتكن الذكرى دعوة للالتزام بهذا الدستور؛ فوقف النبي في ذلك الموقف وخطب بالجموع الغفيرة قائلا:-
((أيـها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا...إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا...ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث-وكان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل- وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله...فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكن عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف...وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله...أيها الناس:إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم،وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم...وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ فقال الناس:نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع سبابة يده إلى السماء، وينكتها إلى الناس (اللهم اشهد-كررها ثلاثا-)) /الرحيق المختوم للمباركفوري –طبعة دار الوفاء لسنة 2003.
لا نحتاج إلى القول بأن هذه الكلمات تكتب بأحرف من نور أو بماء الذهب؛ فسواء كتبت بذهب أو بحبر أو على شاشة أو على لوحة معلقة أو حفظت في صدور الخلق، فهذا ليس بأهمية العناية الفعلية بها، فهي بمثابة (كتالوج) لهذه الأمة، ولا مجال لسرد كل شيء عن هذه الخطبة العظيمة، ولكن حسبنا أن نتوقف عند ما يلي:-
1) لم يتطرق المصطفى –صلى الله عليه وآله وسلم- في هذه الخطبة في يوم الحج الأكبر إلى كيفية أداء مناسك الحج، لأنه اكتفى بالتطبيق العملي أمام هذه الجموع(لتأخذوا عني مناسككم) حيث ستنتقل بالتواتر، ولم يدخل في تفصيلات أركان الإسلام التي أكد على ضرورة أدائها من صلاة وصيام وزكاة وحج، وفي هذا درس للأمة التي انشغلت بالفروع عن الأصول، وانشغل بعض أبنائها في جدل حول بعض المسائل الفقهية التي في أمرها سعة، والانشغال بها يحرف الناس عن الاهتمام بالجوهر.
2) بدأ التطبيق العملي بإسقاط ثارات الجاهلية والدماء التي كانت من أمرها، وإلغاء الفوائد الربوية بعائلته وعشيرته الأقربين، بالتنازل عن دم أحد أبناء عمومته، ووضع ربا عمه العباس؛ فهو بهذا يصنع الأسوة الحسنة، ويشيد صرح القدوة والأنموذج...ومع أن هذا ليس جديدا عليه، فقد كان الصحابة في حصار المدينة يربط الواحد منهم على بطنه حجرا من الجوع، وهو يربط على بطنه حجرين من الجوع أيضا، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فهكذا يكون القائد القدوة، وبهذا لا يبقي لأحد حجة بأنه استثنى دم ابن عمومته، أو تساهل في ربا عمه، وهو يعلن القطيعة مع ما كان من شؤون الجاهلية من دماء وأموال ربوية وغيرها.
3) ويوصي وهو في هذا الموقف العظيم بالنساء خيرا؛ ويضع منهجا دونه كل مدونات حقوق المرأة التي يتشدق بها بعضهم، ويحاولون أن يغمزوا من قناة الإسلام بأنه لم ينصف المرأة، فإذا كانت مدوناتهم وسماحهم للمرأة بمجرد التصويت في الانتخابات قد مرّ عليه عقود، فهذا نبينا في أعظم أيام السنة وقبل 1427 عاما يوصينا بهن خيرا، ولنتذكر تلك البيئة التي لم تكن تعير المرأة شأنا، فإن مات عنها زوجها، صارت تلقائيا زوجة لابنه، ولا حق لها في ميراث وهي مثل المتاع، بل كانت بعض قبائل العرب تئدها وهي وليدة، فمن فاق الإسلام في إنشاء وتدعيم قوانين حقوق المرأة؟!
4) نتساءل كثيرا عن سبب اختلال المنهج، وبماذا نتمسك في غمرة أمواج عاتية من الفتن واختلاط الأمور فيبين لنا رسول الله أن الضلال بعيد عنا بل محال أن يعترينا إذا تمسكنا بكتاب الله.
5) هذه الخطبة حجة علينا لأنه قد تواترت إلينا جيلا بعد جيل، فلا فرق في التكليف، وإعلان أن النبي قد بلغ رسالته وأدى أمانته، بين من هم يومئذ يستمعون مباشرة، وبيننا اليوم، فالخطاب لهم ولمن بعدهم ولنا ولمن بعدنا.
6) بعيد هذه الخطبة نزل قول الله تعالى(اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا-سورة المائدة3) وكأن هذه الخطبة بمثابة إعلان البيان الختامي المحدد للمسار والمقرر للمنهج، الضابط لمعايير السلوك والمعاملات، وكيف لا وصاحب الصوت الصادح بكلمات هذه الخطبة، سيغادر الدنيا بعد ذلك بشهرين وبضعة أيام؟!
لذا كانت هذه الخطبة وما زالت وستظل، لمن يتفكر ميثاقا عظيما، وما كان يجب أن تظل محكومة بهذا الموسم لتذكرها والوقوف عندها، بل يجب ألا تغيب عن الألسنة والأقلام والأذهان في كل مسارات حياتنا.
أما الخطبة الثانية فكانت في اليوم التالي، أي يوم النحر(أول أيام عيد الأضحى) حيث جاء فيها((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا في شهركم هذا)) قال هذا بعد تحفيز واستنفار للأذهان والعقول بسؤال الناس عن اسم البلد والشهر واليوم، كي تكون جاهزة لسماع هذا التحريم القطعي للدماء والأموال والأعراض بيننا، وهذا معطوف على ما كان قد خطب به في اليوم السابق، أي تكرار للكلمات في يومين عظيمين مباركين، للتشديد على الحرمة، وكأنه بوحي السماء كان يعلم ما ينتظرنا؛ واحسرتاه، فقد استبحنا ما حرم الله في أماكن شتى، وحال المسلمين والعرب الذين هم مادة الإسلام يقف أمام هذا الإعلان النبوي مخزيا مطأطئ الرأس!
ويقول أيضا في يوم النحر((وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض)) ويسأل:ألا هل بلغت؟قيقولون:نعم، فيقول الصادق الأمين((اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فربّ مبلغ أوعى من سامع)).
في غمرة الانشغال في دروب الحياة وأمانيها ومباهجها ومسرّاتها وأحزانها ومشكلاتها وصراعاتها، قد يغفل المرء عن حقيقة أنه سيموت ويلاقي ربه، وسيسأله ربه عن أعماله، في ذلك الموقف وذلك اليوم يذكرنا الحبيب محمد بهذا الذي قد نغفل عنه، أو نتساهل فيه، أي لحظة النهاية ومغادرة الدنيا، والسؤال عن الأعمال.
في يومين أي التاسع والعاشر من ذي الحجة، يخطب النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- في الناس فيصلنا نص الخطبة، وإذا اختلف الناقلون من أهل السير والحديث في لفظ هنا أو جملة هناك، فإن الفكرة لا تختلف، والحكمة موجودة، والحجة قائمة علينا، فنحن ربما ممن ينطبق عليهم وصف(مبلغ أوعى من سامع).
وبعد فإن تعلم السيرة متاح وبوسائل تقنية حديثة، لمن لا يصبر على قراءة كتاب في السيرة، علما بأن الكتب الجديدة مسطورة بأسلوب عصري، ولا تخلو من صور أو خرائط، وثمة برامج وفيديوهات تعرض السيرة بأساليب جديدة، ومهما زعمت حبك لنبيك فإن زعمك مثلوم ما لم تعرف سيرته، فهي أكسجين هذا الحب.
أما الخطبة يوم عرفة، والتي تلتها مكررة كثيرا مما فيها خطبة أخرى يوم النحر، فلا ينبغي فقط أن نتعلمها في سياق تعلم السيرة، فهي كما ذكرت بمثابة منهج عملي، وإرشاد لمن ضل، أو لمن شاء السير على الطريق القويم، وهي ميثاق عظيم يتفوق على كل المواثيق والدساتير التي وضعها بنو آدم، وكيف لا وهي على لسان من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى؟
اللهم صل على محمد وآله محمد واجعلنا من المقتدين به المتبعين سنته المتمسكين بميثاقه.
،،،،،،،،،،
الأحد 9 ذي الحجة 1437هـ ، 11/9/2016م
من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين