بعد 15 عاما من الدوران حول الأرض سقطت "مير" في المكان المحدد لها في المحيط الهادي (160 درجة غربا، 40 درجة جنوبا) على بعد 5800 كم من الشاطئ الشرقي لأستراليا، قبل السادسة صباحا بتوقيت جرينتش يوم الجمعة الموافق 23 مارس، وهذه هي المرة الأولى التي يعود فيها جسم فضائي بهذا الوزن إلى الأرض؛ فمير التي تزن حوالي 137 طنًا كانت أضخم جسم يدور في الفضاء حول الأرض بعد القمر.
وقد تمت عملية السقوط بأمان تام، وأقرب ما يكون إلى ما كان مخططا لها من قبل محطة التحكم الأرضية الروسية؛ ليثبت برنامج الفضاء الروسي للعالم في مشهد نهاية مأسوي، مدى قوته وقدرته، ليس فقط على الصنع، لكن أيضا على التحكم الدقيق فيما صنع.
مير جوهرة التاج الروسية
كانت مير التي ظلت تدور حول الأرض على مدار 15 عاما هي جوهرة التاج الخاصة ببرنامج الفضاء الروسي، ومير التي تعني "السلام" بالروسية كانت بالفعل رمزا للسلام العالمي؛ حيث جمعت على متنها خلال فترة حياتها رواد فضاء وعلماء في علم الكونيات من 12 دولة بالإضافة إلى روسيا.
وقد تم إنشاؤها على أجزاء خلال 10 سنوات بدءاً من عام 1986م التي أرسل فيها الجزء الأساسي من مير، وحتى عام 1996م حيث اكتملت أجزاء مير الست والتي كان كل جزء منها يخدم التجارب العلمية الخاصة بمجال معين.
وقد التحم أول مكوك فضائي أمريكي بمير عام 95، وكان يحمل جزءا خاصا بالمنصة التي يلتحم بها مكوك الفضاء عند زيارته لمير؛ حيث إنه قبل وصول هذا الجزء كان يتحتم تحريك بعض أجزاء مير حتى يمكن أن يلتحم بها المكوك.
وقد ضربت مير معظم الأرقام القياسية الخاصة بالتواجد الإنساني في الفضاء؛ فقد قضت في الفضاء أطول وقت قضاه جسم فضائي من صنع الإنسان في الفضاء وهو 15 عاما. كما قُضِي فيها أطول فترة لإنسان في الفضاء وهي 438 يوما متصلة (ما يوازي رحلة ذهاب إلى المريخ). كما كانت أثقل جسم يدور حول الأرض بخلاف القمر، وأكثر الأماكن الفضائية التي تم زيارتها (أكثر من 100 زائر).
وعلى مدار حياتها، تم على متنها أكثر من 20 ألف تجربة فضائية في مجالات متعدد مثل: الفيزياء الفضائية، والفيزياء الجيولوجية، والطب والأحياء، وتطوير تقنيات الرحلات الفضائية حيث يرجع لتلك التجارب الفضل في معظم تكنولوجيا الفضاء الحالية.
تعرضت مير للعديد من المآزق، كان أولها عام 94 عندما غيرت المحطة اتجاهها؛ مما كاد يودي بحياة الرواد بداخلها نتيجة للنقص المفاجئ للأكسوجين.
وكان عام 97 هو بداية سلسلة من التدهور أدى في النهاية إلى عودة مير إلى الأرض؛ حيث شب حريق كبير على متن المحطة في يناير من ذلك العام، إلا أنه تمت السيطرة عليه سريعا. كما ارتطمت بها سفينة الفضاء الأتوماتيكية "بروجرس" أثناء عملية التحام لإمدادها بالغذاء وبعض الأجهزة المعملية في يونيو؛ مما أدى إلى تمزق أحد أجنحة المحطة التي تحتوي على خلايا شمسية تمد المحطة بالطاقة الكهربية، وحدوث خلل في أحد أجزائها أدى إلى انخفاض مستوى الضغط داخله؛ وبالتالي تم عزل هذا الجزء حتى تم إصلاحه.
وفي يوليو من نفس العام قام أحد أفراد الطاقم بفصل الكبل الخاص بأهم أجهزة الكمبيوتر الخاصة بتوجيه المحطة عن طريق الخطأ؛ مما أدى إلى اختلال توجيه المحطة، ثم توالت أحداث مماثلة على مدار عام 98؛ مما دعا "ناسا" لأن تنصح وكالة الفضاء الروسية بأن تعيد مير حيث لن تستطيع أن تتحمل تكاليف إصلاحها بالإضافة إلى تكاليف المساهمة في إنشاء المحطة الدولية.
ورغم كل تلك المشاكل استطاعت مير أن تظل هرما صامدا لتثبت أن تكنولوجيا الفضاء الروسية ما تزال الأفضل، وكان يمكن أن تستمر رغم انقضاء العمر الافتراضي لها (الذي كان فقط خمس سنوات) إلا أن الروس كنتيجة لتدهور وضعهم الاقتصادي لم يستطيعوا متابعة تمويل مير وصيانتها، بالإضافة إلى اشتراكهم في تشييد محطة الفضاء الدولية، حيث كان على برنامج الفضاء الروسي الاختيار بين الاستمرار في تمويل مير رغم تدهور أحوالها أو المشاركة في إنشاء محطة الفضاء الدولية التي يشترك في تشييدها أكثر من 16 دولة، بتكلفة قد تصل إلى 100 بليون دولار عند تمام إنشائها في نهاية هذا العقد؛ لهذا قرر برنامج الفضاء الروسي إنهاء خدمة مير وإعادتها إلى الأرض.
الروس يودعون مير بالدموع
معظم الروس يعتبر إيداع مير في قبرها المائي في المحيط الهادي من أحزن اللحظات التي قد تمر عليهم؛ حيث إنه بعودة مير إلى الأرض تكون روسيا قد فقدت عرشها في عالم تكنولوجيا الفضاء المتطورة.
ورغم تدهور أحوال مير في الفترة الأخيرة إلا أن وجودها في الفضاء واستمرارها كانا دليلين دامغين في نظر الروس على تواجدهم كقوة عظمى تكنولوجية في علوم الفضاء.
وزاد الموقف سوءا إعلان دولة مثل الصين عن إرسال محطة فضاء خاصة بها؛ حيث يوقن الروس أنهم لن يستطيعوا في الوقت الراهن ومع تدهور الأحوال الاقتصادية إرسال محطة أخرى بدلا من مير؛ فرغم اشتراك روسيا في تشييد المحطة الفضائية الدولية إلا أن هذه المشاركة ستكون ضئيلة حيث تقتصر على نقل الرواد والأجزاء الخاصة بالمحطة بسفن الفضاء الروسية.
الأمريكان وسقوط مير
تابعت وكالة الفضاء الأمريكية سقوط مير عن كثب؛ حيث خصصت موقعا خاصا على الإنترنت يتابع حركتها كل دقيقة حتى لحظة سقوطها، ويتيح لمستخدمه تحديد موقع مير من الأرض بدقة وحتى سقوطها في المحيط الهادي.
كما استطاعت بعض وكالات السياحة الأمريكية الاستفادة من الحدث؛ حيث خصصت رحلات خاصة للذهاب لمشاهدة سقوط مير والعودة، وكان ثمن التذكرة الواحدة حوالي 6500 دولار.. هذا مع العلم أن ناسا رفضت الاستفادة من بعض أجزاء مير تقدر بحوالي 90 مليون دولار عن طريق تركيبها في محطة الفضاء الدولية التي يتم إنشاؤها؛ على اعتبار أنه سيتم إنشاء تلك المحطة على الطراز الأمريكي.
وهكذا يُغلق ملف محطة السلام التي كانت بمثابة أول بيت للإنسان في الفضاء، فاتحا معه الفضاء على مصراعيه لبرنامج الفضاء الأمريكي.