توطئة : الإسلام دين نحبه ونعشقه بكل المعايير التي عرفها البشر , وحبنا له بل عشقنا له نابع من أمرين :
1- أن الله تعالى رضيه لنا جميعاً أينما كنّا وحيثما كنّا وفي أي زمان عشنا هكذا على هذا النحو من الشمول والاتساع . ويشهد لهذا قول الحق جلّ جلاله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.. ) المائدة 3. 2- الربوبية الشاملة : فالله تعالى ربنا جميعاً , فكل البشر ربهم واحد في كلّ أصقاع الدنيا . ويشهد لهذا قول الله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . ) الأنعام (162) . وتشير الآية الكريمة أنّ عالم البشر واحد من العوالم الكثيرة المربوبة لله ومن هنا يأخذ الإسلام بعده الكوني .
* البعد الكوني للإسلام له مجالان اثنان :
الأول : البعد الزماني الّذي بدأ بهبوط سيدنا آدم أبو البشر ومن ثمّ نبوته وتعليم الله له , وشاهد هذا قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . ) البقرة (31) . من هنا يبدأ البعد الزماني للإسلام فليس من المعقول أن يعلم الله أبا البشر كيف يتعامل مع الأشياء المنثورة في هذا الكون ويدعه دون أن يعلّمه كيف يتعامل معه سبحانه عبادة وعقيدة وتشريعاً يلتقي مع البدايات الأولى للإسلام ومن ثمّ للبشرية . إنّ سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم نبي معلُّم جاء بالدين الحق وهو الإسلام ليأخذ بعده الأقصى المقدّر في الأزل زمانياً إلى يوم القيامة .إذن فالفترة التي عاش فيها آدم في الجنة كانت تطبيقا عمليا لمنهج العبودية ، حتى إذا ما خرج إلى مهمته لم يخرج بمبدأ نظري ، بل خرج بمنهج عملي تعرض فيه لا فعل ولا تفعل . والحلال والحرام ، وإغواء الشيطان والمعصية . ثم بعد ذلك يتعلم كيف يتوب ويستغفر ويعود إلى الله . وليعرف بنو آدم أن الله لا يغلق بابه في وجه العاصي ، وإنما يفتح له باب التوبة . الثاني : البعد الكوني والّذي انطلقت أنواره من مكان اللقاء الأول وهو فيما أعلم جبل عرفات حيث تم على سفوحه التقاء سيدنا آدم مع أمّنا حوّاء عليها السلام . في تاريخ الطبري , رحمه الله حدثنا هشام بن محمد عن أبيه عن أبي صالح عن عبدالله بن عباس قال : أهبط آدم بالهند وحواء بجدة فجاء في طلبها حتى اجتمعا فازدلفت إليه حواء فلذلك سميت المزدلفة وتعارفا بعرفات , فلذلك سميت عرفات واجتمعا بجمع, فلذلك سميت جمعاً. قال : وأهبط آدم على جبل بالهند يقال له بوذ . وهذا اللقاء المبارك كان بداية الحياة , والعمق الكوني للإسلام من هنا لمع نوره لأن نبي الله آدم أهبطه الله إلى الأرض معلّماً يحمل منهجاً عمليّاً يمضي عليه هو وأبناؤه ثم رحل آدم إلى الدار الآخرة وتتابعت من بعده رسالات السماء يحملها صفوة البشر من ذريّة آدم – صلى على سيدنا محمد وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين – كما يشهد لذلك القرآن الكريم: ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ. ) المؤمنون (44) . وهكذا أخذ الإسلام بعداً كونياً , بشكل دائري , حيث البداية من نقطة المركز ومن ثمَّ الاتساع , حتى بلغ البعد الكوني مداه الأقصى , بختم النبوات والرسالات السماوية. وإليك ما يؤكّد وصف الإسلام من خلال ماء جاء به القرآن الكريم عن رسل وأنبياء بعثوا قبل سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين– ومن ذلك :
1- ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ . ) الحج (78) .
2- (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . ) آل عمران (67) .
3- ( رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ . ) يوسف (101) .
4- إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ . ) المائدة (44) .
5- وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. ). البقرة (133-127)
6- (...قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . ) النمل (44) . وهذه بليس ملكة سبأ تدين بالإسلام الّذي بعث به سيدنا سليمان – صلى الله على نبينا وعليه وسلم . عندما نمعن النظر في الآيات الكريمة , ندرك البعد الكوني للإسلام في عمقه الماضي فهو ليس وليد عصر بعينه , أو مجرّد حركة إصلاحية , أو ثورة مجتمع شبه الجزيرة العربية , كما يزعم كثير من الباحثين المحدثين . إنّه الدين الحق ليس غير ولا نقبل إلاّ هذا ونضرب صفحاً عمّا سواه. فالعمق الكوني للإسلام أكّده بيان الله على ألسنة الأنبياء صلى الله وسلم عليهم أجمعين بداً من خليل الرحمن سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل عليهما الصلاة والسلام فقد سمانا المسلمين من قبل ومن بعد وقد جرّده الله من كل وصف سوى الإسلام , وعلى ذات الخطا سيدنا يوسف بن يعقوب والنبيون من بعده وداوود وسليمان ويونس وموسى وعيسى وغيرهم ويشهد لهذا قول الحق سبحانه : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . ) النساء (164-163) . ويدلك على العمق الكوني لهذا الدّين تتابع الوحي الّذي انصب على بيان حقيقة الإسلام وجوهره وهو عقيدة التوحيد , لا إله إلاّ الله , ومن ثمّ تمضي أنوار التوحيد عبر البعد الكوني لتعلن للبشر البعد الكوني الآخر نحو الأمام ببعثة سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – كما أكّد ذلك القرآن (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ .) سبأ (28) . هذه الآية الكريمة يشع من بين حروفها البعد الكوني للإسلام , حيث أرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة في كلّ أصقاع الدنيا إلى يوم القيامة وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم ما يدلل على هذا , عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم : ((أعطيت خمسًا لم يعطهنّ نبيّ قبلي، بعثت إلى النّاس كافةً الأحمر والأسود، ونصرت بالرّعب يرعب منّي عدوّي على مسيرة شهر، وأطعمت المغنم، وجعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت الشّفاعة فأخّرتها لأمّتي يوم القيامة . )) وعليه نؤكّد أن الإسلام ببعده الكوني وعمقه الزماني لم ينحصر في بيئة محددة ولا أمة معينّة بل هو دين كوني بكل المعايير , فالله ربنا والكون بيتنا وما أروع ما قاله فيلسوف الإسلام محمد إقبال :
الصين لنا والهند لنا والكلّ لنا أضحى الإسلام لنا ديناً وجميع الكون لنا وطناً . نعم الله ربنا والإسلام ديننا ولكون وطننا .