الشاعرة لبنى ياسين وبوح الياسمين
• طلعت سقيرق
أن تدخل عالم الأديبة لبنى ياسين بتعدده ، وألوانه ، وامتداداته ، وغناه ، من قصة قصيرة ،وقصة قصيرة جدا ، إلى رواية ، فمقالة ساخرة ، وخاطرة ، ودراسة أدبية، فأنت ترى إلى جوانب غاية في الجمال والتميز والقدرة على إصابة الهدف أو الوصول إليه بشكل مباشر ..
وإذا كان هذا معروف عند قراء الأديبة لبنى ياسين في الوطن العربي كله، كونها قدمت الكثير من كتاباتها تلك إن في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية ، وإن في كتبها العديدة المنتشرة على خارطة الوطن العربي .. فإن الجديد الذي لم تنشره بشكل واسع ، وكان لي حظ الاطلاع عليه بشكل كامل ، هو الشعر ، فالشعر عند الشاعرة لبنى ياسين قصائد مشغولة بروعة الإحساس وجمال التصوير وقوة التعبير بشكل كان وما زال يدعوني للتساؤل – وهو سؤال كثيرا ما وجهته لأديبتنا وشاعرتنا لبنى ياسين – لماذا أصرت الشاعرة لبنى ياسين على إبقاء هذه القصائد بعيدة عن النشر في ديوان ، ولماذا لم تنشر قصائدها بشكل واسع على الانترنت وهي الأديبة التي عرفت في كل مكان ، ومن حق قرائها أن يعرفوا هذا الجانب بكل ما يحمل من تميز وجمال ورقة وعذوبة وعلو ، حتى لتكاد قصيدة النثر عند لبنى ياسين تشكل ملمحا هاما يعطي هذا النوع من الشعر دفعا يضيف إليه ويغنيه .. ؟؟.. وبرأيي فإن كل جديد مغاير يضيف ويعطي ويغني ..
وإن كنتُ هنا أقدم شاعرتنا الأديبة لبنى ياسين من خلال شعرها تحديدا ، متجاوزا حرصها على إبقاء هذا الشعر بعيدا عن النشر بشكل واسع ، فإنني أجد العذر لنفسي والعذر من شاعرتنا ، بأنّ الأدب الجميل يجب ألا يبقى طيّ الكتمان .. فعذرا يا شاعرتنا إن كتبت ، وعذرا إن نشرتُ، فهذا الأديب والشاعر الصحفيّ الباحث عن كل ما هو جميل في أدبنا وشعرنا أصرّ على أن أكتب ، ولأنني أطيعه وأصغي إليه ، كتبت .. وسأتحمل بصدر رحب عتب الزميلة والصديقة الشاعرة لبنى ياسين ، لأن ذنبي إيجابيّ كوني أوصل للقارئ شهد الكلام وهو من حقه .. فمن أين أبدأ ؟؟..
تقول الشاعرة لبنى ياسين في قصيدة " عزاء ":
يدعوني لأقدم العزاء
في موتها
مسكين لا يعلم
أنني تلك الميتة
وأن الجنازة..جنازتي "..
قليلة هي المفردات ، قليلة هي الصور ، لكن هذا الاتساع في المعنى والاتساع في الاحتمال والانفتاح على عوالم متعددة شيء لا يضاهى .. قد تكون أول فاصلة في قصيدة النثر الاختصار وبناء الدهشة .. وهنا تستطيع لبنى ياسين أن تتقدم بنموذج يحتذى .. أعترف أنّ النهاية فاجأتني وأنني وقفت أمامها مشدودا قابضا على جمرة قد تكون من الياسمين لا النار .. وحتى لا أذهب بعيدا في استحضار وتفصيل هذه البنية المدهشة أورد مقطعا من قصيدة " وطن " تقول فيه :
فلنهشم المرايا
ولنصنعْ من شظاياها
تابوتاً للشمس
ما فائدة المرايا
إذا كنا لا نرتدي وجوهَنا أبداً؟؟.. "..
إن الشاعرة لبنى ياسين تملك مرآة القصيدة السحرية لتعطيها قمرا من حنان ودفء واقتراب من جمالية خاصة .. العبارة عند لبنى نابعة من الذات باشتراط المشاركة والتآلف مع المتلقي .. وكثيرة هي الوقفات التي تنطلق من الدائرة الصغيرة لتوزع امتدادها في كل مكان .. لنسمع قصيدة " صوتك " ونرى إلى هذا الانتقال تقول :
صوتك يتسلق هضاب الهوى
يرسم صدى خطاه بأقدام من نار
يمحو دروب مهدتها يد الضياع
يكتب كلمات حنينه على جبين الشمس
يلقي شوقه في أذن الوجد
يعتلي موجة جنون صاخبة
ترتفع به عاليا حتى يضيق به الأفق
يسيل في دمي
ينحت من تفاصيلي صنما للوقت
يعلقني على جدار الغد بإطار من قمر
صوتك
ليس سوى صوتك
من منحني تعويذة لفرح قادم .."..
أليست هي الشاعرة التي تخبئ الدهشة لتعطينا كما من الجمال لا يحد .. في تواصل مع كل هذا تستوقفني قصيدة " غيمة " مشدودا إلى وتر الشعر، حيث تقول فيها :
تتسابقُ خيولُ فرحي
فوقَ امتدادِ عشبِ كفيك
تهربُ بي بعيدا عن مدائنِ الخوف
تطيرُ بي على أجنحةِ حلم
تمزقُ صمتي
وتصهلُ في دمي
أنا الظلُ المختبئُ منذُ عصور
خلفَ قبورٍ ضاعتْ عنها شواهدُها
وأنتَ مصيرُ الشوقِ القادم
في هيئةِ غيمة
حبلى بمطرٍ دافئ "..
فالشاعرة لبنى ياسين تستفيد هنا من القصة ، تستفيد من السرد ، تستفيد من التفاصيل ، وتنحو نحو أسطرة جو القصيدة .. كل شيء عندها موظف بشكل رائع ليصل إلى هذا السبك المتماسك القوي .. ولك أن تنظر إلى هذا الوصول الجميل في تركيبه وصياغته وصورته فأنت " مصير الشوق في هيئة غيمة حبلى بمطر دافئ " كأنما الحكاية بطول بحر وموجه .. كأنما الصخور تتلقى رعشة الزبد الحالم وهو يفرد شيئا من ضفائره على سطحها الأملس ..
هل ترسم لبنى ياسين صورة الرجل بشكل مغاير ؟؟.. هل تريد أن تخاطب الآخر بصوت الأنثى الشاعرة التي لا ترضى لكلماتها ومفرداتها إلا أن تكون صافية مثل مرآة ؟؟.. لنستمع إلى لبنى ياسين تقول في " سفر " :
سأقطع المسافات
بين عينيك وقلبي
على متن كلمة
لا يوقفها حراس الحدود .."..
وتقول في " حلم " :
كل الكلمات تنبضُ يا وعدي
تبدو جوفاء في حضرة أصابعك
سيكون عليك أن تعيد تشكيل الوقت
أن تشعل ثلج الغوايات في منبت الحرف
لكي أستطيع أن أنسج لك
سجادة أخرى للحلم .."
وفي " أقفال ":
كيف لمفتاح واحد
أن يفتح قفلين عصيين
قلبي وقلبك "..
الخطاب بكل جوانبه يبني صورة مشعة مضيئة ممتدة .. وهو لا يقارب بأي شكل مباشرة مجانية تقضي على قصيدة النثر في كثير من الأحيان .. والأهم أن خطابها للآخر يعطي دفءا لا حد له دون أي إسفاف أو مداورة في العبارة .. وأجمل ما عند لبنى ياسين ، في هذا الشعر كله ، صورها المبتكرة دائما وإعطاؤنا كما لا يحد من الإدهاش .. وإن نحن نظرنا لكل قصيدة مما سبق نجد أنّ الاختصار سيد الموقف في كثير من الأحيان .. وهو اختصار ذو دلالة ، موظف مشغول بتقنية عالية .. إذ لا داعي لتوسيع العبارة في مكان لا تستحق فيه التوسيع ، ولا حاجة لحبس المطر المدرار حيت تكون الأرض بحاجة لهذا المطر .. وباعتقادي أن الشاعرة لبنى ياسين تجيد القبض على برهة الحلم والدهشة والبرق الخاطف بشكل رائع .. تقول في قصيدة " شروق " :
حيث يشرق وجهك
تختبئ الأرض من ظلها
وتلملم الغيوم ثيابها المبللة
عن ضفة الشوق
وتبعثرني أمطارك الدافئة
فتنحني النجوم لتلتقط أنفاسي
عن أمواج البحر "..
لنلاحظ هذا الانسياب الغريب الجميل في مدّ المفردة نحو مقصدها .. وأيضا هذا الاتجاه الساحر نحو صورة لا يمكن أن تكون عادية مستهلكة .. فلبنى تستفيد من فن التصوير لتلتقط صورا طازجة ساخنة غير ملتقطة بهذا الشكل من قبل .. لذلك تجد أنّ الشعر يعطيها كل فتنته ما دامت تعطيه كل فتنتها .. حالة التبادل هذه تخلق دائما جوا من الألفة بين الشعر وشاعرته ، لتصل القصيدة إلى القارئ بهية جميلة فاتنة .. تقول في " حقيبة " :
لماذا على الليل دائما
أن يحمل بين متاعه
حقيبة للحزن العابر
نجدها دائما في جعبة القلب
حتى دون أن نبحث عنها.."
قصيدة لبنى ياسين ذات اتجاهات وسمات عدة ، وذات بنية خاصة تقنعك بجمالية قصيدة النثر .. وهي إلى جانب كل ذلك شاعرة تعرف كيف تجعل القصيدة قريبة من شبابيك السحر والسطوع الدائم .. ولي أن أختم هنا بعدة قصائد للشاعرة لبنى ياسين راجيا أن يجد القارئ فيها ما وجدته من متعة لا تضاهى :
خطيئة
لست أنا من قدم أغنياته أضحية للوجع
فأراق دم الفرح
ولست أنا من أوثق الأحلام
والعصافير
لكنني
كلما بحثت عني
وجدتني ضائعة
في متاهات الخوف
أتلمس طريقا نحو التلاشي
لا تمحوني هفوة ناي مصلوب
في أروقة حلم
ولا تمسكني نزوة الرمل الموغل في الحزن
فأي خطيئة تلك التي لم أتطهر منها؟!
في القاع
لآلاف العصافير الواهمة
التي تطير كل يوم
تفتح أجنحتها للشمس
تنتظرها طلقة صياد ماهر
تهوي بها إلى قاع الأرض
هي التي كانت تحلق في سماء الفرح
لماذا علينا أن نطير
والقاع قدر لأحلامنا
هزيمة أخرى
لعنة هو الفرح عندما يأتي متأخرا
حاملا على كفيه وهج النهايات
وعلى شفتيه
شبح ابتسامة تعلن هزيمتي
انشطار
تعبرني موجة حلم دافئ
تشطرني نصفين
أحدهما يشبهني
الأول يغني للسراب
ويشعل الشمس من جديد
والآخر
يمسك الأرض بكف من حديد
حنيني إليك
هل يبرر احتضاري موت عينيك؟
هل يعلل اختناقي غيابك الأزلي؟
كيف للأشياء أن تضحك
وأنت بعيد
ليس بوسع المسافات
أن تطوي حنيني إليك
خواء
ألقيت في حضن عينيك أوجاع قلبي
ورأيت ظلي يعانق خيالك
ومشيت في ذات الخطى
التي كنت أظنها مرسومة
على خرائط قلبك
فما وصلت إلا للخواء
فراق
بأي اسم أناديك أيها الراحل
بأي دمعة أبكيك
وأي قلب يمكنه أن يحتمل رحيلك
أنت الذي حلفت أنك ستكون دائما هناك
من أجلي
هل رحلت حقاً؟؟
وحدة
ليس مجديا كل الحزن الذي يعتنقني
لكن الفرح ينظر إليّ من بعيد
ينفض أجنحته الملونة
ويرفرف حيث السماء
ويتركني على الأرض وحيدة
نبض
أكتبك بشرياني
على سقف فرح لن يأتي أبدا
ولا أحد يقرؤك غيري
ما بين الكلمة والكلمة
لن تنتبه إلى وجع الدمعة
المسجاة سطرا مقتولا بك
ولا إلى نبض القلب الغافي
على حضن ذكرى
أرق
سأكتب عينيك على حدائق الليلك
لئلا تضيع مني ابتسامة القمر
وأزرع أشواقي في حضن الخوف
لئلا تمر عليّ لحظة لا أشتاقك فيها
سأنسج ملامحك على جفوني
بأصابعي التي ذبلت
لئلا تغيب عن أرقي ليلة حزن
سرّك
سينبت حبك بين كفيّ عشبا أخضر
فلا تقلق على ابتسامة الشمس
لها أن تمنح ما شاءت للعاشقين
ولي أن أحتفظ بسرك
بيني وبين كفي
لوحة
أي غربة أمارس طقوسها
وحدي
فيما تتسلى أنت برسم
كفني
برد
لا تغرب عني
فغروب الشمس يكفيني
كثير على مزاج الأرض
أن تغربا معاً
ما الذي يدفئنا.. بعدها
أنا والأرض
أجنحة
للحزن أجنحة تطارد ليلي
تهديني أرق المسافات
واحتضار الأزمنة
وللفرح جناح مكسور
يقعده فلا يصل أبداً
إلى حافة الروح
ملامح
أي صباح هذا الذي
تشرق فيه ملامحك
عوضاً عن الشمس؟
أي مساء هذا الذي
يبدأ بابتسامتك؟
حكاية
في قلبي الكثير من الحكايات
لكنه لا يقرأ إلا حكاية واحدة
حكايتك أنت "..
لبنى ياسين شاعرة تتقن إعطاء الشعر حقه من العلو ليبدو كما أرادت له بكل بهائه ، كما هي في قصصها وكل كتاباتها .. وبالتأكيد فإن الشعر الغنيّ بما يحمل ، بكل هذا الألق والدفء والتميز ، جدير بأن يقرأ ويصل إلى كل القلوب بتلقائية .. لبنى ياسين تعطي الشعر كل ما في القلب والروح والذات من دفء ، فيكون للشعر كل هذا الجمال والروعة ..