رواية ضابط سوري*
تاريخ النشر: 22/02/2007
مؤسسة فلسطين للثقافه
محمد هشام العظم
هذا جزء من مذكرات عن حرب فلسطين 1948 يعدها الكاتب العسكري العربي محمد هشام العظم الذي اشترك في هذه الحرب كضابط في جيش الإنقاذ ثم شغل بعد ذلك العديد من المناصب العسكرية في الجيش السوري.
مقدمة:
اطلعت في العدد 21 من مجلة شؤون فلسطينية على مقال كتبه الأخ جادو عز الدين حول سقوط صفد سنة 1948، وبالرغم من أن الكاتب قد دعا في مقاله جميع الأحياء ممن حضروا المعركة أو شاهدوا المأساة إلى المبادرة لتوضيح ما غمض عليه، ولتصحيح ما أغفلته الذاكرة، فقد رأيتني مستجيباً لهذه الدعوة بدافعين، أولهما : أنني كنت ممن خاضوا غمار هذه المعركة، لا بل كنت في قلبها، أي قلب المدينة لا خارجها، وثانيهما: فلابد من إجلاء الأمور ولابد من توضيح المسائل.
وأراني مضطراً إلى الاعتراف بأن اعتمادي على الذاكرة في هذا الموضوع كان كاعتماد الآخرين عليه، ولكن شهود العيان هم دائماً أذكر للمشاهد وأكثر معرفة بالحوادث ومجرياتها، بحكم وجودهم فيها ومعاناتهم لها،
على هذا التقدير فقد أغنانا الأخ جادو عز الدين في الشرح بما شاهده ووقف عليه خارج المدينة، فأتى على ذكره بإسهاب وتفصيل لا يحتاجان إلى مزيد، وإن كان لنا عليه بعض الملاحظات كما سيأتي،
وعلى هذا الأساس فإنني أدعو القراء إلى معاودة الاطلاع على مقال الأخ جادو عز الدين على سبيل استكمال المعرفة لا على سبيل المقارنة، لأنه قد أتى في شرحه على كثير من الأمور في داخل المدينة أيضاً، بما يتوجب على المشاهد أن يذكرها على حقيقتها خدمة للتاريخ،
وقد يكون لكل موضوع عدة أشكال من العرض لا تختلف باختلاف وجهات النظر المتفاوتة فحسب، وإنما باختلاف طرق العرض أيضاً، وإن أدت بالنتيجة إلى هدف واحد،
وما دامت الذاكرة هي مرجع الاثنين معاً فليعذرني الأخ جادو إذا أضفت شيئاً أو نفيت شيئاً، أو ركزت على أمور لم يتطرق عليها في مقاله،
تمهيد:
دخلت فلسطين في منتصف شهر كانون الأول سنة 1947م مع سرية إدلب، وكنت معاوناً لآمر السرية الرئيس الأول(الرائد) عبد الغفور حميدان، وقد شُكّلت هذه السرية من عناصر عسكرية سبقت لها الخدمة في جيش الشرق أيام الفرنسيين في سورية، وقد جمعها السيد غالب العياشي نائب إدلب وأتى بها إلى معسكرات قطنا، حيث كنا فيها ندرب هؤلاء المتطوعين الوافدين إليها من كافة الأنحاء السورية والعربية، وبما أن هذه العناصر كان لها خدمة عسكرية سابقة، فقد اكتفت القيادة بتوزيع التجهيزات والأسلحة والذخيرة عليها، وأمرت بتشكيلها نظاميا بعد التحاقي بها، ثم طلب منها التحرك بها فوراً للالتحاق بفوج المقدم أديب الشيشكلي في الجليل،
وبعد ثلاثة أيام كانت السرية مستكملة تشكيلها وتجهيزاتها وأسلحتها وعتادها، فتحركت سياراتها إلى الحدود اللبنانية، حيث رافقها ضابط ارتباط لبناني إلى مرج عيون، ومنها تقدمت إلى صيدا وصور ثم إلى رميش وهي قرية لبنانية على الحدود الجنوبية، حيث ترجلت السرية وتابعت سيرها على الأقدام مستعينة بدليل كان ينتظرها على الحدود، وقد سلك الدليل بها طريق وعرة بين طربيخا غرباً ودير القاسي شرقاً باتجاه سحماتا، متحاشياً في ذلك السير على الطرقات العامة تجنباً للاصطدام مع الدوريات الإنكليزية،
وفي سحماتا استقبلنا المقدم الشيشكلي، فتعرف على السرية وأفرادها، ثم قادنا إلى قرية كفر سميع ومنها إلى دير الأسد، فأقمنا فيها مدة من الزمن، كانت ضرورية للتعرف على الأرض، والانسجام مع الجو الذي كان يسود البلاد آنذاك، ثم ما لبثنا أن استدعينا في مهمة عاجلة للانتقال سيراً على الأقدام إلى القديرية، فاجتزنا منطقة الزيتون في دير الأسد والرامة والفرادة حتى دخلنا منطقة القديرية، وهي منطقة جبلية وعرة ذات صخور مدببة حادة تارة أو مسطحة مسنونة كحد السيف تارة أخرى، علاوة على أن بضع خطوات تفصل ما بين رجلين كانت كافية لقطع الاتصال وحتى الرؤية في بعض الأماكن، وكانت هذه المنطقة مطلة على بحيرة طبريا، ومشرفة على طريق صفد-طبريا، وذات مناخ دافىء في الشتاء، وهي تجاور غرباً منطقة الزنغرية المقابلة للبطيحة السورية، وما لبث الشيشكلي أن لحق بنا مع سرية القيادة وأقام معنا في تلك القرية،
كانت مهمتنا تنحصر في حرب العصابات، فكنا نرابط على الطريق ونتعرض إلى القوافل المعادية، ثم ننسحب بسرعة إلى القرية معتصمين بها و بوعورتها خشية الاصطدام مع الجيش الإنكليزي، ومع ذلك فقد اشتبكنا مع الإنكليز ثلاث مرات عندما كانوا يدخلون لإنقاذ القوافل.
ثم انتقلنا إلى بيت جن في جبال الجرمق بعد معركة حامية مع الإنكليز حيث أقمنا فيها مدة من الزمن انتقلنا بعدها إلى قرية السموعي، الواقعة على السفح الشرقي لجبال الجرمق، ومواجهة لهضبة صفد، وكانت هذه القرية مطلة على الطريق العام صفد-الفرادة-عكا، فأقمنا فيها مدة كنا نتابع فيها مهمتنا الأولى في ضرب القوافل على طريق طبريا-صفد، هذا على الرغم من بُعد الشقة ووعورة الطريق، إذ كانت جميع تنقلاتنا سيراً على الأقدام ذهاباً وإياباً،
معركة صفد:
بدأت صفد تستأثر باهتمام القيادة نظراً لموقعها الاستراتيجي الهام، ولكونها قلعة الجليل وعقدة مواصلاته المشرفة على عقد مواصلات أخرى في الشرق والغرب، فكانت بالنسبة إلى العدو مشرفة بموقعها وبجبل كنعان الملاصق لها على سهل الحولة والمستعمرات القريبة كالجاعونة، ومتحكمة بطريق طبريا- الحولة، ومسيطرة بحكم الارتفاع على كافة ما حولها من المناطق.
كانت المدينة منقسمة إلى قسمين: الحي العربي إلى الشرق والحي اليهودي إلى الغرب، وكان جبل كنعان مشرفاً على الحيين معاً إلى جهة الشمال، وكانت القلعة تفصل في جزء من المدينة الحيين عن بعضهما بعضا، وكان يقع على سفح جبل كنعان من الجهة الجنوبية، أي ما بينه وبين الحي العربي من المدينة، مركز البوليس وكان بيد الجيش الإنكليزي،
كان جبل كنعان بيد العدو، وكان مشرفاً ومتحكماً بالمنطقة والمدينة، وخاصة على طريق التموين الرئيسية، وهي صفد-الجاعونة-طبريا، وكان للعدو في هذا الجبل مستعمرة "بيريا" القوية، وكان إلى الأسفل منها بيريا العربية وهي قرية صغيرة محدودة القوى الدفاعية.
وعلى السفح الغربي منه كانت تقوم قرية عين زيتون العربية، وإلى غربها مستعمرة عين زيتيم اليهودية، ويحيط بها على شكل قوس القرى العربية التالية:دلاتا، وطيطبا، وقديثا، والصفصاف، وكان الاتصال بالحي اليهودي تمويناً واتصالاً، وإنما يجري تحت إشراف الجيش الإنكليزي.
كان العرب يحتلون الحي العربي إلى الشرق من المدينة، وكانت الجهة الشرقية من المدينة مكشوفة تماماً، وليس وراءها قرى عربية تسترها وتحميها من الشرق، أما في الجهة الغربية فكانت عين زيتون وبيريا العربيتين غير مشغولتين بقوات الإنقاذ ومكتفيتين بالمسلحين من أهالي القريتين، وهم قليلون نسبياً، وكان القوس المؤلف من القرى المحيطة بصفد محتلا بقوى فوج اليرموك الثاني ومشرفاً على الطريق المؤدية من صفد إلى عكا، ومن صفد إلى الناصرة (عند قرية الفرادة إلى الجنوب)،
يلاحظ من هذا التقسيم أن المنطقتين كانتا موزعتين كما يلي: المنطقة الشرقية بيد العدو(باستثناء المدينة)، والغريبة بيد العرب، (باستثناء عين زيتيم) ولكن النقطة الحاكمة الهامة، وهي جبل كنعان، كانت بيد العدو، ويتصل بمستعمرة عين زيتيم التي كانت تشكل مخفراً أمامياً قوياً للدفاع عن صفد من جهة الغرب،
بدء المعركة:
بدأت معركة صفد عملياً من خارجها، فكان لزاماً على القيادة أن تحكم الطوق حول المدينة، فأمرت سريتنا أن تنتقل إلى قرية دلاتا، فشكلت بذلك الطرف الأيسر للقوس المضروب حول المدينة من الغرب، ولكن مستعمرة عين زيتيم كانت تقف حائلاً دون التمكن من التأثير المباشر على الحي اليهودي من المدينة، ولقد قام المقدم شيشكلي بعدة محاولات لاحتلال المستعمرة، وجرت حولها عدة معارك محلية صغيرة، ولكن جميع المحاولات باءت بالفشل، وقصفت المستعمرة بالهاون 81مم عدة مرات، وكان من نتيجة القصف أن زادت التحصينات الداخلية والخارجية في المستعمرة كما أفاد الاستطلاع المستمر.
وكان الملازم الأول إحسان كم الماز( من الجيش السوري) في صفد، فقد هرب من الجيش حماسة ونخوة، واصطحب معه عدة عناصر من رتباء الجيش ومن تلامذته، ودخل مدينة صفد، فأحبه الأهلون واستلم قيادتهم، فكان يقود في المدينة جميع المناوشات والاشتباكات المستمرة مع اليهود من جهة، ومع الإنكليز من جهة ثانية في بعض الأحيان، ولكن هذه المناوشات لم تكن إلا لإثبات الوجود العربي في تلك المدينة، ولم يكن لها تأثير حاسم ولم تحقق أي غرض عسكري سوى احتلال مركز البوليس.
وفجأة أعلن الإنكليز إخلاءهم لمدينة صفد، وبدؤوا بإغراء الفريقين العرب واليهود للتسابق إلى احتلال المركز واختطافه من الفريق الآخر، فقامت عناصر التغطية الإنكليزية(حسب الرواية العربية المتواترة) تضرب الفريقين معاً في آن واحد حماية لانسحابها، ولكن الرواية العربية تضيف أن الجيش الإنكليزي كان يركز في ضربه على العرب أكثر من اليهود، حتى يتاح لليهود السبق في الاحتلال، ولكن الملازم الأول إحسان كم الماز استطاع بحيويته وشجاعته وبما جمعه حوله من المجاهدين الصفديين أن يسبق إلى الاحتلال والتمركز، وأن يدافع عن المركز ضد الفريقين في البدء ثم ضد اليهود في النهاية وبقي المركز بيد العرب، فأكسبهم ميزة دفاعية جيدة، وحسن كثيرا من قوة دفاعهم، لان مركز البوليس كان يشرف على الحي العربي أكثر من إشرافه على الحي اليهودي، وإن بقي جبل كنعان مشرفاً عليه، وبهذا الاحتلال فاتت على اليهود فرصة ثمينة جداً في كسب المعركة بل في تأخير هذا الكسب مدة أطول.
قلب هذا الوضع الطارئ خطط المقدم شيشكلي رأساً على عقب، فبينما كان مستمراً في تحضيراته للاستيلاء على مستعمرة عين زيتيم لتضيق الحصار على الحي اليهودي وإيقاعه بعد احتلال المستعمرة تحت تأثير الضرب المباشر من قبل القوات العربية، نراه يُرجئ هذا الأمر إلى موعد آخر، ويسرع في نجدة حامية صفد داخل المدينة، لأنها إن احتلت وسقطت المدينة لم يعد بوسعه البقاء حولها( كما حدث فيما بعد)، ناهيك بفقد الموقع الإستراتيجي الهام، وليؤمن المقدم شيشكلي تنفيذ مهمته جمع القوات التالية:
السرية الأردنية بقيادة النقيب ساري الفنيش، وكانت متمركزة في ترشيحا على ما أذكر.
فصيلة من سرية القيادة(متطوعون سوريون) وزمرة هاون 81مم (مدفع هاون) بقيادة آمر السرية الملازم عبد الحميد سراج.
فصيلة وحضيرة من سرية إدلب بقيادتي.
جرت هذه التحركات ليلاً إلى مخفر الظاهرية، ثم منه سيراً على الأقدام إلى وادي الطواحين ثم صعودا إلى المدينة من الجهة الجنوبية، وكان الوادي شديد الانحدار وعراً ذو شجر كثيف ولا يصلح إلا للسير بالرتل الأحادي وبكل تؤدة نظراً لضيق الدرب، وخشية الانزلاق على الأراضي المبتلة من المطر، ودخلنا صفد مع الفجر ثم لحقنا الأردنيون، (أذكر أن تاريخ هذا التحرك إنما كان في أواخر النصف الأول من شهر نيسان عام48) ثم جرى توزيع المهمات كما يلي:
كُلّف الملازم حافظ (أردني) باحتلال مركز البوليس والدفاع عنه بقوة تتألف من فصيلة من السرية الأردنية ومتطوعين فلسطينيين.
كُلّف الملازم سراج باحتلال القلعة وعمارة الحاج فؤاد، بقوة تضم حضيرتين للقلعة، وحضيرة واحدة للعمارة ومتطوعين فلسطينيين،
كُلّف الملازم هشام العظم بالدفاع عن شرقي المدينة بما في ذلك المستشفى ( وكان الشرق مكشوفاً كما أسلفنا) وتأمين الاتصال مع مركز البوليس بواسطة النظر، وكانت قواته تتألف من فصيلة وحضيرة من المتطوعين السوريين (سرية إدلب)،
كُلّف الملازم الأول أميل جميعان بالدفاع عن مركز القيادة (مقر رئاسة البلدية) بالإضافة إلى مهمته كمعاون لقائد الحامية،
زمرة الهاون 81مم تحت تصرف قائد الحامية، وكان مركزها إلى الشرق من مقر الرئاسة (ما بين الجبانة ومقر القيادة) وكان آمرها الرقيب محمد قاسم الطوقتلي وهو وأفراد زمرته من المتطوعين السوريين من سرية قيادة فوج اليرموك الثاني، وكان هذه المدفع هو سلاح الإسناد الوحيد في صفد.
التموين: كان واقعاً على عاتق القيادة التي استخدمت البغال لتأمين التموين عبر وادي الطواحين،
المواصلات: كانت جميع المراكز الدفاعية مرتبطة بشبكة سلكية، وكان الاتصال الهاتفي مستمراً مع جميع المراكز، أما الاتصال بالقيادة فكان يتم بواسطة جهاز لاسلكي في المركز، وبواسطة عناصر التموين، تم توزيع هذه المهمات شفوياُ وبسرعة، وكان الاعتماد في التنفيذ على بداهة الضباط وفطنتهم، دون أن يكون لقيادة الحامية أي إشراف على التمركز أو أي تدخل في تعديله أو إقراره أو حتى التفتيش عليه، ناهيك بعدم وجود أي مخطط للدفاع بشكله النظامي المعروف، مما جعلنا نعتقد أن مجيئنا إلى صفد إنما كان للتعزيز و استمرار الوجود العربي فيها، وكنا آنذاك ضباطاً صغارا، لا نملك حرية التصرف ولا نجد مجالاً لقلب الفوضى إلى نظام، فقد كانت هذه المسألة من أعقد الأمور، إذ لم يستطع حتى قادتنا أن يؤثروا فيها أو يجدوا لها حلاً، ومع ذلك فقد تم التمركز بأسرع ما يمكن، واستؤنفت المناوشات المستمرة، بل شاركت العناصر الجديدة بالمناوشات والدفاع بشكل مجد وبسرعة مما أعاد الاطمئنان إلى النفوس وأعاد الثقة بقوة الدفاع.
وقبل أن أمضي في وصف المعركة لا بد لي من التوقف هنيهة عند التموين، فقد كانت مشكلته من أكثر المشاكل تعقيداً، وبالرغم بأنها لم تواجه بما يليق بها من العناية، إلا أن الوسائط المتيسرة، والواقع العسكري قد حكماها بشدة مما جعلها مدعاة للشفقة، ذلك أن الواقع العسكري جعل كلاً من الطرفين المتحاربين يعتقد خطأ أن كل واحد منهما يحاصر الآخر، ولكن الحقيقة أن العرب كانوا هم المحاصرين أو شبه المحاصرين، فقد كان اليهود يؤمنون طريق التموين إلى الحي اليهودي عن طريق الجاعونة- صفد، وعندما سقطت عين زيتون العربية، أصبحت الطريق مفتوحة تماماً أمام قوافلها الآلية، أما نحن فقد كانت جميع الطرق مسدودة أمامنا، باستثناء مسلك وادي الطواحين، وهو مسلك لا يصلح إلا للراجل الواحد والدابة الواحدة، ويتعرض السائر عليه لمخاطر الانزلاق والتردي إلى الوادي.
وقد استخدم المقدم الشيشكلي البغال والدواب لإيصال المؤن والذخيرة، ولكن احتدام المعركة واستمرارها في الليل والنهار، جعل احتياطي الذخيرة معدوما في أغلب الأحيان، فما كاد يجري توزيع الذخيرة على المراكز حتى تبدأ طلبات التموين، ثم استغنينا عن الاحتياط العام في المركز، ووزعناه كاحتياط خاص جزئي في المراكز الدفاعية، أما الإطعام فقد كان متيسراً ولكن إلى حين، وقد خفض من أهميته احتدام المعركة واكتفاؤنا باليسير منه، ناهيك بوجود المؤن عند الأهلين كما كانت تقضي بذلك العادات العربية، ولكنني لا أعتقد بنجاح هذا الأسلوب من التموين لو استمر الحصار طويلاً بعد نفاذ المؤن من البيوت وأضيف على كاهل القيادة عبء تموين الأهالي بالإضافة إلى الجنود، وإلى ما تتطلبه المعركة من ذخيرة وعتاد.
وكانت الخدمات الطبية مؤمنة بشكل متوسط، وبواسطة المستشفى، ولكن الحاجة كانت تزداد تباعاً إلى المواد الطبية وإلى المصل والدم كلما اشتدت المعركة وكثر عدد الجرحى فقد قضى كثير منهم من قلة الدواء وبقية المواد الطبية وانعدام وجود الدم بعد أن نفد احتياطيّ المستشفى.
كان تصرف قائد الحامية قبل المعركة أشبه ما يكون بتصرف الحاكم العرفي، فلم تكن المهمة الرئيسية تستأثر باهتمامه إلى النواحي المدنية، فكان يستعمل الجنود الأردنيين كرجال شرطة للقبض على هذا وللضرب على يد ذاك ولم نكن نعرف سبباً لذلك، واستمرت هذه المعاملة السيئة، وكانت تشتد كلما رافقتها حالات التذمر والتقاعس عن الخدمة، والمرابطة في مراكز الدفاع، حتى ضج الأهلون، واعتقدوا بأنهم أمام قوة محتلة وحاكم محتل، لا أمام نجدة عربية قادمة للدفاع عنهم ومساعدتهم، مما ولد في نفوسهم انعكاسات سيئة على روح القتال، وضرورة المواظبة على الدفاع، حتى أن هذه المعاملة قد أحدثت فيهم انقساماً خطيراً والمعركة على أشدها، فاقتسموا ما بين مؤيد ومناهض، وسادت في نفوسهم وأفكارهم تلك الانقسامات التي كانت جذورها تعود إلى الاجتهادات السياسية السائدة في المنطقة العربية آنذاك، ولم تمنع المعركة ووجود العدو والخطر القريب، من ظهورها، وكان من نتائج تلك المعاملة أن فوجئت بقدوم إحدى الشخصيات الصفدية إلي وهو على رأس جماعته من المسلحين من عائلته، وممن انضم إليها بالاتجاه السياسي وبالنفوذ العائلي معلناً وضع نفسه ومسلحيه تحت قيادتي وتصرفي (بصفتي سوري) تاركاً بذلك معارك الدفاع المعينة له شاغرة، مما كان له في نفسي أسوأ الوقع، حتى أن تلك الشخصية قد حاولت إقناعي في التجاوب لتلك الأصداء، ولكنني لم آبه لها ولم أعرها أي جانب من الاهتمام، انصرافاً مني إلى المهمة الرئيسية، وتقديمها على كل اعتبار، ونصحت الشخصية المذكورة بالعودة إلى المراكز الدفاعية، فالعدو قابع في البلاد وخطره قريب، وكل شيء ما عدا الدفاع والقتال إنما هو من التراهات، فاستجاب إلى طلبي وعادت جماعته إلى مراكزها، ولكن الآثار بقيت عالقة في النفوس، وقد انعكست كلها على روح القتال والحماسة، وأدت بالضرورة إلى التقاعس عن الخدمة والقيام بواجبات الحراسة والقتال، وقد كانت الروح المعنوية في صفد من أقوى ما لمسناه في عيون الجليل، ولكنها تردت نتيجة المعاملة السيئة، أما جنود الإنقاذ من بقية العناصر فقد كانوا بمعزل ومنجاة عن هذه المعاملة، نظراً لاهتمامهم بالقتال، وقلة احتكاكهم مع الآخرين،
وكان من آثار تعيينه كقائد للحامية خسارة الحامية للملازم الأول إحسان كم الماز، ولم يكن الملازم الأول كم الماز تابعاً لقيادة الشيشكلي آنذاك، وإنما كان حراً يتصرف بالقتال في المدينة كيفما شاء وعندما اقتضت الضرورة إدخال تعزيزات من قيادة منطقة الجليل في أعقاب جلاء الإنكليز عن المدينة كان الملازم الأول مسرورا بهذه التعزيزات سيما وأن عناصرها الأولى كانت سورية وضباطها من تلامذته، ولكن ما إن دخلت العناصر الأردنية وعلى رأسها من هو أعلى منه رتبة حتى تبدلت نفسيته بعض الشيء، إذ كان يقدر أن يكون قائد الحامية، وكان معه الحق بذلك، لأنه كان أعرف بالمدينة عسكريا واجتماعياً، فقد أحبه الأهلون وشاهدوا من شجاعته واندفاعه ما زادهم حباً وإعجاباً به، وقد توج أعماله القتالية في صفد باحتلال مركز البوليس وانتزاعه عنوة من أيدي اليهود، ولكنه كان حاد الطبع عصبي المزاج، فلم يرق له البقاء في صفد تحت إمرة غيره فغادرها غاضباً، ولقد أثر ذهابه على الروح المعنوية الصفدية، ولمسنا ذلك ظاهراً على نفوس الصفديين، وتردت الروح أكثر من ذلك عندما لاحظوا تبدل المعاملة والانتقال فيها من صعيد المساواة والأخوة إلى صعيد الحاكم والمحكوم، مما كان له أسوأ الأثر على دوافع القتال والروح المعنوية.
وقد كان من الممكن، بل من الأولى، إبقاء الملازم الأول كم الماز في صفد استفادة من عدة ميزات حققها بها، وكما تقضي الحاجة الملحة والضرورات العسكرية، ولكنه لم يستطع لحدة طبعه وشدة نزقه المكوث أكثر من ثلاثة أيام، حاول فيها أن يقنعني بترك المدينة، والمرابطة على طريق صفد الجاعونة، كأنه يطلب مني أن أترك مواقعي الدفاعية وأن أنفصل عن قيادتي لتحقيق أغراض قتالية ربما كانت منسجمة مع الوضع العام، ولكنها ليست منسقة مع خطط القيادة وأفضلية الدفاع عن المدينة، فغادر المدينة مودعاً من قبل الأهلين بحرارة وأسف، والتحق بالجيش السوري، وما لبث أن استشهد في معركة سمخ.
المعركة:
المعركة ذات الجانبين: داخلي وخارجي- أما في الداخل فقد بدأت حامية ضارية منذ اليوم الأول من دخولنا إلى صفد، واستمرت على ضراوتها طوال سبعة وعشرين يوماً، لم نذق فيها طعم الراحة والنوم إلا نادراً، وقد بدا الهزال من نتيجة التعب والسهر على وجوه الجميع، ولاحظ ذلك المقدم شيشكلي والدكتور فيصل الركبي (وكان طبيب الفوج ولم يكن تحت قيادته وحدة مقاتلة كما جاء في مقال الأخ جادو)، وبقيت هذه الوحدات طوال هذه المدة بدون تبديل، وخاصة تلك التي كانت في الخطوط الأمامية وهي من عناصر سريتي، فكانت تقاتل ليل نهار، أما الأهالي فكانوا يترددون إلى بيوتهم فيصيبون فيها شيئاً من الراحة، ثم يعودون إلى مراكزهم في الليل إلا إذا استدعت الضرورة سرعة الالتحاق.
أما الجانب الخارجي، فقد أثرت على معركة صفد العوامل التالية لمصلحة العدو:
سقوط حيفا، وكان ذلك بعد قيام الرئيس الأول (الرائد) شكيب وهاب، والذي جاء مدداً للشيشكلي، بمهاجمة ثلاث مستعمرات مجاورة دفعة واحدة من قاعدة انطلاقه من شفا عمرو، مما ألحق به وبفوجه خسائر فادحة، ومما اضطر الشيشكلي إلى نجدته بالقوات والذخيرة الاحتياطية التي كانت لديه (ومعركة صفد في أوجها) وقد كان الحديث الدائر آنذاك والمتردد على الألسنة أن الرئيس الأول(الرائد) وهاب إنما قام بذلك بدون علم الشيشكلي، أو بدون موافقته، مما أحدث ارتباكاً ظاهراً في قيادة منطقة الجليل، وانعكست آثاره فوراً على معركة صفد فتوقفت التعزيزات والإمدادات بالذخيرة.
سقوط عكا: وقد تلا سقوط حيفا بقليل.
سقوط طبريا: وقد كان قبيل سقوط صفد ببضعة أيام.
سقوط عين زيتون العربية واتصال جبل كنعان بالحي اليهودي.
كان لسقوط هذه المدن بالتوالي آثار سلبية ظاهرة على المعنويات العربية، وآثار أخرى إيجابية على الحشد الإسرائيلي والتموين اللذين انصبا بكثافة في الأيام الأخيرة على صفد ومنطقتها بعد التفرغ لها، وقد أفادت المراصد ووسائط الاستطلاع أن قوافل العدو بقيت مستمرة طوال الأيام التي سبقت سقوط المدينة تتدفق عليها.
ميزان القوى:
إن حساب ميزان القوى يشير سلفاً إلى سقوط المدينة قبل بدء الهجوم عليها، وقبل استعراض القوات عدداً وتسليحاً، يمكنني الجزم بأن سقوط المدينة لم يكن مفاجئاً كما جاء في مقال الأخ جادو، وإنما كان متوقعاً، ولعل الأخ جادو قد عالج الموضوع بالتصورات السابقة في أيام المعركة، وقد أشاركه في هذه المعالجة تحت تأثير تلك التصورات لولا الحقيقة والواقع ومشاهدة العيان، وإذا استعرضنا القوات المتحاربة، وبدأنا بالعدو، لوجدنا التفوق الظاهر الملموس في كافة أنواع الأسلحة وخاصة الإسناد والآلية في مصلحة العدو، فغزارة الدعم الناري، وغزارة الأسلحة الآلية كانت أقوى بكثير من غزارة نيراننا الفردية والآلية، ومن المعروف أن الهجوم هو النار التي تتقدم وأن الدفاع هو النار التي تؤخر أو توقف، ظهر لنا الواقع جلياً بدون الحاجة إلى المقارنة.
أما المواقف البطولية التي وقفها المدافعون في المدينة فهي أجلّ من أن توصف، ولقد لعبت دوراً كبيراً في تعديل ميزان القوى المادي ولكنها لم تستطع قلب هذا الميزان لصالح القوات العربية.
وثمة ناحية أخرى عن نفي سقوط المدينة بصورة مفاجئة وهي أن العدو لم يقم إلا بالهجوم الأخير الوحيد على المدينة حتى سقطت بصورة مفاجئة، وإنما قام أيضاً بهجوم كبير جداً في ليلة السادس من أيار، وفشل فيه فشلا ذريعاً، وكل من شهد المعركة وحضرها من الأهلين والعسكريين يذكر ذلك.
إنه لمن المؤسف حقاً أن يكون التفوق لصالح العدو عدداً وسلاحاً، ولو كنا نخضع في ذلك للتصور إبان المعركة، ولكن معركة فلسطين دون النظر إلى خلفياتها لم تمهلنا نحن السوريين خاصة وأنها جاءت فوراً في أعقاب الاستقلال، فلم تسمح الظروف المتعددة والمتشابكة والطارئة بأن نتسلح لهذه المعركة، أو نعد لها الأعداد والتسليح الكافيين، ولم يكن في تصور القادة والمسؤولين آنذاك الصورة الحقيقية عن المعركة ومتطلباتها، ولقد استهلك جيش الإنقاذ أكثر من ذخيرة الجيش السوري وقسما لا بأس به من سلاحه قبل أن يدخل الجيش السوري القتال، فلما دخله أصبح محتاجا إلى الذخيرة يبتاعها من المهربين ومن الأهلين وبأثمان باهظة جداً.
ولقد كان توزيع القوات داخل صفد كما يلي:
القلعة القديمة: وهي واقفة في منتصف البلدة وتفصل في الجزء الشمالي الشرقي الحي اليهودي عن الحي العربي، وكانت مقسومة إلى جزأين، جزء مع اليهود في الشمال وجزء مع العرب من الجنوب وكان يدافع عنها حضيرتان سوريتان بإمرة الرقيب سعد سراج، يضاف إليها المتطوعون الصفديون وعددهم غير ثابت.
عمارة الحاج فؤاد: وهي عبارة عن مخفر أمامي متقدم باتجاه العدو وتحتلها حضيرة سورية بإمرة رقيب، وكان ينضم إليها ليلاً المتطوعون الصفديون وعددهم غير ثابت.
الجهة الشرقية: المستشفى- المدرسة- الوادي: ويحتلها فصيل سوري مع حضيرة سورية إضافية، وكانت المدرسة مركز قيادة السرية.
مركز البوليس: وكان يحتله المتطوعون الأردنيون من السرية الأردنية بإمرة الملازم حافظ (فصيلة أردنية مع عدد من المتطوعين الصفديين، ولا يتجاوز عدد الجميع المائة).
مقر رئاسة البلدية: (أو مقر القيادة) ويقوم بالدفاع عنه فصيلة أردنية مع عناصر التموين، (وكانت تبيت ليلتها ثم تعود لجلب التموين).
فندق الحاج داوود: كان يدافع عنه فصيل أردني على ما أذكر بالإضافة إلى المسلحين الصفديين.
زمرة الهاون 81م: أي المدفع الوحيد وكان متمركزاً في عدة مواقع تبادلية تقع ما بين المقر والجبانة، وأفراد الزمرة سوريون بإمرة الرقيب محمد قاسم الطوقتلي.
كان عدد القوات لا يتجاوز: 100أردني، 85 سورياً(فقد منهم 37 قتيلاً- 16 جريحاً)، 300 فلسطيني ( أي ما مجموعه حوالي 500مسلح)، من هنا يتضح أن هذا العدد لم يكن كافياً للدفاع عن المدينة، خاصة وأن القتال في المدن إنما يتطلب أعداداً كبيرة من المقاتلين لأمور كثيرة لا مجال لتعدادها الآن وليس كالقتال في الأراضي العادية.
الهجوم الأول: في الساعة الواحدة من يوم 6أيار سنة 1948 قام العدو بهجوم ليلي قوي على جميع المراكز في المدينة مستخدما لهذه الغاية نيراناً كثيفة جداً من مدافع الهاون 5، 3 بوصة وراجمات الألغام( التي شهدنا استخدامها ضدنا لأول مرة) وأسلحة آلية كثيرة وغزيرة، وكانت النيران تنصب بغزارة على مركز البوليس والقلعة ومقر القيادة، وبعد مدة وجيزة اتضح من الاشتباك وأصوات النيران المتبادلة أن الهجوم إنما كان يستهدف مركز البوليس بالدرجة الأولى، والقلعة، وعمارة الحاج فؤاد، لأن المركزيين الأخيرين كانا حجر عثرة أمام أي تقدم إلى داخل المدينة.
فدافعت الحاميات جميعها دفاعاً مجيداً، وبخاصة حامية القلعة وعمارة الحاج فؤاد، فأبدت ضراوة وشراسة منقطعتي النظير، حتى أنني رأيت بأم عيني كفي رامي الرشاش الخفيف محترقتين لكثرة إطلاق النار والتهاب حديد الرشاش وبالرغم من إصابة آمر القلعة الرقيب سعد سراج إصابة قاتلة، وتعدد موجات الهجوم، فإن الحامية ثبتت في أماكنها ولم يستطع العدو أن يزحزحها عن مواقعها، وقد وصلت طلائعه إلى الخنادق وسقط قتلاه أمامها، ولم يستطع أن يجرها كما هي عادته في إخلاء جرحاه وقتلاه.
بعد أن تبين محور الجهد الرئيسي لهجوم العدو أمرت مدفع الهاون (81مم) الوحيد المتوفر بإجراء الرمايات المعلمة حسب اتجاهها المحضر سابقاً، وخصصت بها القلعة ومواجهة عمارة الحاج فؤاد، وأما القلعة فلم نستطع أن نرصد شيئاً من القنابل لوقوعها وراء الأشجار الموجودة في القلعة، ومن عمارة الحاج فؤاد أفادنا الرصد بأن القنابل قد انفجرت بين التجمعات العدوة وعلى مسافات قريبة من العمارة فأحدثت في صفوفها خسائر جسيمة، وقد كان قصف العدو على مقر القيادة يستهدف شل القيادة وتدمير المدفع، ولكن المرابط التبادلية حالت دون تدميره إذ نقلته الزمرة من منطقة الخطر إلى موقع تبادلي آخر، استمر الهجوم حتى الفجر أي حوالي ثلاث ساعات، وباءت جميع محاولات العدو بالفشل، وألحقت به خسائر كثيرة، أما خسائرنا فكانت أقل بكثير من خسائر العدو ولم أعد أتذكرها على الضبط.
الهجوم الثاني:
كانت تحشيدات العدو مستمرة وقوافل تموينه متوالية، أما نحن فلم يقع أي تبديل على مراكز قواتنا أو على عددها إلا في اليوم الأخير حيث قدمت إلى صفد السرية المشؤومة كما سيأتي، وقد أجرينا عدة تبديلات لملء النقص الحاصل في القتلى والجرحى، ولكن على حساب بقية المواقع، وطرأت على الموقع في صفد فترة هدوء لم نتمتع بمثلها طوال إقامتنا في المدينة، ولكنها كانت باعثة على القلق وشدة التيقظ واستمرار السهر، وقد كنا ألفنا إطلاق النار فتعودنا على النوم لفترات قليلة، ولكن الهدوء كان ينفي عنا النوم انتظاراً لما يخبئه القدر.
وتغيب قائد الحامية بعد الهجوم الأول فوراً، أي في صبيحة اليوم الثاني، واصطحب معه الملازم الأول إميل جميعان بحجة طلب المدد والنجدات، ومناقشة القيادة في الوضع العسكري العام، فاستلمت أنا قيادة صفد لمدة أربع وعشرين ساعة تقريباً، فانتهزت فرصة الهدوء، وأجريت تفتيشاً سريعاً على احتياطي الذخيرة فهالني ما رأيت، وتواردت علي طلبات التموين، فاتخذت قراري بتوزيع الذخيرة الاحتياطية فوراً، ونقلت بذلك الاحتياطي العام إلى الاحتياطي الخاص للوحدات الأمامية، كي يكون في متناول أيديها أثناء المعركة المرتقبة، نظراً لصعوبات التموين أثناء القتال، وأبرقت إلى القيادة طالباً إمدادي بالذخيرة، وكانت صعوبة التموين لا تقف عند حد القلة فحسب، وإنما في تنوع الأسلحة وعدم استطاعتنا توحيدها في كل مركز لتعدد العناصر المشتركة، وبعد ساعات معدودة حضرت الذخيرة على ظهور البغال الموجودة في مركز القيادة وكنا قد فقدنا بعضها وبعض عناصر التموين أثناء القصف في الهجوم الأول.
حضر المقدم شيشكلي في صبيحة الهجوم الثاني، فأجرى مقابلات سريعة مع الضباط، واطلع على الوضع العام، وقفل راجعاً إلى مركز القيادة، وهنا لابد لي أن أذكر القارئ بالرجوع إلى المقال الذي شرح فيه الأخ جادو اهتمام القيادتين العامة وقيادة الجليل بتطورات المعركة.
وفي اليوم التالي حضر الملازم الأول إميل جميعان بمفرده إلى صفد فاستلم القيادة وبقي سامي الفنيش متغيباً، وقام الملازم الأول جميعان يوزع البشائر، ويعدنا بالنجدات السريعة القادمة، ووردت النجدات بالفعل، ولكن في نفس اليوم الذي بدأ فيه الهجوم الليلي الكبير، وكان قوام هذه النجدات سرية بإمرة الملازم الأول عز الدين التل وهو ضابط أردني، وأفرادها متطوعون لبنانيون من طرابلس ( وليست أردنية كما جاء في مقال الأخ جادو) وكان يلوح على أفرادها أنهم أغرار ومتسلحون ببنادق كندية جديدة، ثم اتضح أنهم ما زالوا جميعاً تحت وطأة زرقة التيفوئيد التي تعطى عادة للجنود في مستهل خدمتهم، ولما يمضي على زرقهم فيها ثمان وأربعون ساعة ثم ذكر اللغط حول هذه السرية حتى قيل فيما بعد أن بعض أفرادها ما زالت أسلحتهم بشحمها، لم تنظف ولم تعد للإطلاق فانفجر بعضها في يد أصحابها أثناء المعركة.
اتخذ قائد الحامية قراراً فورياً بإجراء التبديل للأماكن التالية: عمارة الحاج فؤاد والقلعة وفندق الحاج داوود، وما إن حل الظلام حتى كانت جميع العناصر مبدلة واستلمت السرية الجديدة تلك المراكز، واتخذ آمرها فندق الحاج داوود مقراً له، وانسحبت العناصر الأولى ملتحقة بقيادتها،
لقد كان التبديل ضرورياً في أعقاب هذه المدة الطويلة ، وكانت حجة القائد أن العناصر القديمة (وهذا واقع وأكيد ) قد بلغ بها الإعياء مبلغه وأضر بها الجهد والتعب ولا بد من تبديلها بعناصر جديدة ومرتاحة ودفعها إلى الخلف لتشكل احتياطاً تكتيكياً للقوات الجديدة.
تنفيذا لهذا الأمر أبقيت عناصري في مراكزها الخلفية كاحتياط ، إذ كانت هناك بعض الأبنية الخلفية المستعملة من قبلها كأماكن للنوم والراحة أثناء النهار وفترات الهدوء ، وبعد انتهاء الاستلام والتسليم عدت إلى مركز قيادتي في السرية وكلي يقين بأننا مقدمون على معركة ثانية أشد من الأولى وأعنف.
في تمام الساعة 15,22 من ليلة 9/10/5/48 فتحت النيران بكثافة أشد من سابقتها في الهجوم الأول، فشملت جميع أنحاء المدينة، ثم ما لبثت أن تركزت على مركز البوليس، والقلعة، وعمارة الحاج فؤاد ، ومقر القيادة ، وكانت نيران الأسلحة الآلية تشكل دوياً مستمراً، أما رميات الهاون ورجمات الألغام فكانت غزيرة جداً، واستهدفت القلعة بصورة خاصة.
ولم تستطيع سرية الأغرار الصمود أمام كثافة النيران الهائلة، إذ إنها لم تتعود من قبل على هذا الجو القتالي العنيف ولم يكن لها سابق خبرة عسكرية ولا تعود على جو المعارك مهما كان بسيطاً، فأسقط في أيديها، وانسحبت على الفور وتبعثرت بشكل غير منظم، واستطاع العدو أن يحتلّ القلعة بسرعة نظراً لقرب المسافة الفاصلة، وراح يمطر عناصرها الخلفية بوابل رشاشاته الآلية، وقد حاولت عناصرنا عبثاً استرداد مستعينة بخنادق المواصلات، ولكنها لم تستطع ذلك، وسقط منها عدد لم أعد أذكره ما بين قتيل وجريح، أما السرية الجديدة فلم يعد أحدٌ يرى لها أثراً، وكأنها عرفت الطريق فعادت من حيث أتت.
كانت الأحوال الجوية غير مساعدة للرؤية، وكان الجو ماطراً، والجو في هذه الحالة يساعد المهاجم أكثر من المدافع، واستطاع العدو التسلل والتقرب إلى مسافات قريبة حتى وصل، تحت حماية النيران، إلى مسافة الانقضاض، فانقض على الخنادق دون أن يقاومه أحد.
وفشلت الهجمات المعاكسة والبسيطة (على مستوى حضيرة أو أقل) التي قام بها أفراد السرية القديمة لاستعادة الخنادق وتمكن العدو بالتالي من الاحتفاظ بالقلعة وإجراء الرميات المباشرة على الأهداف الواقعة وراءها،
ثم سقطت عمارة الحاج فؤاد وفندق الحاج داوود، فاضطرب عندها الموقف، واختلط المقاتلون بالأهالي، والنساء والأطفال بالرجال وانتقل تركيز الهجوم المعادي إلى مركز البوليس، وما لبث قائد الحامية أن انضم إلي في الجهة الشرقية وأعلمني بأنه أمر الملازم حافظ بالانسحاب وإخلاء المركز، فسقط المركز بيد العدو، وقد كان من أقوى المراكز بناء وأشدها تحملاً لوطأة أي هجوم مهما كان شديداً، حتى ولو وصل العدو إلى جدرانه فنسفها بالديناميت (إذ لم تكن هناك أسلحة ضد الدروع وضد التحصينات).
وفي حوالي الساعة الثانية والنصف من صباح العاشر من أيار التقيت بقائد الحامية عند مربط الهاون 81مم( وقد نفدت ذخيرته) فاقترب مني قائد الحامية وبيده ورقة قال إنها برقية من القيادة تأمره بالانسحاب جواباً على برقيته التي يؤكد فيها للقيادة أنه لم يبق في صفد إلا أنا والملازم هشام، كان منظر المدينة في الحقيقة مؤثراً للغاية، فلقد سقطت المراكز الدفاعية في صفد واحد تلو الآخر، ولم تعد أية مقاومة مجدية أمام الإشراف الطارئ من هذه المراكز المحتلة على جميع الطرق والمنافذ المؤدية إلينا، أما حقيقة الانسحاب من المدينة فقد بدأ قبل صدور الأوامر به كما تدل عليه البرقية الجوابية السابقة.
وكنت الضابط الوحيد الذي انسحب ومعه جنوده بعد أن أمرتهم بالانسحاب حضيرة إثر الأخرى، وبقيت مع مفرزة الهاون حتى كنت آخر من انسحب من صفد بعد إتلاف أو طمر كل شيء لم نستطع حمله أو نخشى عليه الوقوع بيد الأعداء، وكنت قد كلفت رفاق الرقيب سعد سراج الذي أصيب في الهجوم الأول برأسه أن يحملوه معهم أثناء الانسحاب، فمنعهم الطبيب من حمله لأن حالته خطرة وميئوس منه، وقد بقي في المستشفى حتى شفي ثم أطلق سراحه.
الانتقادات والدروس:
1-الوضع الداخلي في المدينة: فقد استعرضناه فيما سبق واستعرض بعضه الأخ جادو، ولا أرى داعياً هنا للتكرار.
2- القوات المدافعة: كانت قليلة ولا تكفي للدفاع المجدي عن ناحية منها، فضلاً عن المدينة بأكملها، وإذا قدرنا عددها بـ 500 مقاتل فإن الذين كانوا يتغيبون عن المراكز، والذين كانوا لا يقاتلون بكفاءة، إنما كانوا ينقصون هذا ذلك العدد إلى أقل من 400 رجل، أما السرية الجديدة فقد كانت نكبتنا فيها أعظم بكثير من فرحتنا بمجيئها، على أنني لا أعد مجرد التبديل الذي جرى قبيل الهجوم خطأ، ما لم يكن مقصوداً، وهذا ما أستبعده أيضاً، لأنه لو كانت الأمور جارية على مثل هذا الصعيد، لما استطاعت صفد أن تقاوم طوال تلك المدة، ولكن لو استطاعت السرية الجديدة أن تتمالك نفسها بعض الوقت، لانضم إليها الاحتياط التكتيكي، ولاستطاعت النجدات (القليلة طبعاً) أن تصل إليها وتعزز مراكزها فتؤخر النتيجة أو تقلل ما أمكن من فداحة الكارثة.
أما الجهة الشرقية من المدينة فقد كانت خالية إلا من فصيل واحد، كان توزيعه أقرب ما يكون إلى نقاط الحراسة منه إلى مواقع الدفاع، فهو ينتشر على خط يمتد من المستشفى جنوباً حتى الوادي الذي يفصل بين المدرسة ومركز البوليس، ولو حدث أي هجوم أو تسلل من هذه الناحية لما استطاع الفصيل الدفاع، ولسقط معظمه بين قتيل وجريح، إنني استغربت في السابق عندما كنت أستعرض الموقف في صفد وما زلت استغرب حتى الآن كيف أن العدو لم يهاجم المدينة من جهة الشرق، بل راح يناطح بشدة وبعدة محاولات مراكزها الحصينة من الغرب، ولعل عقيدته العسكرية تؤيد له المحاولات المتكررة في الهجوم حتى تتحطم معنويات المدافعين.
3-التموين: وقد أتينا على ذكره فلا موجب للتكرار.
4- التفوق: كان مختلاً جداً وبخاصة بالوسائل النارية، فقد كان سلاحنا الآلي قليلاً جداً، وكان السلاح متنوعاً بصورة تزيد صعوبة تموينه، أما أسلحة الإسناد فهي معدومة ( مدفع هاون 81مم واحد).
5- الذخيرة: كانت توزع على المقاتلين فور وصولها من مركز القيادة فليس لها احتياطي عام.
6- الانضباط: حسب الوحدات ولكن انضباط النار كان معدوماً.
7- الوضع الخارجي: كان وضع القوات العربية خارج المدينة جيدا من ناحية الانتشار للقتال، إذ كانت تحيط بالمدينة من الجهة الغربية، إلا أن الجهة الشرقية والطريق المستخدمة للتموين بقيتا مهملتين ومفتوحتين أمام القوات المعادية للتعزيز والتموين، ولو تيسرت قوات أخرى لقطع الطريق لأكمل الحصار على صفد.
يتضح من ذلك أن معركة صفد الحقيقية كان يجب أن تقع خارج صفد لا داخلها، وهنا يكمن سر تحكم القادة في استدراج العدو إلى المعركة المؤاتية، فقد كان من الضروري فصل صفد عن الجاعونة في الشرق لقطع الطريق على التموين والنجدات، واحتلال عين زيتم في الغرب للوصول إلى الضغط المباشر على الحي اليهودي، ولقد جابهت بهذين الانتقادين المقدم شيشكلي فيما بعد، ولكن الحقيقة كانت تتعلق بالقوات المتيسرة لديه، ومع ذلك فإذا شفعت له قلة القوات بالنسبة إلى الشرق فلا تشفع له بالنسبة إلى الغرب، ومع ذلك فقد ذهب في استراتيجيته إلى ما ابعد من ذلك، فهاجم مستعمرة الهراوي، وهي واقعة إلى الشرق من المالكية في أقصى الشمال، بغية تخفيف ضغط العدو على صفد، ولكنه لم يفلح في احتلالها، وبقي حجم القوات المتيسرة يتحكم بقرارات القائد، وكانت رغبته في الإبقاء على القوات سليمة للمعركة الحاسمة تستأثر في الترجيح لديه، ومع ذلك فلم يحرك منها شيئاً إبان الهجوم، ولو بالنار على الأقل.
أما الهجوم على الحي اليهودي مساء كما أورده الأخ جادو فأحسب أنه كان لتخفيف الضغط أكثر منه للاحتلال والقضاء على المقاومة، نظراً لقلة القوات المعينة له، فهو أشبه ما يكون بالهجوم التظاهري، إلا إذا كان المقصود به استدراج قوات العدو إلى خارج المدينة، وفي هذه الحالة، كان من الأفضل مهاجمة المستعمرة (عين زيتيم) واحتلالها مهما كلف ذلك من ثمن، وخاصة أثناء هجوم العدو على المدينة، الأمر الذي كان من الممكن أن يقلب خططه رأساً على عقب.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الانتقادات هي بعض من كل، فلم نتطرق مثلاً إلى مستوى التدريب والانضباط، ولا إلى إسناد المهمات الدفاعية الصعبة إلى جيش كجيش الإنقاذ، لم يكن تشكيله أو تسليحه أو الهدف الذي أنشىء من أجله مؤاتياً لما قام به وأسند إليه، ولعل خسارة الجليل فيما بعد ناجمة عن تكرار لنفس الخطيئة التي ارتكبت من قبل في هذا المجال.
ـــــــــــ
*نشرت هذه المقالة في مجلة شؤون فلسطينية العدد (33) الصادرة في أيار (مايو) 1974