علي أحمد با كثير أديب تلبَّسه الإبداع:
بل هو الإبداع. الشاعر المجدد المبدع رائد التجديد في الشعر العربي الحديث وأول من أحدث شعر التفعيلة قبل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب في ترجمته التي أبدع فيها لمسرحية روميو وجولييت لشكسبير التي ترجمها إلى اللغة العربية على شعر التفعيلة. فقد صرح بذلك بدر شاكر السياب في"مجلة الآداب" البيروتية الصادرة عام 1954 قائلا : " إذا تحرينا الواقع وجدنا أن الأستاذ علي أحمد باكثيرهو أول من كتب على طريقة الشعر الحر في ترجمته لرواية شكسبير "روميو وجولييت " بعد أن ظلت تنتظر النشر عشر سنوات ". كان ذلك قبل عشر سنوات من قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة وقصيدتي جيكور وأنشودة المطر. فباكثير هو أول رائد لشعر التفعيلة بدون منازع .
ذلكم هو الأديب الكبير علي أحمد باكثير المفكر الإسلامي والباحث القدير والمؤرخ والكاتب المسرحي والروائي والقاص والمترجم البارع الفذ. شملت مؤلفاته جميع الفنون الأدبية والاتجاهات الفكرية والثقافية والسياسية.
هو علي بن أحمد بن محمد باكثير. ولد عام 1910. هاجر والده من مدينة سيؤن بحضرموت إلى إندونيسيا مع من هاجر من حضرموت كعادة الحضارمة في الهجرة إلى شتى بقاع الأرض طلباً للرزق واستقر في مدينة سربايا. وعندما بلغ عمره العاشرة أرسله والده إلى حضرموت لتعلم اللغة العربية والشريعة والفقه عند عمه الذي كان من كبار العلماء في حضرموت حيث كان عمه شيخ "مدرسة النهضة العلمية" ثم ولاه عمه مشيخة هذه المدرسة. لم يلبث كثيراً أن غادر إلى بلاد الحرمين الشريفين وكانت إقامته في الطائف حيث تعرف على الأديب والشاعر الكبير عبدالله بالخير الذي كان أول وزير للإعلام.
لم يستقر في بلاد الحرمين حتى هاجر إلى مصر لتلقي العلم في الأزهر الشريف لكنه التحق بجامعة الملك فؤاد الأول التي هي "جامعة القاهرة" الآن، وذلك بنصيحة من محب الدين الخطيب ليدرس اللغة الإنجليزية. وسافر إلى فرنسا في بعثة دراسية خاصة. ثم مكث في مصر إلى أن وافته المنية رحمه الله عام1969 م.
الأديب المفكر المبدع علي أحمد باكثير ليس أديباً إقليمياً على مستوى الوطن العربي فحسب بل هو أديب ومفكر عالمي فقد كتبت عنه بعض المجلات الأجنبية وأشادت به، وفي الوطن العرب يُعدُّ من كبار الكتــّـاب العرب كالعقاد وطه حسين ونجيب محفوظ وغيرهم إلا أنه لم يوفَّ حقه كاملاً حتى من أبناء جنسه حيث نرى كثيراً ممن قرأ العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ وغيرهم من لم يقراً كتاباً واحداً لباكثير.
تمتاز كتابات على أحمد باكثير على غيرها من الكتابات، فهي تتناول جميع شؤون الحياة الإسلامية والأدبية والثقافية و السياسية والفكرية والنضالية والإبداعية على المستوى الإقليمي والعالمي. وكان باكثير – رحمه الله - من المدافعين عن النهضة العربية والإسلامية والأدبية .
كما أن باكثير يعتبر من أوائل رواد النهضة المسرحية الحديثة فكتاباته تشهد على ما قدمه من العديد من المسرحيات في السياسة والدفاع عن القيم العربية والإسلامية والفكرية. لقد أبدع باكثير في جميع فنون الأدب والفكر والثقافة فهو بحق كما وصفناه أديب تلبّسه الإبداع، بل هو الإبداع.
وكان أديبنا الكبير أول من تنبأ بكارثة فلسطين عندما رأى الأحداث المريعة تتوالى سراعاً وتباعاً ضد القضية الفلسطينية بين عامي 1945 و1948مما جعله يكتب مسرحيته "شيلوك الجديد" مدافعاً عن قضية فلسطين التي أحبها كثيراً. يقول الأستاذ خيري حماد وهو أحد أصدقائه " أبصرتُ الدمعات تتساقط من عيني الأستاذ علي أحمد باكثير وهو يقف عند شريط الحدود الفاصل بين قطاع غزة والأرض المحتلة على بعد أمتار قليلة، وهو يرى (الثكنة الإسرائيلية) وقد ارتفع عليها العلم الإسرائيلي.. رأيت عَبَرات باكثير فلم أتعجّب، فلقد أحب باكثير فلسطين كما أحب وطنه حضرموت والقاهرة وكل وطن عربي، بل إن لفلسطين مكانة خاصة في نفسه رافقته طوال حياته، فلقد أحب باكثير فلسطين حباً عميقاً".
ثناء كبار المفكرين :
نجيب محفوظ :
لقد كان علي أحمد باكثير على ثقافة عالية وكان حجة في آداب اللغة الإنجليزية التي كان يجيدها إجاده تامة. وقد عمل لفترة طويلة مدرسا للغة الإنجليزية لكنه انتقل بعد ذلك إلى مصلحه الفنون فتزاملنا مرةً أخرى حيث كنت أعمل بها أنا أيضاً , وقد كنت من أشد المعجبين بأدب علي أحمد باكثير برغم أنه كان كاتبا مسرحيا تخصص في المسرحيات التاريخية وأنا روائي ملت كثيراً إلي المعاصرة والواقعية، على أن باكثير لم يقتصر إنتاجه الأدبي على المسرح وحده والذي ترك لنا فيه أكثر من أربعين عملا، وإنما كان شاعراً من الدرجة الأولي شهد له بها العقاد والمازني وغيرهما من كبار الأدباء"
الدكتور عبده بدوي :
"الحقيقة أن باكثير كان كاتبا إسلاميا ملتزما لا يسير في صدى ما يحدث، ذلك لأنه في كثير من الأحيان كان يسبق ما يحدث، وكان ينظر من منظور إسلامي شفاف، متعاطف مع كل الإنجازات الإنسانية العظيمة والنظر إلى الأشياء بطهارة ونقاء وكان صادقا مع حضارته حين كان يركز على عنصر الخير في كل أعماله، وكان ينتقل من المحسوس إلى المجرّد."
الشيخ علي الطنطاوي :
إني لأفخر أني أول من كتب بحثاً في مجلة (الآداب) البيروتية، قبيل وفاة باكثير بشهرين، أثبتُّ فيه أن باكثير هو رائد شعر التفعيلة بلا منازع، وأني أول من أصدر كتاباً عن باكثير بعنوان: (دراسات في أدب باكثير) عام 1975م.
رحم الله باكثير، فقد كان رائد الأدب الإسلامي، وعملاقه، ولم يأت من بعده من سد مسده في حومة الأدب الإسلامي، بأجناسه الشتى، وخاصة في الرواية والمسرح، وكل النقاد مقصّرون في تقديم أدبه الأصيل إلى الناس، ليطرد الأدب الهزيل الذي يملأ الساحة بترهاته".
الأستاذ أحمد عبدالغفور عطار:
"... أما علي أحمد باكثير، فهذا الإنسان نموذج رائع في مكارم الأخلاق، ومن ناحية العقيدة.. فالرجل غلبت عليه الشهرة في الرواية والشعر والفن الأدبي، وغلب على عمله التقيد بالتوحيد والفقه، وكان الرجل شديد التمسك بالسنة المحمدية، كما أنه شديد التدين، حتى إنه يكون جالساً في المقهى، فإذا جاء المغرب بادر إلى الصلاة لأنه يعرف أن وقت المغرب ضيّق، ثم يعود لمتابعة عمله الأدبي".
الدكتور نجيب الكيلاني:
"... لقد كان الأستاذ علي أحمد باكثير يتميز بخطّه الإسلامي، وفكره السياسي المبلور، وتعبيره الواعي المبدع من خلال مسرحياته وقصصه عن قضايا إسلامية معاصرة، ومشاكل اجتماعية شائعة، ويستلهم التاريخ في الكثير من قصصه ومسرحياته.
ثم كانت القضية الحاسمة قضية الشيوعية إن علي أحمد باكثير المسلم المؤمن بقيم السماء يرفض بشدة تلك التيارات الملحدة الزاحفة نحو ديارنا، وباكثير الابن البار للحضارة الإسلامية، تلك التي غذّته بلبانها، وأمدته بحكمتها وصدقها وشموخها، لم يكن ليقف مكتوف اليدين، إزاء ذلك الخطر الذي يهدد أغلى ما يؤمن به من مبادئ وسلوك وأفكار، فكان كتابه " الثائر الأحمر" صيحة أدبية رفيعة في وجه الغرور والحقد والمروق، كما كان إيقاظاً للنائمين من أبناء الجيل الجديد الذي كاد اللون الأحمر البراق بالترهات والأكاذيب أن يضمهم تحت جناحه الغادر.
ولعل هذا الأمر تسبب لباكثير في التعرّض للاضطهاد والمعاناة والجحود، ففي فترة من الزمن تسلل " الملحدون" إلى الصحف والمجلات ومنابر الإذاعات والتلفزيونات، فكان أن دبروا لباكثير حملة ماكرة من التشويه أحياناً والتجاهل أحياناً أخرى، وكانوا يغمزون نحوه في مجالس الأدب ومنتدياته ويقولون عنه في سخرية " علي إسلامستان" حسبما روى لي بنفسه، وكان يضحك في هدوء، ويبدو بريق السعادة والثقة في عينيه خلف نظارته الطبيّة البيضاء ويقول: "إنه لشرف عظيم لي أن اتهم بالإسلامية فيما أُقدمه من أدب".
الدكتور حلمي محمد القاعود:
"كان علي أحمد باكثير من ذلك الطراز الذي لا يخافت بصوته الإسلامي، ولا يساوم على تصوره الإيماني، وكان في الوقت نفسه رائداً من رواد أدب الحدس الصادق، وهو الأدب الذي يستشرف المستقبل، من خلال الماضي والحاضر، فكان سابقاً عصره، وكان غريباً في زمانه، لأنه رأى ما لم يره غيره، أو رآه غيره وسكت عنه، فقد رأى ولم يسكت، ولكل هذا فإن "باكثير" عاش محنة التفرد والتميز والريادة والمكاشفة، ودفع الثمن غالياً عندما تعرض للحصار الأدبي والقمع الفكري والتجميد الوظيفي.. بل إتهمه أحد الزعماء الماركسيين بأنه ضالع في مخطط "رجعي" ضد التقدمية والاشتراكية".
الدكتور محمد أبوبكر حميد:
"لقد عاش باكثير حياته كلها قانعاً براتبه الذي لا يكاد يسد حاجته، لا يركض خلف مال يجنيه من كتبه، مكتفياً بانتشارها وذيوعها، منصرفاً عما يتهالك عليه الناس في دنياهم إلى جو روحي خالص لنفسه، يشعر دائماً بالاطمئنان إلى المستقبل، فلم يشعر يوماً أنه فقير أمام صاحب مال، مؤمناً بأن غناه في نفسه وعلمه وأدبه".
الأستاذ علي محمد الغريب:
"في وقت ساد فيه العبث حياتنا الثقافية والأدبية، وفي فترة من الزمن تسللت "شلل" الملحدين إلى وسائل الإعلام المختلفة، كالأدب والصحافة والمسرح، يقْصُون كل من كان مؤمناً بقيم هذه الأمة، يدبّرون له المكائد، وينصبون له الشراك، حتى يختفي من حياتهم أو يموت كمداً.. في هذه الأجواء الرهيبة، وفي هذه العتمة الحالكة، قدم من حضرموت إلى القاهرة سنة 1934م شاب يرغب في دراسة اللغة العربية والدين الإسلامي في الأزهر، لكنه ما لبث أن غيّر رأيه ودخل كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة فؤاد الأول "القاهرة حالياً"، وكان هذا الاتجاه ناجماً عن تشجيع من العالم والأديب محب الدين الخطيب، ليدرس الآداب الأجنبية حتى يستطيع أن يرد السهام التي يرمي بها دعاة التغريب في الأدب والحياة، في وجه التيارالإسلامي، ولقد صدقت فراسة الشيخ الخطيب، فأثبت الشاب باكثير فيما أنتجه من أدب فيما بعد أنه خير من حمل لواء الدفاع عن الاتجاه الإسلامي، مقتحماً عش "الدبابير" فكان نسمة لطيفة محمّلة بعبق مجد مجيد، ورحيق تاريخ تليد، هذا الشاب هو: علي أحمد باكثير".
وهناك الكثير من كتب عنه وأثنى عليه من كبار الأدباء والمفكرين أمثال عبدالقادر المازني، العقاد، صالح جودة، و سيد قطب الذي كان صديقا مخلصاً لباكثير، وقد دافع باكثير عن سيد قطب عند الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بعد حادثة منشية البكري حيث كان سيد قطب محكوماً عليه بالإعدام. قال له عبدالناصر أنت أيضاً محكوماً عليك بالإعدام، لكن عفوتُ عنك لأنك ضيف عندنا.
كان باكثير أنموذجاً صادقاً ومشرفاً للأديب الإسلامي العربي المثقف فقد حمل الرسالة كاملة في جميع أعماله الأدبية والفكرية وفي جميع نواحي حياته في الدفاع والتعبير عن هموم القضايا الإسلامية والعربية والأدبية .
فليت شعري من يحمل هذه الرسالة المشّرفة بعده من أبناء جنسه.