مصطفى إنشاصيهيــكل سليمـان المـزعــوم فـي عـلم الآثـار (الحلقة السابعة)
يحاول العدو الصهيوني وأنصاره من علماء الآثار بيع الأسطورة على أنها تاريخ، ويطلبون من العالم تصديقها، على الرغم من قيام علماء الآثار من اليهود وغيرهم بحفر كل شبر من فلسطين، وعدم عثورهم على ما يشير إلى صدق الأسطورة التوراتية عن فتح داود u لمدينة يبوس على الرغم من حصانتها وبناء (الهيكل المزعوم). وذلك ما تعترف به التوراة نفسها عند ذكرها محاولة داود فتح مدينة القدس، وأن أهلها رفضوا تسليمها له وهددوه بالدفاع عنها بالقوة، وأن داود انصرف عن المدينة إلى مكان آخر كما تقدم معنا في الفصل الأول ـ وبنى ـ عليه مدينة سميت (مدينة داود)، وأنه أرسل إلى ملك صور كي يساعده في بناء (هيكل) لأن اليهود لم يكونوا أهل حضارة وعلوم وكانوا جهلة في أمور كثير، وأن الذين بنوا (الهيكل) هم مهندسين وبنائين من مدينة صور: "ثم تقدم الملك بقواته نحو أورشليم لمحاربة أهلها اليبوسيين ... غير أن داود استولى على حصن صهيون المعروف الآن بمدينة داود ... وأقام داود في الحصن ودعاه مدينة داود ... وأرسل حيرام ملك صور وفداً إلى داود محملاً بخشب أرز ونجارين وبنائين فشيدوا لداود قصراً". (يُراجع سِفر صموئيل الثاني: 5/4ـ12).3 ـ كذبة كتبة التوراة
وبحسب ما ورد في التوراة من مواصفات لمدينة القدس يرى علماء الآثار عند تقديرهم لمساحة (مدينة داود): {أن المدينة التي كانت قائمة في زمن داود على شكل قلعة تحيط بها الأسوار لا تتجاوز مساحتها 44 ألف متر مربع أو حوالي عشرة أفدنة تحتل الجزء الجنوبي الشرقي فقط من المدينة القديمة الحالية وهي على شكل مستطيل أكثر أجزائه اتساعاً لا يتجاوز عرضه مائة متر، ويحده من الشرق وادي كدرون ومن الغرب وادي حنوم الذي ينحني شرقاً جنوب المدينة ليلتقي مع وادي كدرون، أما الأرض المقدسة وهي المسطح الذي تقام عليه الآن قبة الصخرة والمسجد الأقصى والذي يقع على جزء أكثر ارتفاعاً خلف مدينة الأزمنة القديمة فقد كان يقع خارج أسوار القدس وتعتبر مذبحاً لليبوسيين الذين سكنوا القدس في تلك الحقبة من الزمن.. وعين الماء التي يتحدث عنها سفر صموئيل هي عين العذراء أو عين أم الدرج الحالية والتي كانت تقع أسفل شمال شرقي المدينة ... كما تمكن الأثريون من العثور على البئر التي حفرها اليبوسيين للوصول إلى نبع الماء، كما عثروا على أجزاء كبيرة من الأسوار واستحكامات قديمة، ولكنهم لم يجدوا ما يدل على أثر تحطيم أي من الاستحكامات، ولا لبناء استحكامات جديدة في عصر داود خلال القرن العاشر قبل الميلاد، وإن كانوا قد عثروا على ما يثبت تجديد بعض الأسوار قبل ذلك بأربعة قرون}[i].
معنى ذلك أن ما يقوم به كيان العدو الصهيوني اليوم في القدس من طرد لأهالي حي سلوان وغيره من الأحياء الفلسطينية المجاورة للمسجد الأقصى، واغتصاب منازلهم والاستيلاء عليها بالقوة وإسكان مستجلبين يهود من شتات الأرض فيها، وكذلك انتهاكه حرمة مقابر المسلمين واغتصابها وإقامة المشاريع الصهيونية الدينية والعامة عليها...إلخ، بزعم أنها تقع مكان ما يزعم أنه (مدينة داود) التي تمتد إلى داخل سور المسجد الأقصى، وأنه يريد استرجاع تاريخه وأرضه وإعادة بناء تلك المدينة الوهم، ذلك وغيره يعتبر محاولة طمس وإلغاء وشطب تاريخ وحضارة الشعب الفلسطيني بالقوة، وتغيير واقع قائم بكل معالمه التاريخية والجغرافية والحضارية، لصالح تاريخ وحضارة (يهودية) مزعومة، واختلاق واقع وتكريس وجود لشعب لم يسكن أجداده هذه الأرض ولا سمعوا بها يوماً.في تسعينيّات القرن الماضي، طرحت بلديّة الاحتلال في القدس مشروع تهويد المنطقة التي يُسمّيها الاحتلال (الحوض المقدّس)، وهي تشمل البلدة القديمة بكاملها وأجزاءً واسعة من الأحياء والضواحي المحيطة بها؛ حيّ الشيخ جراح ووداي الجوز في الشمال، ضاحية الطور في الشرق، وضاحية سلوان في الجنوب، يهدف المشروع إلى إنشاء مدينة أثريّة مطابقة للوصف التوراتيّ (لأورشليم المقدّسة) أسفل المسجد الأقصى وفي ضاحية سلوان وأجزاء من الحيّ الإسلاميّ في البلدة القديمة، وربط هذه المدينة بمجموعةٍ من الحدائق والمنتزهات والمتاحف والمواقع الأثريّة المقامة فوق الأرض في محيط البلدة القديمة، وخصوصاً في جنوبها حيث ضاحية سلوان وفي شرقها حيث جبل الزيتون وضاحية الطور[ii].4 ـ مدينة القدس الحالية ليست مدينة داود
وما يُكذب ذلك الزعم الصهيوني ويجعل مما يقومون به جريمة من أبشع الجرائم بحق شعب فلسطين، الذي فلسطين هي أرضه منذ فجر التاريخ، لم يعرف له وطناً غيرها ولا تركها أو فرط فيها يوماً، ما قام به علماء الآثار الغربيون منذ منتصف القرن التاسع عشر من حفريات وتنقيبات أثرية في كل شبر من جبال وأرض القدس للبحث عن قلعة اليبوسيين، على ضوء ما أوردته التوراة، ولم يعثروا على قطعة أثرية واحدة أو أي دليل يشير لما زعمته التوراة عن (مدينة داود) و(هيكل) وسليمان، أو الوجود التاريخي والحضاري الأسطوري والمزعوم لليهود في فلسطين منذ فجر التاريخ! علماً أن الأستاذ (سعود أبو محفوظ) عضو مجلس أمناء مؤسسة القدس في ندوة "هوية القدس بين الطمس والإحياء "، التي نظمتها لجنة الشئون العربية بنقابة الصحفيين بالقاهرة (مساء الاثنين 23 ديسمبر 2002) أكد: "أنه بعد 55 بعثة على مدار 164 سنة بحثت ونقبت لم تجد أثراً واحداً في القدس يدل على أحقية اليهود فيها، فالحقائق تؤكد أن 80% من آثار القدس إسلامية ، 18% مسيحية و2% آثار وثنية اندثرت. ولكن اليهود في الوقت الذي لم يجدوا فيه أثراً واحداً لهم قد زيفوا وغيروا 1200 مصطلحاً داخل القدس، وحرب المصطلحات أكبر وأنكي من الحرب السياسية والعسكرية، غيروا المفاهيم، والتغيير لم يبدأ مع قيام الدولة بل بدأ سابقاً من القرن الماضي من 1838". {ففي سنة 1869 إلى 1870 قام عالم الحفريات البريطاني الأُستاذ شارلز وارن بحفريات خارج السور الجنوبي الشرقي من المسجد الأقصى، وقام بعده بثلاثين عاماً العالم بلس والعالم الأمريكي ديكى بتنقيبات أُخرى في المكان نفسه، وبعد ثلاثين سنة أُخرى جدد مكلستر الحفر والتنقيب، وفي سنة 1960م قامت الآنسة كثلين كيون باسم المدرسة البريطانية، وانضمت إليها المدارس الفرنسية والأمريكية بإعادة البحث والحفر والتنقيب في المكان الذي نقبت فيه البعثات السابقة، وبدأت الحفريات في السفح المنحدر من وادي سلوان إلى عين أم الدرج فظهر لها أن ما ظنته البعثات السابقة سور المدينة اليبوسية التي احتلها داود كان هو السور الروماني القائم على أسس يونانية لا تتجاوز القرن الثالث قبل الميلاد، كما عثرت على آبار وصهاريج تعود إلى المدينة الرومانية التي بناها هادريان سنة 135م باسم إيليا كابتولينا. وكانت كلما وسعت الحفر نحو الشمال كانت تقترب من التحصينات القديمة حتى انتهت إلى سور يمكن إرجاعه إلى سنة 1800 قبل الميلاد، وهو السور اليبوسي الذي وقف في وجه الإسرائيليين قروناً. وأتمت الدكتورة كثلين موسم حفرياتها الأول بنتائج عدم العثور على أي أثر لليهود، ثم في موسمها الثاني سنة 1962 ثبت لها أن تلك الأسوار هدمت أربع مرات وأُعيد بناؤها أربع مرات أيضاً. وفي موسم البحث الذي كان في سنة 1964 خلصت كينيون إلى أن: المدينة اليبوسية المسماة (أورشليم) أو (يبوس) كانت في الشرق من أسوار المسجد الأقصى وعلى السفح إلى وادي قدرون، ولم تكن على جبل موريا حيث يقوم المسجد اليوم}[iii].
وتعلق مارغريت شتاينر على النتائج التي توصلت لها كينيون: "وعلى عكس المنقبين من قبلها، لم تكن كينيون عالمة آثار توراتية، أي مُنقبة تقوم ببحثها الأركيولوجي كجزء من اهتماماتها ودراساتها الكتابية، فعلم الآثار في فلسطين كان بالنسبة لها فرعاً من علم الآثار العالمي، مهمته معرفة العالم القديم من خلال البحث المنهجي والتطبيق الصارم للطرائق العلمية، ومن هنا فإن غايات كينيون لم تكن ذات صلة بالكتاب المقدس، وإنما تاريخية بالمعنى الواسع للكلمة"[iv]. ذلك ما جعل لنتائج حفريات كينيون هذه الأهمية الخطيرة "إذ تؤكد أن (هيكل) سليمان لم يكن تحت الحرم في جبل فريا، ولم يكن في الجزء الجنوبي الغربي منه، حيث يتم مخطط الحفريات (الإسرائيلية) منذ الستينيات من القرن العشرين"[v]. لأن التوراة ترى أن (هيكل) سليمان بُني على أرض سهلة في القدس، "وعندما نقارن المساحة التي ذكرتها التوراة والتي بنى سليمان عليها (هيكله) مع المساحة الحقيقية لمنطقة القدس؛ وجدنا كما وجد علماء الآثار أنه لا توجد بقعة في جبال القدس تتسع لهذا الهيكل أي أن المساحة المزعومة في التوراة لا تتطابق ألبته مع المساحة الجغرافية للأماكن الفارغة في العمران في القدس"[vi].
وهذا الاختلاف راجع إلى أن (حزقيال) نبي المنفى البابلي الذي ذَكر لأول مرة تفاصيل مدينة القدس و(الهيكل)، يبدو أنه عندما انبهر بمعابد وهياكل البابليين الضخمة والفسيحة، استصغر مساحة الصرح الذي بناه سليمان u، لذلك سرح بخياله وتخيل هيكلاً بساحاته الفسيحة وجنانه المتعددة، الذي تحيط به الأبنية والشوارع الواسعة، متأثراً بذل المنفى. ففي بحثه عن "الأصول الكنعانية للهيكل" قال جان باديست أومبير، عالم الآثار بالمدرسة التوراتية والأثرية الفرنسية في القدس: "إن (هيكل) سليمان يعتبر (لغزاً)؛ فلم يبقَ منه حجر واحد يُرى، و(ربما) تكون هناك بقايا منه تحت ساحة قبة الصخرة، ولكن علماء الآثار قد انتهوا في بحوثهم إلى مجرد (تخمينات) في محاولاتهم لتحديد مكان لـ(لهيكل)، وقال: إن وصف سفر الملوك لـ(لهيكل) يتعلق بمبنى متأخر في الزمان عن (هيكل) سليمان، وأن وصف حزقيال لـ(لهيكل) يعتبر وصفاً رمزياً ويتعلق بفترة متأخرة أيضاً"[vii].
[i]خالد محمد غازي، مرجع سابق، ص93.
[ii] موقع مؤسسة القدس الدولية الالكتروني، "حقيقة ما يجري في حيّ البستان"، (الجمعة 27/2/2009).
[iii] أحمد عبد الغفار عطار، عروبة فلسطين والقدس، دار الأندلس بيروت، الطبعة الخامسة ا400هـ ـ 1980م، ص83ـ85.
[iv] القدس أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ، مجموعة من الكتاب الغربيين، (مارغريت شتاينر، "حدود متوسعة: تطور أورشليم في عصر الحديد"، تحرير توماس ل. تومبسون، بالتعاون مع: دكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، ترجمة دكتور فراس السواح، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، آب/أغسطس2003، ص108.
[v]عبد التواب مصطفى، نقض شريعة الهيكل وكيف تعود القدس، مركز الإعلام العربي، سلسلة كتاب القدس (15)، الطبعة الأولى 2003م، ص34.
[vi]حسن الباش، مرجع سابق، ص55.
[vii]عبد التواب مصطفى، مرجع سابق، ص33.