قصة قصيرة
الساعات
«إن رأيت العالم في ذرة من الرمال، والسماء في زهرة برية، فقد أمسكت باللانهاية في راحة يدك، وبالأزل في ساعة من الزمان»
وليم بليك
كأنني أراه هذا المساء:
رجل كبير ملتح، وربما كان عمره مئات أو ألوف السنوات، وكان جاراً لنا يسكن البناية المجاورة، مثلنا في الطابق الثالث، يقف على شرفة منزله ذات مساء، وبيده مجموعة كبيرة من الساعات مختلفة الحجوم والألوان والاشكال، ويأتي بها الى الكورنيش البحري الذي لا يسير فيه أي عابر أو سيارة أو حصان، وما ان تلامس الساعات أرض الكورنيش حتى تمشي متثاقلة نحو البحر لتغرق فيه، بينما تبدو الشمس، وهي تغرق في الأفق البحري، وكأنها ساعة من هذه الساعات التي تغرق في البحر.
كان جارنا يلقي الساعات صامتاً في مساء ضبابي صامت، وكورنيش بحري صامت، أمام شمس تغرق صامتة في مدى البحر، وكأن المشهد عرض سينمائي صامت، دون أصوات أو حركات أخرى في خلفية المشهد.
ها أنذا أراه الآن: الرجل الصامت يرمي ساعات كثيرة مختلفة الحجوم والألوان والأشكال الى الكورنيش البحري الصامت، وهاأنذا أرى الساعات المختلفة تسير متثاقلة الى البحر باتجاه الشمس التي تغرق متئدة في أقصى البحر، هاأنذا أرى المشهد- الرجل، جارنا الذي رأيته للمرة الأولى وأنا عجوز في السابعة من عمري في مدينة طرطوس، ولكنني عدت ورأيت الرجل- المشهد كثيراً فيما بعد، فقد كان المشهد المسائي هو حلمي المتكرر يومياً، تقريباً، منذ ذاك الوقت، والى الآن، وأنا طفل في الألف من عمري أقف، هذه اللحظة، على شرفة منزلي، أرمي بساعات مختلفة الحجوم والألوان والاشكال الى كورنيش بحري صامت، في مداه شمس تغرق هادئة في البحر الصامت، وليس ثمة انسان، او سيارة، أو حصان، أو ساعة، ليس ثمة وردة أو شجرة، او حتى حجر على هذا الكورنيش البحري الضبابي:
كأنني شخصية كرتونية على شاشة عرض شريط سينمائي صامت، بطيء وغائم الظلال والملامح.
محمد كامل الخطيب- جريدة البعث