بسم الله الرحمن الرحيم
ندى ونوارة المستحيل
المأساة والحلم
بقلم / محمود الديدامونى
سبق الحديث عن رضا عطيه فى ديوانه الاول (اشراقة) (1) الصادر عن قصور الثقافة وقد انتهينا من الحديث بتوجه الشاعر نحو الشعر الوجدانى وامكان تصنيفه تحت لواء المدرسة الرومانسية او الاتجاه الرومانسى فى اشعر العربى
وها هو اليوم فى ديوانه (ندى ونوارة المستحيل) (2) لم يختلف كثيرا من حيث المضمون وان اختلف الشكل عنده واتضحت معالم الرؤية اكثر
ولعل من الصفات الهامة فى الادب ان النصوص تشكل جزئيا كشفرة ولكنها لا تماثل شفرتها الا افتراضيا. فكل نص متكون من الاستخدام الخاص لشفرة اللغة ولمجموعة مبهمة من الشفرات الملتصقة بها.
يتحول الى نظام يمكن التعرف اليه ( اسلوب /عصراو نوع او مؤلف اوكتاب) قادر على التاثير وقابل لانتاج رسائل متعددة.
(تاويلات وقراءات)(3)
ولاشك أن الشاعر هنا ترك لنا نصه الشعرى لنتواصل معه بشكل أو بأخر يتساوى مع الابداع كما هو مفترض أن يكون خاصة الرؤية الجمالية للشاعر التى تنعكس بشكل ما على القارئ متكئة فى ذلك على عملية ترسيخ ثقافى.رغم أنها عملية شديدة الصعوبة نظرا لعوامل اجتماعية وتاريخية وثقافية.
ومن البديهى ان النقد هو ردة فعل على قراءة , وفى الغالب كتابة عن قراءة , كما يقول إميل فاغيه استاذ كرسى الشعر الفرنسى فى السوربون ( 1906) الى ذلك فى كتابه " فن القراءة "ان النقد وساطة تعليمات اولا ثم تأويل وان من شأنه أن يوجه القارئ 0
والسؤال هنا هل استطاع رضا عطية من خلال رؤيته واستخدامه لجماليات اللغة فى ان يترك لنا تأويلات وقراءات يمكن الوقوف عندها 0 هذا ما سنحاول البحث عنه 0
الذاتية :-
انطلق الشاعرمن الذات او فلنقل أن معظم قصائده شديدة الخصوصيه موغلة فى الذات , ورغم ذلك نجدهفى كثير من الاحيان يتحرر من إسارها الضيق الى شمولية العالم المحيط به او يكسرها على حافة الوجدان العام
(والشاعر امام العالم والاشياء أسير الإلهام 00 بل ان الحب هو اول الابواب الموصدة التى يستطيع الشاعر – كفنان – ان يفتحها – يظل زمنا غير قصير مأخوذا فى بلاد ذلك الفتى الامير – الحب – يتنقل هنا وهناك ثملا فى حرية 00 وكأنه واقع تحت تأثير طاغ لايفيق منه 0 (4 )
ولنذهب الى اهداء الديوان قبل الدخول إليه 00
ندى الامل الذى راح
محمود البدر الذى لاح
اى ان الحالة الشعرية والرؤية التى يدور فى فلكها هذا الديوان تمتزج بشيئين اثنين لا ثالث لهما " المأساة والحلم "
فى اطار رومانسى متدفق حينا وهادئ احايين اخرى 0
ففى ( قصيدة وشوشات )
لأننى أحب أن أوشوش الطيور
أن أسابق السحاب
أن أغازل المطر
ولم أزل أحس أن لا حد بينى
والبشر
فاننى أسطيع أن أمتص آلام
القدر
الشاعر هنا يعرض موقفه ويقدم طاقته ويعلن انه يستطيع ان يمتص ألام القدر 0 ومن تلك الذات المحبة للحياة المتوائمة معها يقرر فى نفس القصيدة معتمدا على بناء جمالى يتأسس على المفارقة التصويرية
يقول:
لأننى اعتدت أن أرافق الكآبة
أحس أن فوق فرحتى ضبابة
وحين فى المساء تولد الدعابة
وتحتوى الفؤاد نشوة الصبابة
تحرك الغربان أوتار الربابة
هنا نجد أن كل شىء أصبح جميلا (كن جميلا ترى الوجود جميلا)
القلق الرومانسى والتشبث بالحلم:
والقلق فى هذا الديوان كثيرة شأنه فى ذلك شأن شعراء جيله والشعر الرومانسى قلق بطبعه
يأيها العشاق يا من تلتقون على بساط من أمل
لاتسرعوا فلم العجل؟
هل لى مكان بينكم؟(ص7)
ٍٍٍيتساءل الشاعر عن مكان بين المحبين،لكن هل يملك مقومات الانضمام اليهم؟
ٍٍينطلق باحساسه ومشاعره
أنا لا أحس بأننى فى هذه الساحات ضيف
فأنا تحركنى الصبابة نحوكم
فتقبلوا منى السلام
وهو اذ يعرض لمقومات الانضمام يتباهى امامهم
أنا ذا أغرد بينكم
مع أننى وحدى أتيت بلا أليف
ومن هنا تتضح معا لم الرؤية عند رضا عطيه ..هو انسان محب لم يرغب فى شىء آخر غير الحب .الحب عنده على اطلاقه..وهنا يكمن سر الجمال فى هذا النص الشعرى.
ورغم أنه يتضاءل بحسه ونفسه وطموحه عندما قال:
أنا قانع بالنظرة العجلى بأى فتات
فلكم تملكنى الشتات
وضح سبب قناعته بهذا الفتات لأنه قبل أن يرد الى واحة الحب كان مشتتا متمسكا بهذه الفرصة لأن مكانه بينهم
ويطالب المحبوبة /الحلم بأن يكون لديها فعلا ما تجاه حبه
يا التى ما أطعمتنى غير شهد الحب شهد الأمنيات
شتتى دنياى كابوس الشتات
حررينى من عقالات السبات
أنت يا شريان قافية القصيدة
أنت يا لغتى الجديدة
احضنينى مرة حضن الأمومة
واحضنينى ألف ألف مرة حضن الحبيبة
وهو بذلك يطالب المحبوبة أن تكون أما وحبيبة.
ويدور بمفرداته الرومانسية العذبة نحو المستقبل(الطيور /عصفوران/نسران/ القمر/ النجوم/ السحاب/ المطر/ القدر/ فراشة/الشهاب/المساء / ضبابة/الصبابة/الربابة) .
كلها مفردات تعبر بطريقة أو بأخرى عن علاقة الشاعر بالموجودات الطبيعية وتأثيرها عليه فى نسج الكلمة الشعرية و ان كان الشاعر قد جانبه التوفيق فى الزج ببعض القصائد التى تبتعد عن الرؤية الكلية لهذا الديوان مثل قصائد( ثوب الفداء/آيات الرجاء) وبدونهما يمكن أن يستقيم العمل ويتكامل.
البحث عن الهوية:
يبدو أن الأمر يتعلق بالتأمل والبحث عن الهوية وفى ذات الوقت عن الحرية والكيان ،رغم اقراره فى صدر قصيدة (هوية) بذلك
بلا هوية أسير
عاريا دون انتماء للقضية
كان من الممكن أن يكتفى الشاعر بالانتماء المطلق الا أنه حصر نفسه فى الانتماء للقضية ثم يسقط همه الخاص ليصير هما عاما ولست مع هذا التعميم أيضا
مدينتى مدينة الظلام
لا وجه لاأحلام لاكلام
فكيف تحمل القضية
فى أمة بلا هوية
ويستمر الشاعر فى جلد الذات معبرا عن تلك الحالة التى أفقدته هويته ويخاطب ذاته أو الآخر أو أى شىء يمكن مخاطبته
قل لهم ما شئت عنا
قل بأنا لم نعد فى الأرض الا امعه
لم نعد نبكى
كيف يبكى من تلذذ بالدعه
وكما أشرت سلفا فأنه ينطلق من هوية الذات الى هوية الوطن بلغة ثورية متشبثة بروح رومانسية أيضا، فلم يصرخ وانما ثورته همس،رغم ما يتضح بها من غضب
جرحنا ما عاد يبكى الآخرين
انه ما عاد يبكينا لأنا قد عشقنا أن نلين....نستكين
القصيدة شديدة المباشرة ،لكنها تعبر عن موقف كان يجب الاشارة اليه للوقوف على الرؤية التى تحرك الكتابة عند الشاعر وهو فى كل ذلك يتوق الى الحرية
حررينى من عقالات السبات ( قصيدة:صباح جديدص12)
وأطلقى من عش عينيك الحمام ( قصيدة :لاتحزنى ص34)
والشاعر فى رحلته للبحث عن الحرية والهوية نجده مغرما( بالزهور/الشموس/النجوم/ النهار /الشموع)
موضحا أن السبيل الى الهوية وا لى الحرية صعب.
رقة الشاعر تجعله مستسلما مستكينا وهذا لايتفق مع روح الكلمة وتأثيرها،فالصمود فى وجه كل تلك التداعيات هو الطريق الىالحرية وتحقيق الهوية
المأساة :
على فترات متقطعة تظهر مأساة الشاعر ويعلن عن تجربته سبحيادية وبشجن يصل الى حد الدموع
يتيم ........ يتيم
وفى القلب تصحو جراحات حب قديم.......(نوارة المستحيل ص44) ويستمر الشاعر فى وصف حاله وحال قلبه
وقلبى الذى ما ملكت سواه
أراه يلملم أشلاءه
المترعات ؟أسى وجمود
ويوضح السبب الذى جعله يذهب لنوارة المستحيل
أنا ما ذهبت لنوارة المستحيل مستجديا
ولكن دعتنى لأستاف من عطرها المرمرى
أقبل بالقرب من سحرها أمنياتى
فتصغر ذاتى
هذه المأساة جعلت الشاعر يلجأ الى استخدام مفردات لغوية تتواءم مع الموقف ومع هذه الحالة شديدة الشجن (يتيم/رماد/عنيد/ المغاليق/ الثكالى/السدود/أشلاء/ جمود/ ضللت / جب / يذبل/ صبارة / العنكبوت / الشوك / البوار / المرار/ الجحيم )
ويبدو أن مأساة الفقد أخذت من الشاعر وقتا طويلا،حيث يظهر هذا كما سبق الاشارة على فترات بدءا من الاهداء
ندى الأمل الذى راح
ليطالعنا بقصيدة تحمل عنوان ندى وهى مرثية هذا الفقد
وافترقنا قبل أن نلتقى.......
عالمى أمسى قيودا فى قيود
كانت الآمال تفرش مجلسا فى مقلتى
فى انتظار البسمة
ولنرقب سويا هذه الصورة المعبرةعن جلال اللحظة عند الشاعر
كنت أرقب لحظة الشدو الجميل
لحظة تبكى فتشدو أمنياتى
ثم يقدم للمتلقى لطمة موجعة...
انها لاذت بأجنحة الفرار
بعد أن هيأت نفسى للعناق
وتستمر حالة الفضفضة معبرا عن هذا الشوق وهذا الحلم الذى كان ينتظره
كنت أحتاج لقبلة
من فم يشدو بوأوأة الصغار
ولعين يختفى من سحرها ضوء النهار
كنت أحتاج لطبلة
كنت أحتاج سبوعا وشموعا وفشار......( ندى:ص32)
وفى هذا السياق يقدم قصيدة( رحلة) وكن بعدما تخلص من أسار الذات للحظة محاولا التعامل مع الموت من منظور فلسفة الوجود
حينما تم انتهى
الأحياء من بدء الخليقة قصة
وهو فى كل ذلك رقيق متدفق المشاعر لديه القدرة علىالتأثير فى المتلقى يتسلل اليه فى هدوء
الحلم :
لا يمكن لإنسان بأن يحيا بدون حلم يراوده،ما بالنا بشاعر
هل لى مكان بينكم.........يحلم بمكان بين المحبين
ولكن تلوح لى الذكريات
فينشق فجر طواه الغسق
وتبزغ شمس الجهاد الأبى
ليصحو فى القلب صوت خنق
هنا يصبح الحلم متمثلا فى كل جوانبه حلما ب(الحياة /الزوجة /الحبيبة /الطفل /الضياء..........الخ)
وهو فى قمة حلمه يصبح أكثر طبيعية،يترك الكلمة حرة طليقة دون قيد
أمطرينى بالندى بالفرح بالآتى الجنين
هدئى البركان فى
ان ترمومتر حبى قد تعدى الأربعين
فتعالى بالشفاء
بالحياة لمن يعانق الردى
أحبك يا التى غرست بروحى الأمنيات
وسقت رياحين الأمل
وعندما تحقق الحلم كانسان وأصبح ابا لطفل جميل أقر بواقع جديد ورؤية مغايرة للحياة عن تلك التى كان يدور فى فلكها فعاد بذاكرته الىتلك الأيام فى ريفنا المصرى معتمدا على مفرداته البسيطة،( طلمبة / قلة / زير/ عشة / طين / لحاءات الذرة / الفطير /البيض / اللبن) يرسم من خلال كل هذه المفردات نسيجا ٍشعريا متكاملا يعبر فيه عن ذلك التناقض فى الريف المصرى مرمزا فى الوقت ذاته الى الكرم الذى يتسم به رغم ضيق العيش.
ويعود بعدها ليعلن تحقق الحلم فى قصيدة (على عتبات الظنون)
أنا الآن أملأ كفى سعادة
وفى القلب غادة وبين الجوانح حلم تأجج
أفلت من سجن أحزانه المستميته
على عتبات الظنون رأيت الحقيقة
أنا العاشق المستبين طريقه
الهوامش
(1) اشراقة ...رضا عطيه...قصور الثقافة2000
(2) ندى ونوارة المستحيل رضا عطيه أصوات معاصرة2005
(3) قضايا أدبية عامة د.لطيف زيتونى عالم المعرفة
(4) المرأة فى شعر البياتى د.أحمد سويلم
(5) دراسة عن شعر محمود الديدامونى د.صابر عبد الدايم