رفاتُ أسرانا المُحَرّر ..... عِـبَرٌ مَخبوءة تتكرّر !
المجازاة بنقيض المقصود .. سنّة ربانيّة جارية من لدن الحكيم المعبود ! وقد شخصت هذه السنّة ماثلة أمامنا مرّات ومرّات في خضمّ صراعنا مع يهود !ولو سألنا أنفسنا في هذا السياق : كم آتانا ربّنا من آية بيّنة في غضون صراعنا مع عدوّنا ؟ لما وسعنا إلا امتثال هَدْي ربّـنا والانحياز لخياره لنا دونما ممانعة ولا منازعة ولا مرافعة ولا مدافعة !وها هي هذه السنّة الربانيّة عادت لتطلّ علينا من جديد فتشرق عن معانٍ إيمانيّةٍ ، ومضامينَ فكريّةٍ ، تحمل بين طيّاتها عبراً نيّرة وعظاتٍ خيّرة !فاذكروا إذ احتجز عدوّنا جثامين شهدائنا منذ عقود ، نكاية منه – حسب وَهْمه – بأهليهم وذويهم ، وليشرّد بهم مَنْ خلفهم تشريداً نفسيّاً ممّن يهمّ أن يخطوَ خطاهم! وليشوّش تشويشاً فكريّا على ثقافة الإباء والتضحية والفداء على طريق نصرة الأديان وتحرير الأوطان ! وله من وراء صنيعه هذا مآرب أخرى قميئة ، انتهج لتحقيقها أساليب ذميمة دنيئة !وجهل القوم أنّ الله تعالى هو الذي بيده الأمر ، وأنّه سبحانه يصرّف الدهر ! فكان أن دارت عجلة الزمان ، فبدا الحقّ للناس وبان ، وانقلب السحر على الساحر فباء بالخسران ، إذ انصاع هذا العدوّ إلى إملاءات أحرار شعبنا ، فأفرج عن رفات شهدائنا ، أجل عن رفاتهم فهذا أقصى ما بوسعه أن يفعله – احتجاز رفات – أمّا أرواح شهدائنا فهي كهمَم أصحابها وعزائمهم ظلّت حرّة طليقة في حواصل طير خضر تسرح في الجنّة حيث شاءت ! وبقيت تسري فينا ليهتدي بها الحيارى ، وتكون حجة دامغة على مَنْ تمارى !وهكذا تحقّق في آمال عدوّنا نقيضُ المقصود ؛ فإذا بهذا الرّفات الذي طالما عمرته روح الأحرار ، إلى أن فارقته مرتقيّة إلى ربّها ارتقاء الأبرار ، قد حظاه ربّه بأن حقّق له عودة ميمونة إلى الديار ، عاد هذا الرّفات محمّلا بعبَرٍ مخبوءة ، خبّأها طوال تلك العقود إلى أن حان الحين وآن الأوان فجئت يا رفات الشهداء ، على قدر من ذي العزّة والكبرياء !جئت لتنثر علينا وحوالينا درراً مضيئة ، موشّحة بأسمى العظات والعبر الوضيئة ، تنتشل بهذه العبر كلّ من وقع في وهدة ، وتوقظ بها كلّ من غشيته ركدة ، وجاءتنا هذه العبر بفصل الخطاب ، في وقت افترقت فيه كلمتنا فتفرّقت فينا السبُلُ والشّعاب ، فجاء الوقت الذي غدا فيه كلّ منّا قيادة وقاعدة ملزماً للخضوع للاستجواب ، أجل خضوع للاستجواب ، أمام رفات تلك القامات التي لا تطاولها الرقاب ، وعلى كلّ منّا أن يهيّئ جواباً كافياً شافياً ، يبرّئ به الضمائر والذمم ، ويجسّد فيه صدق القيم ...
وإذا كان ذلك كذلك : فماذا عسانا نقول لرفات أجساد شهدائنا إذا ما سألتنا أرواح أصحابها قائلة لنا : أمّا نحن فقد قضينا نحبَنا ، فهل كنتم أنتم بعدنا ممّن ينتظر وما بدّل تبديلا ؟! ماذا نقول لأرواح تلك الرّفات إذا سألتنا قائلة : قد استودعناكم وحدة الصف والكلمة والموقف في وجه الاحتلال ، فهل صنتم ما استودعناكم ؟! وحفظتم ما استرعيناكم ؟!ماذا نقول لرفات أجسادٍ طاهرةٍ سألتنا أرواحُها فقالت : قد خرجنا جهاداً في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، دفاعاً عن حمى الوطن وصيانة حرماته ، فهل صنتم هذا الهدف النبيل وورّثتموه لجيل إثر جيل !ماذا نقول لرفات أجساد نقيّة سألتنا أرواحها فقالت : قد بذلنا أرواحنا رخيصة دفاعاً عن القدس والمقدّسات ! فهل حفظتم للقدس حرمتها ، وللحرمات قدسيّتها ؟!ماذا عسانا نجيب رفات أجساد بهيّة سألتنا أرواحُها فقالت : قد استأمنّاكم ثوابت راسيات ، لقضايا شامخات ، فهل ظللتم على العهد ، وحفظتم في غيبتنا القسم والوعد ؟!بماذا ترانا نجيب رفاتَ أجسادٍ أبيّةٍ سألتنا أرواحُها فقالت : قد استخلفناكم زوجة وأولاداً وذريّة ! فهل خلفتمونا في أهلنا بخير ، وحففتموهم بكلّ رعاية ، وأحطتموهم بكلّ برّ؟! أجل ، كنّا بحاجة لتساؤلات جريئة كهذه من جهة تدين لها بالسمع والطاعة جميعُ الأطياف ، بلا تمنّع ولا تحفّظ ولا إرجاف ، بل وتلتمس لديها الإنصاف عند احتدام الخلاف ، فأخرج لنا العزيز الحكيم هذا الرّفات الكريم ليُلقي بلسان الحال الذي هو أبلغ من زخرفة المقال يُلقي بين أظهرنا تلكم التساؤلات !وبعد : فليس المقصود من استحضار هذه الأسئلة جلدَ الذات ، إنّما المنشودُ تصويبُ بوصلات ، وتصحيحُ مسارات ، ومباشرة استدراكات ، والمبادرة بإصلاحات ، إصلاحاتٍ فكريّةٍ ونفسيّةٍ وسلوكيّةٍ تهدينا نحو التحرير سبلنا ، وتلهمنا في ميادينه رشدَنا !وهكذا لم تعد إلينا رفاتُ شهدائِنا عظاماً نخرة ، بل آبت إلينا بالذكرى ، وفاءت إلينا بالتذكرة ! فكان في عودتها إلى مساقط رأسها ذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد ! عادت تتلمّس فينا الوعي ، وتتفحّص فينا الصدق ، وتختبر فينا معاني الوفاء ! وتمحّص فينا معالم الولاء !
إزاء هذا كلّه : لو علم عدوّنا ما اكتنف رفات شهدائنا من عبر وعظات ، لتمنّى لو أنه تخلّص منها منذ أمدٍ بعيد ! ولكن قد استيقنّا قوله تعالى ( قل جاء الحقّ وما يُبدِئ الباطلُ وما يُعيد ) (سبأ49) .