قراءة في مجموعة «مجنون أحلام» لحسين علي محمد
قراءة في بعض عناصر الإبداع
بقلم: أ.د. وليد قصاب
...............................
«مجنون أحلام» أول مجموعة قصصية يتاح لي أن أطلع عليها من إبداع حسين علي محمد السردي، وهي مجموعة متميزة، تحفل بعدد من السمات الفنية والمضمونية التي تلفت النظر، وتشهد أنك أمام كاتب يقبض بمهارة على ناصية هذا الجنس الأدبي الهام.
ولأن من الصعب في مقال واحد إيفاء هذه السمات جميعا حقها، أتوقف عند محطات بارزة قد ترسم الخطوط الكبرى في لوحة هذه المجموعة القصصية.
1- بين السرد والسيرة:
لن يتخيل أحد – بطبيعة الحال – أن مايكتبه هذا الأديب أو ذاك هو – بالضرورة – تعبير عن تجربته الشخصية، أو أن نصوصه تعكس دائما سيرته الذاتية كما يقول أصحاب المنهج النفسي مثلا.
يقول ديتش في بيان هذه المسألة الهامة: «إن الأثر الأدبي قد يجسد حلم الأديب لا واقع حياته، أو قد يكون «القناع» أو قد يكون «النقيض» الذي يختفي وراءه شخصه الحقيقي، أو قد يكون صورة من الحياة التي يريد الأديب أن يهرب من نطاقها. ثم علينا ألا ننسى أن الفنان قد يجرب الحياة تجربة مباينة من خلال فنه..(1)».
ويخلص ديتش إلى القول: «بهذا نستنتج أن التفسير للأثر الأدبي، أو استغلاله من ناحية السيرة يحتاج دقة متأنية، وفحصا دقيقا في كل حالة؛ إذ الأثر الأدبي ليس وثيقة من وثائق حياة صاحبه(2)..
أستحضر هذا الكلام وبين يدي مجموعة «حسين علي محمد» القصصية التي عنوانها «مجنون أحلام» التي توحي بالالتصاق الحميم بين السارد الراوي وبين أبطال القصص المحكية، حتى ليوشك المتلقي أن يقع في الوهم الذي يحذر منه ديتش وهو أن بطل هذه القصة أو تلك هو الكاتب نفسه.
إن المسافة لتقترب كثيرا بين السيرة الذاتية والقص، بين الواقعي المعيش من حياة الكاتب وبين المحكي المتخيل.
ويتعزز هذا الاقتراب في أن السارد الراوي لا يقدم إلينا – في غير ما موضع – بطلا عاديا فيه من المؤلف ومن غيره مشابه، ولكنه يلح أحيانا على جزئيات وأسماء، وعلى فضاء زماني ومكاني توحي جميعها، أو كأنها تريد أن توحي، أن بطل هذه القصة أو تلك هو المؤلف نفسه.
ويتجلى ذلك في عدة قصص، منها «الحافلة التي أحلم بها» و «لن يكلم نفسه في الشارع» حيث ترد فيهما أسماء لأشخاص حقيقيين معروفين، لهم حضور في الواقع المادي الذي نعيشه، وفي حياة المؤلف نفسه، بل نحن نعرف بعضهم معرفة لا تقل عن معرفة الكاتب.
وهكذا تحاول قصص هذه المجموعة أن تجمع بين روح السيرة الذاتية وروح السرد، حتى لتبدو كثير من المواقف مأخوذة من حياة المؤلف، ولكنها مصوغة بأسلوب الفن القصصي الذي يراعي متطلبات هذا الجنس الأدبي وأصوله، إذ هو شخصية وحدث وزمان ومكان، وهو يقوم على حبكة متماسكة تنتهي إلى العقدة ولحظة التنوير.
إن هذا الحضور الطاغي لشخصية المؤلف، وانعكاسها في هذه القصص قد أسبغا عليها – كما ذكرنا – كثيرا من الدفء والحميمية واقتربا بها من مشارف الواقعية التي بدا المؤلف حريصا على تأكيدها، أو الإيحاء بها على الأقل.
إنها لحظات من التذكر والاسترجاع، ومحطات من الرسو على شاطئ الماضي، إنها نوع من البوح والاعتراف، وكم يحتاج الكاتب – في العادة – إلى البوح وبث مكنون النفس!! . ولذلك نجد الكاتب يصدر مجموعته بعبارة ماركيز التي يقول فيها: «ليست الحياة ما عاشه المرء، لكن ما يتذكره لكي يرويه»(3).
إنها عبارة ذات دلالة هامة، وهي تؤكد حضور السيرة الذاتية، بما فيها من تذكر واعتراف وحضور للذات الفاعلة بكثافة.
والواقع أن قصص حسين علي محمد تؤكد اقترابها من مشارف السيرة الذاتية في مواضع كثيرة أشرنا إلى بعض منها، ونشير هاهنا إلى وجه آخر من هذا الاقتراب، وهو أسلوب السرد الذاتي، باستخدام ضمير المتكلم في أكثر من قصة، وفي هذا الأسلوب تبدو التجربة الشخصية مصدرا مهما من مصادر التجربة القصصية، ويظهر السارد بطلا يشارك في الأحداث وينظر عندئذ إلى الشخصيات الأخرى، ويعلق عليها، أو يبين موقفه منها.
ولايعني استمداد الكاتب من سيرته الذاتية أو تجربته الخاصة أنه يوظف ذلك توظيفا فجا أو سافرا، ذلك بعيد عن هذه المجموعة القصصية التي بين أيدينا، فحسين علي محمد – وهو قاص متمرس – يدرك الحد الفاصل بين السيرة والسرد، ويعرف – وهو يوظف جوانب من السيرة الذاتية – أن للقصة – كما هو حال كل جنس أدبي – شروط تكوينها الخاصة، لها عالمها واستقلاليتها، وطريقتها في التفرد.
وعلى أن هذا الالتصاق بالسيرة الذاتية – وإن أضفى على قصص المجموعة – غير قليل من الحميمية والصدق؛ حمل الكاتب أحيانا على الإطالة بذكر جزئيات ذاتية لا تضيف إلى نسيج القصة شيئا ذا بال، إن لم تبد عبئا عليها، كما حدث مثلا في قصة «لن يكلم نفسه في الشارع» حيث نجد تفصيلات كثيرة من التواريخ، وثمن التذكرة، ورقم المقعد على متن الطائرة، وأسماء موضوعات لندوة حضرها وما شاكل ذلك من جزئيات أرهقت نسيج القصة، وجعلت بناءها الفني مترهلا بما لايهم القارئ، ولا يضيف شيئا إلى القصة سوى حرص الكاتب – على ما يبدو – على الإيحاء بالواقعية أو الصدق الموضوعي، وإن كان معيار هذا الصدق – كما يقول ديفد ديتش «يصبح معيارا كاذبا فاضحا إذا هو حكم على الأدب عن طريق الصدق الواقعي المستمد من سيرة المؤلف، أي إذا هو تناول تجارب الأديب أو مشاعره كما شهدت بها الشواهد الخارجية..»(4).
ونجد مثل هذه الفضفضة في التفصيلات والأسماء والأرقام في قصة «الحافلة التي أحلم بها» و«بلا دموع».
2- الســـــــــــــخـــــــــــــريـــــــة:
السخرية أسلوب فني متميز، وهو يعكس فلسفة معينة من الأشياء تصاغ بأسلوب غير مباشر، وهو لذلك أقدر على انتزاع مشاركة المتلقي وحمله على استقبال الرسالة، لما تحمله السخرية من مفارقة ومتعة وطرافة.
وقد وظف حسين علي محمد السخرية في غير موضع من هذه المجموعة، ولا سيما في قصته المتميزة «تلك الليلة» التي تقطر مرارة وسخرية من وضع اجتماعي سياسي مأزوم مفجع، فالرئيس «المؤمن» يزور القدس «عاصمة إسرائيل» مباركا معترفا، وفي الحوار الذي يدور بين البطل كاتب المسرحية وبين صديقه نقرأ: «إن نص الخطاب الذي ألقاه السادات في القدس أكثر من رائع، لأنه يجعل أمريكا اللاعب الأول... ولا مانع من أن نحول هذا الخطاب إلى نص مسرحي يجعل مصر في صورة حسناء تباع في سوق الرقيق بدولارات «مضروبة».
فقال له ضاحكاً:«ولماذا لا نبدأ تجارب إخراج هذا النص بعد أن تستكمل كتابته في القدس المحتلة وفي عيد الأضحى القادم»(4).
ونقرأ في القصة نفسها: «وحاميتهم أمريكا.. التي تمسك أوراق اللعبة كما يقول الرئيس المؤمن، أين ذهبت؟
وأجاب عن سؤاله مقهقها في حزن جريح : «هل أكلتها القطة؟» ونقرأ :«ضحكت سلوى – وهي ممثلة وشاعرة – وهي تتذكر المسؤول الكبير، المعجب بها، الذي يطاردها هاتفيا، والذي يجلس دائما في الصف الأول ولا يشاهد شيئا من أدائها لأنه ينام..»(5).
إن هذه القصة مليئة بكثير من المشاهد والعبارات الساخرة التي تنضح أسى ومرارة على وضع مترد، كما نجد مثل هذا الأسلوب الساخر في مواطن أخرى.
3- الشــــــــــــجـــــــــن:
تنضح قصص هذه المجموعة بشجن دفين، شجن يمتزج فيه الأسى بالسخرية المريرة التي أشرنا إليها، وهو شجن نابع – بشكل خاص – من الإحباط وخيبة الأمل اللذين يبدوان واضحين في القصص؛ فالبطل – الذي قد يكون أحيانا الكاتب نفسه أو قناعا له – يبدو محبطا مهموما في مواطن كثيرة، بدءا من قصة «مجنون أحلام» التي حملت المجموعة عنوانها، ومرورا بـ «برق في خريف» و «شرخ آخر في المرآة» و«أحزان نادية» و «أم داليا» وغيرها.
في « مجنون أحلام» التي تبدو شديدة اللصوق بالكاتب لم يستطع هذا الشاب المصري المدرس في اليمن أن يحقق حلمه بالزواج من «أحلام» الفتاة اليمنية مع أن كلا منهما قد أعجب بصاحبه، حالت دون ذلك حوائل كثيرة، وفي تلاعب القاص الفني الموفق بلفظة «أحلام» واستثماره دلالتها اللغوية، لتحويلها إلى تورية تحمل معنيين: «أحلام الفتاة» و «أحلام جمع حلم» إشارة إلى هذا الإحباط، وأي إحباط أو خيبة أكثر من أن يتهوس الإنسان بأحلام، والأحلام إن هي إلا أضغاث؟
والبطل محبط في قصة «برق في خريف» ولاحظ دلالة العنوان، فالبطل «محمود عماد» ابن الخامسة والخمسين يلتقي «نادية حمدي» ابنة الثالثة والخمسين مصادفة في مدخل محطة مصر، وهي التي أحبها منذ ثلاثين سنة وفرقتهما الظروف هذه المدة الطويلة، «فرجعت إلى ذاكرته ثلاثون سنة من الوجد والانتظار، صاح في قلبه توق قديم إلى وجهها الأبيض الجميل الذي لم يغيره الزمن..» استعاد ذكريات حلوة. كان مايزال وحيدا، وكان يحسب أنها كذلك، كان يحسب أنه وجدها «هاهو ذا قد وجدها، ولن يدعها تفلت منه» هذه المرة كما أفلتت من قبل.
ولكن ما إن يصل العاشقان القديمان إلى نهاية الرحلة في «محطة الرمل» حتى تكون فتاتان دون العشرين على الرصيف في انتظار نادية «عانقت نادية الفتاتين. قالت في همس لمحمود عماد: ابنتاي سما ورنا» العائق الجديد الذي يحول دون قطف سعادة طالما حلم بها. كان ذلك برقا في خريف. «وجد نفسه ثانية، وحيدا في شقته الواسعة».
4- الـــــــــــــــــــرمــــــــــــــــــز
تنتمي قصص هذه المجموعة في أغلبها إلى عالمي الواقعية والرومانسية بأشكالهما المختلفة، ولكن للرمز حضوره كذلك.وقد أحسن القاص حسين علي محمد توظيفه في بعض المواطن، بل توظيفه أحيانا في بعض عناوين القصص.
ولعل أميز توظيف للرمز كان في قصة «عكرمة ..يرفع السلاح» فالقصة قدمت صورة رمزية كلية تمثل صمود صاحب الحق في وجه الدخيل المغتصب، وهي فياضة بالأمل عبرت عن حتمية انتصار الحق بلغة شعرية شفافة مؤثرة :«يا ابن الأرض، هاهي الريح بجانبك، تدفق الدماء في الجسد، وتزهو الريح لأنك نبتها الذي لم ينحن. وتقول: ستقتلع وحش الغابة الذي يهددك بالمحو، ستنتصر على الغريب، فلا تخف..»(5).
وهي تفند أقوال الخوارين المرجفين في المدينة الذين يثبطون العزائم، ويبثون روح الانكسار، ويزعمون أن الغريب قوي ولا سبيل إلى مقاومته، وأن مراكب المقاومة التي يمتلكها البطل الصامد«عكرمة» قد غرقت جميعها.
والرمز في هذه القصة الرائعة لا يتمثل في هذه الصورة الكلية التي أشرنا إليها فحسب، ولكنه يمتد في نسيج القصة كلها: أسماء، وشخصيات، وألفاظا، وعبارات، ويوظف فيها توظيفا فنيا معبرا.
فالبطل المقاوم اسمه «عكرمة» وهو اسم يتناص مع التاريخ، ويحمل دلالات إسلامية، ويعبق بروح الجهاد والفتح والبسالة. والغريب واسمه «بنيامين» ذو دلالة إيحائية لا تخفى، والحارس الذليل الماشي في ركاب هذا الغريب يأتمر بأمره، ويغض الطرف عن جرائمه وفضائحه اسمه «مطيع» والدلالة في هذا الاسم لا تخفى كذلك.
ولعل هذا «الحارس المطيع» هو الحاكم الذي يفترض أن يكون حارسا «للأرض/للعمارة» لا حارسا لمصلحة هذا الغريب المغتصب، يتملقه ويداهنه «ويقارضه على حبل الحوار، بلا حياء، ثناء ونفاقا رخيصا..»(6) ولذلك فهو ليس الحارس الأمين الساهر على مصلحة (العمارة/الأرض) بل هو مرتم في أحضان هذا الغريب، بل كأنه الوجه الآخر له، ومن ثم «فإنهما عند الجميع كشخص واحد: مطيع وبنيامين..»(7).
وتختفي المباشرة تماما في هذه القصة، وتطل عليك الرموز المعبرة، لا في الصورة الكلية للقصة كما ذكرت، ولا في أسماء الشخصيات فحسب، ولكن في كثير جدا من ألفاظ القصة وعباراتها.
يطل عليك الرمز في «الصافنات الجياد» وهو تعبير قرآني ذو دلالة عظيمة، ورد في قوله تعالى في سورة ص: {... إذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْـجِيَادُ #^13^#) (ص)، وهو يرمز إلى الجهاد والشهامة العربية الإسلامية، إذ هي الخيل الواقفة على الحافر، السريعة الجري
يقول الرازي :« وصفت تلك الخيل بوصفين، الأول:الصفون، وهو صفة دالة على فضيلة الفرس. والثاني «الجياد، وهي الشديدة الجري، والمراد وصفها بالفضيلة والكمال في حالي الوقوف والحركة، فإذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعا في جريها»(8).
وهذا الرمز الإسلامي الأصيل المقتبس من الآية القرآنية يقابله في القصة لفظ «البغال» وهو رمز لكل هجين رذيل، ولذلك لا يمكن أن يكون له موطئ قدم في أرض الشرفاء الأصلاء، ولايمكن أن ينتسب إليهم، أو يتزوج منهم «فالصافنات الجياد» لا تحب «البغال» تقول الصافنات في القصة:«هل تظن أني أحببت البغل؟» وتقول مرة أخرى عبارة أسخطت الغريب «بنيامين» فراح «يحدق في جنون، وتتسع حدقتا عينيه، ويتهاوى في قاع الجنون والحضيض» تقول الصافنات:« إن البغال لا تتزوج الصافنات».
ويبدو الرمز أقل إشراقا، ولكنه معبر دال في قصة «ومضة الرحيل» وفيها يوظف الكاتب عبارة السيد المسيح – عليه السلام – المشهورة :«من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر».
وكأن القصة ترمز إلى سوء الظن بالآخرين، والافتراء من غير دليل على أبرياء غير مذنبين، ويقع ذلك من أناس غارقين في الخطايا، ولعل مايعرفونه عن أنفسهم يسقطونه على الآخرين أو يرون الآخرين في مرآتهم هم، فيسيئون الظن بهم، ويروجون من حولهم قالة السوء التي تقضي عليهم >
.................
الهوامش:
(1) مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق: ص502 .
(2) مجنون أحلام: ص7 .
(3) مناهج النقد: ص504 .
(4) مجنون أحلام: ص86-87 .
(5) السابق: ص52 .
(6) السابق: ص50 .
(7) السابق: ص51 .
(8) التفسير الكبير للرازي: 26/204 .
.................................................. ....
*نشرت في مجلة "الأدب الإسلامي" العدد (58) ـ نيسان ـ حزيران 2008م، ص 52 فما بعدها.