التطور والحضارة والقوة: ثلاثية إسلامية
( من محاضرة للمرحوم على عزت بيجوفيتش الرئيس الأسبق لجمهورية البوسنة
والهرسك)
يذكر علي عزت بيغوفيتش أن موقفَ الإسلامِ تجاهَ الحضارةِ يُسْتَدلُّ عليه
مِنْ خلال اهتمامه بالقراءة والكتابة باعتبارهما أقوى مُحركٍ للحضارة،
ويقول : لا غرابةَ أنْ يُعْنَي بهما الوحي، فكانت أول ما نزل على محمد صلى
الله عليه وسلم من آيات القران الكريم: (اقرأ باسم ربّك الذي خلق خلق الإنسان
من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) (العلق:
1ـ5). «فقد ربطت هذه الآيات المحكمات الإنسان بفعل الخلق الإلهي، ثم ربطت
العلم بالقراءة والكتابة الإنسانيين بما هما حالة نشاطٍ فكريٍّ وإبداعٍ بشري
ينسخان الجهل والأمية، وبدون القراءة والكتابة لا يتمّ تحصيل أيٍّ من العلوم،
كما يستحيل تجميع العلوم في حدود معينة» كانت هذه الآيات وحياً يشمل تقريراً
لحقيقة كونية ودعوةً للتأمّل والتفكّر في الخلق وما حوى... فكان أن استجاب
المؤمنون لهذا.
ولعلَّ الإسلام - كما يقول عبد الرزاق نوفل - هو الدين الوحيد الذي وحّد بين
مكان العبادة والتعليم، إذ اتخذ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من المسجد
الذي أنشأه في أول الدعوة مكاناً للتعليم. وبهذا تأسست مؤسسة فريدة من نوعها
- وهي التي يسميها علي عزت بيغوفيتش «المسجدرسة» - ذات وظيفة عباديّة وعلمية،
ذلك أنه لو لم يكن هناك علم لما كان هناك إيمان وحتى إن وُجد إيمان فهو إمّا
ناقص وإما لا يمكنه أن يستمر، كما أنه لولا وجود إيمان لما وجد علمٌ نافع،
وحتى إن وجد علم بلا إيمان فإنه يُهدر في النهاية وجودَ الإنسان نَفْسه.
فالعلم والإيمان ينتمي أحدهما إلى الآخر.
ولقد رأى العلاّمة أبو إسحاقَ الشاطبي (790هـ) أن الشريعةَ ليست موجودةً
لمجرّد إِدْخال الناس تحت سلطة الدين، بل وُضِعتْ لتحقيق مقاصد الله سبحانه
في قيام الحياة ديناً ودنيا.
كما أشار الشاطبي إلى أن «تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ أهدافها في الخلق»
وفصّل هذه المقاصد التي لا تُتَعَدَّى إلى ***** أقسام: ضرورية، وحاجية،
وتحسينية. وقد مثَّلَ الشاطبي لحفظ هذه الكليات من جانب الوجود بالعبادات
بالنسبة للدين، وبالعادات بالنسبة لحفظ النفس والعقل كالمأكولات والمشروبات
والمسكونات، والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال، وإلى حفظ النفس والعقل
أيضاً ولكن بواسطة العادات،ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترجع إلى
حفظ الجميع من جانب العدم.
ولكن ما علاقة هذه الأمور بالعلم؟
فالدين يُحْفَظ بالتفقّه فيه والتعلّم ، والدفاعُ عنه لا يكون أيضاً إلا
بتعلّم ما يُرْهبُ العدوَ من صناعة سلاحٍ وإعداد قوّة وغير ذلك. والنفوس
تُحْفَظُ بعلوم الطبّ والوقاية من تفشي الأمراض السارية.
وكذلك حفظ الأموال، فليس التلف هو خروجُها إلى غير الهدف ، بل الجهل في
التصرف فيها وإنفاقها فيما لا يعني، لذلك يمكن حفظها في هذه الحال بالتربية
والتوعية وتعلم علوم الاقتصاد والتجارة التي من شأنها حفظ المال وتنميتُه
أيضاً؛ لأن كَنْزَه هو «إتلاف» بوجه من الوجوه.
وكذلك حفظ النسل، يمكن إقامة أركانه وتثبيتُ قواعِده بعلوم الطب وذلك بدفع
الأمراض الواقعة أو المتوقعة، وبيانِ ضررِ التلاعبِ بالجينات مثل عملية
الاستنساخ.
والمستقرئ لماضي الأمةِ يَسْتغْرِبُ جداً للفرق بين حالها بالأمس واليوم،
يستغرب المرء استياءً وأسفاً، لماذا تعثّر المسلمون في الوقت الذي انطلقت فيه
أوروبا كالسهم في مَيدان العلم والفكر والتقنية، والأغرب من ذلك أن العلم
الإسلامي هو الذي كان أساساً في صعودها.
والإشكال يطرحه «توبي. أ. هف» في كتابه «فجر العلم الحديث... الإسلام الصين
الغرب» حيث يرى أن لمشكلة العلم العربي بُعدان على الأقل، يتصل أحدهما بعجزه
عن إنجاب العلم الحديث، ويتصل الثاني باضمحلال الفكر والممارسة العلميين في
الحضارة العربية الإسلامية وتراجمها بعد القرن الثالث عشر... رغم أن العلمَ
العربيَ كان من القرن الثامن حتى آخرِ القرن الرابع عشر ربما أرقى علمٍ في
العالم، متفوقاً بذلك عن العلم في الغرب والصين، وكان العلماء العرب في كل
حقل تقريباً في الفلك والكيمياء والرياضيات والطب والبصريات وما إليها...
وكانت الحقائق والنظريات والتصورات العلمية التي تضمُّها رسائِلُهُمْ العلمية
أرقى ما يمكن الحصول عليه في أي مكان في العالم، بما في ذلك الصين» ولا نشك
في أنّ رُقيّه ذلك مأتاه مناهج علمية دقيقة، وعزيمة لا تكلّ، وإيمان راسخ
بأنه لا وجود لمستحيل في العلم، وثقة بالنفس حتى أن العالم الشهير ابن النفيس
يقول: «لو لم أكن واثقاً من أنّ كتُبي ستعيش بعدي مدّة عشرةِ آلافِ سنةٍ ما
كتبتُها»! لم تكن العلوم محصورة في مكان **** من العالم، بل تواجدت خلال تلك
القرون في كلّ بقعة من العالم تواجد فيها المسلمون والعرب، بل هم المؤسسون
الحقيقيون للعلم الحديث ولولاهم لتأخرت علوم اليوم التي نعيشها إلى قرون
عديدة. إن الإنسان ليندهش لكثرة عدد المكتشفين والمخترعين والمبدعين المسلمين
والعرب ولدقة تلك العلوم التي نجد العديدَ منها تستخدم اليوم كما هي دون
زيادة أو نقصان، لكن المؤلم أننا نحن المسلمين نجهل أصحابها الحقيقيين أو
نعرفهم تحت أسماء محرّفة.
و يلاحظُ أنه كلما تقدمنا مع الزمن نقُص عدد العلماء والاكتشافات والاختراعات
في العالم الإسلامي ويلاحظ أن هذه الحالة تتزامن مع عدم وجود الاستقرار
السياسي واستشراء الفساد السياسي أيضاً والتحلُّلِ الاجتماعي وانعدام الحريات
العامة... حتى آلت حالنا إلى ما نحن عليه اليوم من وهن وضعف وأصبحنا نستورد
أسلحتنا ودواء مرضانا ووسائل التعلم والاتصال وحتى أقواتنا وملابسنا من
أعدائنا، فأصبحنا نُقوّيهم على أنفسنا ونُضعف بالمقابل حالنا، وأصبحنا نخاف
هيجانَهُمْ لِئلاَّ يحاصرونَ اقتصادياً ويمنعون السلاح والغذاء والدواء
والتنقل في أرض اللَّه الواسعة، وأصبحوا يتدخلون حتى في مناهجنا وأفكارنا.
من هنا يخطر السؤال: لماذا تقدم أجدادنا كما رأينا؟
لا شكّ أن السبب هو امتثالهم في عصر علومهم بالأمر الإسلامي: القراءة
والكتابة والتأمل بالمفهوم الواسع وانطلاقاً من أساس إيماني والرغبة في بلوغ
العالا من الدرجات: (يرفع اللَّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)
(المجادلة: 11) وقد كانت الأحاديث النبوية تحض على طلب العلم ولو في الصين
(دَلالةً على الترغيب في العلم ولو بعدت المسافة) وطلبِ العلم من المهد إلى
اللحد (تعلّم مستمر). ويقول د. محمد إيجاز الخطيب: «يبلغ عدد الآيات القرآنية
التي تتميّز أنها فقهية 250 آية، بينما وردت 750 آية في القرآن الكريم وهي
تعادل ثُمُنَ القرآن الكريم تحثّ المؤمنين على التفكير في الطبيعة والاستفادة
المثلى من العقل، وتحويل نشاطاتِهمُ العلميةِ إلى جزء لا ينفصل عن حياة
المجتمع». فاستجابةً للدعوة القرآنية والنبوية، شدّ المسلمون الرحال في طلب
العلم أينما كان ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً وسهروا اللياليَ من أجل التأمّل
والتجريب والحفظ والتأليف والنسخ والقراءة والنقد...
ومن أسباب تقدمِ أجدادِنا نذكر الأمانة والإخلاص في العمل، أدرك العلماء
المسلمون أن هناك نظامين متلازمين، ممَّا جعل تفكيرهم مرناً يستجيب بتلقائية
للمستجدات ومن تغير الزمان والمكان والأحوال، هذان النظامان هُما:
1-الخلق بما اشتمل عليه من حرية وعفْوِيَّةٍ وفردية، في ناحية،
2-والتطور بما اشتمل عليه من سببية وقصور ذاتي، وقصور في الطاقة واتساق في
الناحية الأخرى.
فالواجب والمصلحة هما حلقتان في هاتين السلسلتين، الواجب المصطلح الأساسي في
علم الأخلاق، والمصلحة هي المصطلح الأساسي في علم السياسة. الواجب والمصلحة،
وإن كانا متعارضين، فإنهما قوتان محركتان للنشاط الإنساني» .تماماً كما كان
الواجب والمصلحة أيضاً من صميم الشريعة: الواجب هو أساس الدين، والمصلحة هي
من ركائز السياسة الشرعية، لنضربْ مثلاً: أحد الواجبات في الإسلام هو الجهاد،
والمصلحة هي الحفاظ على النفس من الإتلاف قتلاً، قد تبدو هنا المفارقة أي كيف
يتم الحفاظ على النفس من خلال الجهاد وما فيه من إمكانية الموت (موت هذه
النفسِ نَفْسِها الواجبِ حِفْظُهَا)؟ عند هذه النقطة يلتقي الواجب والمصلحة،
لأن بالهروب من الواجب (الجهاد) والسعي وراء المصلحة (الحفاظ على النفس) لا
تتم إحدى مقاصد الشريعة فالحفاظ على النفس هو المقصد الذي وحَّد بين الواجب
والمصلحة... تأمّل قَوْلَه تعالى: (كُتِبَ عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن
تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم واللَّه يعلم وأنتم
لا تعلمون) (البقرة: 216).
فالواجب يمرّ عبر ال«كره» وتنتقل ال«عسى» إلى يقين الخير.
وكذلك العلم، فطلبه واجب: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» كما يقول
الرسول (ص): والمصلحة هي المعرفة وتحقيق الرفاهةِ، لكن هذا لا يتحقق إلا عبر
السفر والسهر أي عبر ال«كره». وهذا ما استوعبه أجدادنا فكانوا يكابدون عناء
السفر والحر والبرد من أجل تحقيق حديث أو اقتناء كتاب الأمر الذي يعتبره
الكثير منّا اليوم أمراً لا أهمية له. لقد أشار مهاتير محمد رئيس وزراء
ماليزيا في محاضرة له في جامعة الأزهر في مصر بعنوان «الوحدة الإسلامية
مواجهة التحديات والتهديدات» إلى «أن الفهم الصحيح للإسلام هو سرّ تقدم
الدولة الإسلامية في الماضي، وهو مصدر قوتها في الحاضر إذا حسن هذا الفهم،
وأن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع الصحابة إلى العمل في الدنيا وبناء الدولة
الإسلامية التي وصلت إلينا وكان عمادُهُ في ذلك القوّة التي دافعت عن الحق
فأمرنا الرسول الله عليه وسلم صلى بأن نكون مستعدين لردع وهزيمة العدو بقوة
السلاح،.
فلماذا تأخرنا وأصبحنا غير فاعلين في تقدُّم العالم؟
تأخرنا لأننا حدنا عن منهجية أسلافنا في فهم القرآن والكون والحياة ومنهجهم
في العمل والتجريب والإخلاص والمثابرة؛لأننا لا نولي أهمية للعلم وللعلماء،
ففي إحدى السنوات من العقد الأخير من القرن العشرين خصصت الولايات المتحدة
الأمريكية 5.2% من الموازنة العامة للبحث العلمي، اليابان 3.2%. الاتحاد
الأوروبي 8.1% أما العالم الإسلامي فقد خصص أقل من 1% من الناتج القومي
فالبلدان العربية كجزء من العالم الإسلامي، مثلاً، خصصت 0,2% فقط.
وتساهم الولايات المتحدة في البحث العلمي بنسبة 38% من المجموع العام.
الاتحاد الأوروبي 28% اليابان 19%. الصين 5%. روسيا 2%. بينما تساهم الدول
العربية (كجزء من العالم الإسلامي) بنسبة 14.0% وهي نسبة لا ترقى إلى مستوى
التحديات الحضارية ويتطلب مضاعفاتها عشرات المرات لتصبح متساوقة مع نسبة
الموارد البشرية وموارد الطاقة وحاجيات السكان في هذا العصر. ولا زالت نسبة
الأمية في الدول العربية تصل إلى 37% (15 سنة فما فوق) حسب التقرير السنوي
لسنة 2000. وتصل النفقات على التعليم من الناتج القومي الإجمالي سنة 1997 إلى
8.5% فقط، بينما وصلت النفقات على الأمن ووزارات الدفاع إلى 43.27% حسب
التقرير السنوي لسنة 2000 !!
ومن أسباب التخلف في العالم الإسلامي هو «الفهم غير الصحيح لتعاليم الدين
الإسلامي إذ ذهب البعض إلى الاعتقاد بأن الآخرة هدف المسلم فقط، وأن الحياة
الدنيا لا علاقة لنا بها، وذهب آخرون إلى الصراع حول السلطة، وأساءوا استخدام
الثروات التي منحهم اللَّه إياها» وهذا الاعتقاد هو جهل على جهل لأن العالم
لن يسمع لنا لو كنا نملك كل الحكمة لأننا ضعفاء... ما قيمة المسلم الجاهل؟
ولا ندري من أين جاءت فكرة الفصل بين علم الشريعة والعلوم الحسابية والهندسية
رغم أن للرياضيات وللحساب وللفلك علاقة بأحكام الميراث والعبادات أيضاً. كيف
يمكن بناء دولة إسلامية في غياب الطبيب الفقيه، والمحاسب الفقيه، والعسكري
العالم بأحكام الدين، والفقيه العالم بالسياسة وأمور دنياه؟ إن المشاكل
الحقيقية التي تواجه العلم والتكنولوجيا في العالم الإسلامي في النقاط
التالية:
أ- عدم وجود الالتزام العلمي: فلا يوجد فيما بيننا نحن المسلمين التزام حقيقي
لكسب العلم وتحقيق الرقي العلمي والتقني.
ب- كيفية إدارة النشاطات العلمية: إن العلم بحاجة إلى علماء نشطين بمسألة
الإدارة لتحقيق التقدم العلمي المنشود.
ج- عدم وجود الالتزام للاعتماد على الذات في المجال التكنولوجي بحيث لم
تتعدَّ دول العالم الإسلامي مرحلة استيراد المشاريع والأجهزة والمواد
الأولية.
نحن في حاجة إلى المدافع والصواريخ والطائرات وغيرها ولا يمكن أن نعتمد في
ذلك على الآخرين بإمدادنا بالسلاح باستمرار، فنحن في حاجة إلى صناعة أسلحتنا
بأنفسنا، وذلك لا يتحقق إلا في حالة امتلاك المعرفة والمهارات التكنولوجية.
كما أن عدم تعلّم العلوم باللغة الأم هو عائق في سرعة الفهم والاستيعاب
والإبداع، فالإنسان يبدع بلغته أكثر من أي لغة أخرى لأن اللغة هي التفكير أو
بتعبير بيغوفيتش: اللغة يد المخّ. لقد أورد علي عزت بيغوفيتش نقلاً عن «ه. ج.
ولز» أن أمريكا عند اكتشافها (1492م) كانت متخلفة من الناحية الحضارية من
خمسة إلى ستة آلاف سنة عن العالم القديم.لكن نحسب أن الأمريكيين (الذين كانوا
أوروبيين بالأصل) ضاعفوا جهودهم لقطع هذه المسافة الزمنية البعيدة... وكان
يحدوهم الأمل في الالتحاق بالعالم بل والحلم بالتفوق عليه وهذا ما هو حاصل
اليوم.
إن العلم كما يذكر بيغوفيتش بالنسبة للعالم... هو بحث وخبرة وجهد وأمل يتطلع
إليه... وتضحية... وفي كلمة مختصرة... حياة. وفوق كل شيء هو مصدر سعادة
بالمعرفة، وشعور سامٍ بأعلى القيم الأخلاقية.ولا بد من مراعاة الدين ليكون
العلمُ صافياً ونبيلاً. وقد ورد في دعاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «...
نعوذ بك من علم لا ينفع» وقال رسول اللَّه (ص): «تعلّموا الْعِلْمَ، فإن
تعلُّمَه للَّه حسنةٌ ودرَاسَتَهُ تسبيحٌ، والبحثَ عنه جهادٌ، وطلبَه عبادةٌ،
وتعلُّمَه صدقةٌ، وبَذْلِه لأهْلِه قُربةٌ».
منقول