ملاحظة : هذه أولى فصول رواية (( الأخطل على شفا شفرة )) نقدمها تباعاً للقاريء الكريم
المولود المُتقمِّص
كما كلّ أطفال ذاك الريف ، افترش الفقر، لكن لم يكن مثله من التحف التحدي وتوسَّد الطموح .
أجل إنه ككلِّ أبناء القرية ولكنَّ كلّ أبناء القرية ليس مثله....هكذا قال عنه أبناء القرية ....كبارهم وصغارهم .
يذكر أهل القرية أنه عند ولادة الأخطل صرخت الداية التي أشرفت على ولادته : جسم المولود محروق وحروقه تبدو كأنها حصلت للتو ...
وصل الصوت إلى مسامع عمِّه مختار القرية فأسرع إلى ابنه صالح ابن السنوات الخمس والذي تركه نائما للتو فوجده ميتا .
عمَّ الخبر أرجاء القرية .. فأكَّد الجميع ووفقاً لمعتقدهم بأن صالح توفي وتقمَّص بالأخطل لاسيما وأن صالح توفي متأثرا بحروق ألمًّت به أثناء قيامه وبناء على طلب والده باشعال بابور الكاز لتحضير القهوة المرة فاحترقت ثيابه واحترق كامل جسده .
ابن الأخ كان ابنا .. الابن كان ابن أخ ... تملَّكت الحيرة أهل القرية ...هل يعزُّون بوفاة صالح ... أم يباركون بولادة الأخطل ..؟..
لم يكن العزاء أو المباركة الخياران الوحيدان أمام أهل القرية وإنما كان هناك خيار ثالث هو أن يشمت بعضاً من أهل القرية بوالد المتوفى إذ إنَّهم أصبحوا متيقنين أنَّ اليمين التي حلفها بحياة أبنه صالح ليتخلص من دين سبق أن ترتب بذمته لمصلحة أبي ابراهيم جدّ الطفل لأمه وبالتالي فإنَّه القصاص وإنها العدالة .
وتمضي الأيام وأهل القرية يترقبون الطفل المولود جميعهم تساءل هل سيتذكر المولود حياته في الجيل السابق ؟ هل سيروي حكايته مع الموت والولادة ؟ وربما بعضهم ممن تميَّز بإثارة الفتن كان يتمنى لو يتذكر هذا المولود كل شيء وأن يقول بوضوح انه احترق وتوفي نتيجة تلك اليمين الكاذبة .
وأما الجد فلم يكن لينتظر تصريح المولود فقد صحًّ لديه البرهان واعتبر أن المولود من حقه فكناه بكنيته وأخذه ليعيش في كنفه ويرعاه .
لم يشك الجدّ للحظة أن المولود ليس كأي مولود . وربما كان محقا..فأول أبجديات الأخطل الطفل كانت أبجدية الموت والحياة ، أخرجها طازجة من ذكريات ولدت معه ، رواها كما لو حصلت للتو ، كيف مات حرقاً ، وكيف ولد محروقاً ، قصة سمعها منه الكثيرون ، قصة رافقته كظله ، أفرحته أحياناً وأرَّقته أحياناً ، ولكنها فيما بعد أضحت تشكل له حرجا ، إذ أنَّ زوَّار جدِّه من باقي القرى ، وربما من باقي المحافظات والذين يتوافدون لسماع القصة ورؤية الحروق لم يكونوا ليكتفوا بسماع القصة من الطفل ورؤية بعض الحروق في جسده ، بل كانوا يطلبون رؤية كامل الحروق مما يشعره بالحرج الشديد كون أبلغ هذه الحروق توضعت تحت الحزام لهذا كان الطفل يلوذ بالهرب كلما استشعر بقدوم ضيف إلى منزل جده .
- يكبر الأخطل الطفل .... يتميز في صفوف الدراسة ..يتميز في سلوكه العام .. أطلق أهل القرية عليه ألقابا كثيرة .. بعضها كما يزعمون يرمز للذكاء ..وبعضها للجرأة .. وبعضها للشاعرية .
وهنالك من وصفه بالهجَّاء الوقح إذ أنَّه هجا أهل قريته صغاراً وكباراً ومما قاله فيهم :
- بل وأكثر من هذا فقد هجا أقربهم إليه بقوله :إن جئتهم يوما تُسائلهم من سيداً 00 فيكم ؟ أشاروا إلى كرٍّ لهم
هو ذا فهل في ذاك معصـــــــية ؟ 00 أن يُكرِم كِرامُ القـوم كرّهم
أما أحب الناس إليه وهم أخواله فقد سماه بعضهم بالصدِّيق المدَّاح.أبا قيدرٍ معاذ الله أُنـســيهِ 00 ولاأقولن فيه غير ما فيــــــه
له امرأة شــمطاءُ مقرفـةٌ 00 ألا لعنة الله تخذيها وتخذيـــهِ
وبنوة لو إلى الشيطان قد 00 نُسبوا لأنكرالشيطان كلَّ بنيهِ
وقد سأله أحد أصدقائه مستغربا تواضعه أمام أخواله وجرأته أمام أعمامه فقال:
إني زعيمٌ بين قومي أَسوسُـــهم 00 حباً ولا ينقصْـنَني في ذاك حزمُهكذا ابتدأ الأخطل وهو يخطُّ بصمات تميُّزه الواحدة تلو الأخرى وكم تمنى لو أنَّه شاهد ابتسامات أبيه السابق والد صالح تشارك ابتسامات أبيه الحاليّ في التصفيق لتميزه . لقد توفي والد صالح وهو يُصرُّ على مناداة الأخطل باسم صالح ، ولطالما ردَّد في السرِّ وفي العلن قوله تعالى :
ولكنَّني في حضرة الأخوال أغدو 00 خادماً وأغدو عند هاماتهم قزمُ
((ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب )).
الأخطل الحمصي