المحزرة الكبرى التي ارتكبتها الإمبريالية الأميركية في حق العالم منذ الحرب الثانية..
"تسعير النفط بالدولار الأميركي"..
الإمبريالية الأميركية تتغوَّل على العالم بذراعيها المتطاولين..
"البترودولارية العربية" برأس حربتها "السعودية"..
و"الصهيونية العالمية" برأس حربتها "إسرائيل"..
أهمية "السعودية" في الهيمنة الأميركية على العالم أسبق من أهمية "إسرائيل"..
الحلقة الثانية
أسامة عكنان
إن الإستراتيجية الإمبريالية لِلَّعب السياسي والاقتصادي والعسكري في الساحة العربية الشرق أوسطية، تقوم في كل مرحلة من مراحل الصراع العربي الإمبريالي على تحديدِ هدفٍ مستقبليٍّ تدميريٍّ دمويٍّ كبيرٍ يرتكز في صيرورته ويرمي في مُحَصِّلَته إلى مجموعة العناصر نفسِها، والتي يُمكننا حصرها فيما يلي..
1 – إحكام السيطرة على العُقَد المفصلية في القرار النفطي العربي للإبقاء على سوق النفط سوقا للمستهلكين وليس للمنتجين، تحت وصاية الولايات المتحدة وإشرافها وحمايتها، مادامت السيطرة عليه تمثل مفتاح التَّحَكُّم في مفاصل الحراك السياسي الدولي والإقليمي.
2 – إعداد الساحة الدولية، والساحة العربية الخليجية باعتبارها المخزن الأساسي للنفط، فضلا عن الساحتين الشعبيتين الأميركية والأوربية، وبكل الوسائل المتاحة، إعلامية كانت أو قانونية أو دبلوماسية أو عسكرية إذا تطلب الأمر، لمرحلةٍ قادمةٍ تكون معالمها قد رُسِمَت في مراكز اتخاذ القرار الإمبريالي. وهي المعالم التي ستتمثل في إحداث تغييرات سياسية جذرية في الإقليم، تكون قد سببتها مفاعيل الحراك والسيرورة فيه، على خلفية التأثيرات والتداعيات المستمرة والمتواصلة والتي لا تنتهي، لكلٍّ من الحالة الصهيونية "إسرائيل"، والحالة الوظيفية "أنظمة التجزئة القطرية"، بشكلٍ يساعدُ على إبقاء السيطرة محكمةً على منابع النفط العربية في الخليج، ويحول دون التغيير في مفاتيح هذه المعادلة الإمبريالية، إذا بدا أن تلك التداعيات والتأثيرات تعمل في عكس الاتجاه المحافظ على معادلة رأس المال العالمي في المنطقة.
3 – إعداد الساحة العربية الخليجية اقتصادياً وجيوسياسياً لمرحلة ما بعد التغيير السياسي الإقليمي الجذري المرتقب، وذلك بشكل يجعل هذه الساحة مؤهلةً لدعم وتمويل حربٍ قادمة أو تغيير جذري قادم إذا تطلب الأمر، بصرف النظر عن الشكل والدوافع المحتملة لتلك الحرب أو لذلك التغيير، وعن توقيتهما ونتائجهما المتوخاة شكلا ومضمونا.
إن هذه المنظومة من الأهداف الإستراتيجية كي تتحقق وفق الأجندة الأميركية المرحلية، تجب إتاحة مخزون هائل من مداخيل الثروة النفطية للعرب الخليجيين مُدَّخرة في الغرب عموما وفي الولايات المتحدة خصوصا، بناء على السياسات التنموية الرعناء التي سيطرت على العقل العربي الخليجي والقائمة على تخزين فوائض الثروة النفطية في بيوتات المال واستثمارها في البورصات وأسواق السندات الغربية عموما والأميركية منها خصوصا، وذلك بالاستناد إلى النظريات التي روجت لها مراكز الدراسات الاستشرافية للمستقبل، كي يكون هذا المخزون بمثابة الرافعة التي سيتم بواسطتها دعم الطرف المطلوب دعمه، وتمويل الطرف المطلوب تمويله في الحرب القادمة عندما تتقرر.
ولن يتاح هذا المخزون من الثروة لتلك الدول إلا عبر مداخيل من أسعارٍ مرتفعة للنفط المُصَدَّرِ إلى الغرب والشرق وباقي دول العالم. فمادامت هذه المداخيل التي لن يدفعها الأميركيون بالمعنى الحقيقي للدفع، ستعود لتُضَخَّ في الاقتصاد الأميركي في نهاية المطاف، على شكل أثمان أسلحة ونفقات حروب تصب في الخندق الأميركي، وعلى شكل بخار مال تُسَبِّبُه حرائق البورصات المتعمَّدَة بين الحين والآخر. فليست هناك في الواقع أيُّ أضرار حقيقية تُذْكَر لواقعةِ أنها مداخيل جاء جزءٌ ضئيل منها في المحصلة من ثروةٍ قومية أميركية رُحِّلَت مؤقتا من وطنها الأم، لتحل في خزائن دولٍ انساقت وراء كل السياسات الرَّعْناء لتحقق للأميركيين كلَّ أهدافهم!!
إن الإدارات الأميركية التي تعرف كيف تُوَجِّه السياسةَ بمفاتيح الاقتصاد، تعي جيدا أنها لا تستطيع الظهور أمام شعبها بوصفها مُمَوِّلا مباشرا من مال دافع الضرائب الأميركي لحربٍ قذرةٍ تطحن الأخضر واليابس، وتقتل الملايين من أجل حفنةِ تراب، إلا إذا استطاعت أن تقنع الشعب الأميركي نفسه بأن مثل هذه الحرب تعتبر حربا تدافع عن أمنه القومي المباشر، كما حصل في احتلالها للعراق ولأفغانستان قبله.
فكان لزاما والحال كذلك أن يُمَوِّل هذه الحرب الضرورية أميركيا، والتي لا مفر منها في أجندة السياسة الإمبريالية، آخرون. ولا آخرين في هذا السياق تنطبق عليهم المواصفات المطلوبة لحروب من هذا النوع القذر سوى الحكام العرب الخليجيون بالدرجة الأولى، بوصفهم آخر نوع من البشر يستشيرون شعوبهم في طريقة إنفاق المال العام والثروة القومية، لأنهم يعتبرونها ثروات تملكها ملكية خاصة العائلات والمشيخات الحاكمة!! لذلك فقد كان من الطبيعي أن يمتلكوا من المخزون النقدي ومن الثروات المتراكمة من البترودولار ما يستطيع القيام بالمهمة نيابة عن الولايات المتحدة، وعن الإمبريالية والصهيونية العالميتين عموما.
وكأن المعادلة صيغت ببساطةِ العرضِ التالي..
الولايات المتحدة تريد إشعال حرب في الإقليم لأسبابٍ إستراتيجيةٍ تطلبتها المصالح الإمبريالية في سياقِ الصراع العربي الإمبريالي. وهي لا تستطيع الظهور بمظهر المُمَوِّل المباشر لها، في حين أنها ستكلف أموالا طائلة بناءً على شكلها المُتَصَوِّر والمفترض، لا يستطيع أحد غير أصحاب العمائم الخليجية بقيادة المملكة العربية السعودية دفعَها نيابة عن واشنطون. فكان لزاما أن يتوفر لهم ضمن سياقٍ منطقي وطبيعي مخزونٌ من الثروة قادر على تلبية متطلبات المهمة، وإلاَّ فإن الحرب لن تنشب بالشكل وفي التوقيت وللأهداف المطلوبة.
الدول الخليجية أيضا كان عليها ضمن الخطة الأميركية أن تتسلح بأسلحةٍ من النوع الثقيل جدا لاعتبارات أُقْنِعوا بها، لها علاقة بتهديداتٍ لأمنهم القومي من جانب الدول القوية الناشئة والطموحة في المنطقة الخليجية، والتي ليست من بينها "إسرائيل" بطبيعة الحال، مادامت قد انحصرت في العراق سابقا، وفي إيران حاليا ومستقبلا. فكان لابد أن يمتلكوا المال اللازم لشراء هذه الأسلحة. وإلا فإن تسويق السلاح الأميركي ونشره وفق خطط سياسة التسليح الأميركية للمنطقة لن يتحقق.
هذا المال وذاك، لن يتوفرا لدول الخليج إلاَّ عبر المداخيل الفائضة عن الحاجة التنموية والإنفاقية المعتادة والمتأتية من مبيعات نفطٍ بأسعارٍ تُصَنَّف على أنها عالية ومرتفعة بالمقاييس العالمية المتعارف عليها. وإذن فلترتفع أسعار النفط بالقدر الذي يحقق للسياسة الأميركية هذه الحزمة من الأهداف الإستراتيجية في المنطقة، مع إبقاء الباب مفتوحا على مصاريعه لامتصاص المنافع الخليجية المحتملة من هكذا مداخيل فائضة، إذا كانت تكلفة الحروب التي ستنشب، أو التغييرات التي ستحدث، أو إذا كانت أثمان الأسلحة التي ستُسَوَّق، أقل من أن تَمتصَّ مُجمل الأموال التي دُفِعَت لهم ثمنا لنفطهم الذي رُفعت أسعاره بذكاءٍ مدروس. وهذا الباب المفتوح، هو البورصات وأسواق المال الأميركية والغربية، التي ظهر في العقود الأخيرة أن أزماتِها المدمِّرَة تُفْتَعَل فقط كي تمتص وتُبَخِّرَ الأموال العربية الخليجية الموجودة فيها على شكل أسهمٍ وسنداتٍ واستثمارات من النوع الخفيف القابل للتَّبَخُّر بسهولةٍ كتَبَخُّر البنزين.
وعندما نَفْهَم عناصر ومُكَوِّنات الإستراتيجية الأميركية في إدارة اقتصاديات النفط، نستطيع أن نكتشف مُكَوِّنا جوهريا في تلك الإستراتيجية يُرْهِصُ ظهوره بشكل الخريطة الإقليمية التي تُخَطِّط لرسمها الإدارات الأميركية التي ستتعاقب على البيت الأبيض خلال عقد أو عقدين من الزمن قادمين، خاصة إذا كانت إداراتٍ جمهوريةً. ولأننا لا نستطيع قبول فكرة أن ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمي هو أمر منفصلٌ عن السياسة، وخاضع لمعايير العرض والطلب فقط، نظرا لخروج النفط بالذات بوصفه أكثر السلع إستراتيجية في العالم، عن الخضوع لمثل هذه المعايير، فقد كان من المنطقي في عُرْفِنا ألاَّ يُفْهَمَ ارتفاع الأسعار بالشكل الذي من شأنه أن يُراكمَ ثرواتٍ مهولةً من مداخليه الفائضة في الجانب العربي الخليجي، وألاَّ تُفْهَمَ صفقات السلاح الضخمة التي راحت تتمحور في السنوات الأخيرة حول مبالغ تقارب الـ "70" مليار دولار لصفقة سعودية أميركية واحدة فقط، لحقتها صفقات أوربية أخرى من مستوى هذه الصفقة، إلاَّ باعتبارها كما حدث في مطلع عقد الثمانينيات، مقدماتٍ طبيعية تُمَهِّد الطريق الاقتصادي والعسكري الإقليمي، لاحتضان حربٍ أو صراع أو حروب أو صراعات مدمرة قادمة يتم التخطيط لها، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تكون هي الطرف المباشر الذي يخوضها، وإن استطاعت فإنها لا تريد منها أن تنعكس على رفاهية المواطن الأميركي ومستوى معيشته إلا إيجابيا، كي لا يتعود هذا المواطن على النظر إلى الحروب التي تخوضها إداراته بلا توقف باعتبارها عبئا عليه، فيستمر في تأييده لها ودفاعه عنها وتبنيه لها، إلا إذا حالت بينه وبين هذه المواقف، اعتبارات أخلاقية وأيديولوجية، وما أقلها في التأثير على المكونات الذهنية للشعب الأميركي في ظل هيمنة ثقافة "الكاوبوي" على كل مؤسسات تنشئته الاجتماعية. هذا الأمر هو ما جعل تلك الإدارات الأميركية تبدأ في إعداد العُدَّة لترتيب أوراقها بالشكل المناسب لتركيبة المنطقة ولبُنْيَة الرأيين العامين الأوربي والأميركي.
لقد كان ما يتم التخطيط له بهذا القدر من مُراكمة الأسلحة، وبهذا القدر من مُراكمة الفوائض النفطية الخليجية في الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة، وبهذا القدر من تأجيج المشاعر العدائية بين الفصائل المذهبية الإسلامية الكبرى عبر تداعيات الحالة العراقية الناجمة عن الغزو الأميركي، قبل عام 2008 عام الأزمة المالية العالمية التي غيرت كل الإستراتيجديات الأميركية، لقد كان كلُّ ذلك مقدمةً لاحتلالٍ من نوعٍ غير مُتَصَوَّرِ التفاصيل ولا واضح الأبعاد حينها، في ضوء معادلات كان يتم إعداد المنطقة لإدخالها في أتونها.
فكما أن احتلال منابع النفط وزج العراق في حربين مدمرتين، هي مسائل لم تكن واضحة في رؤية معظم المراقبين السياسيين في منتصف عقد السبعينيات، بالقدر الكافي من التفاصيل لتشكيل تصور إستراتيجي حوله، عندما كان كل ذلك مجرد مشاريع وخطط في أدراج الساسة الأميركيين.
وكما أن أحداً لم يكن ليفهمَ الأبعاد الحقيقية للعبة الارتفاع في أسعار النفط خلال عقد السبعينيات ومطلع عقد الثمانينيات بالشكل الذي يكشف له عن مؤامرة تُحاك لإدخال المنطقة فيما تُمثل حالتُها الراهنة ثمرة حقيقية له. فإن أحدا أيضا ربما لم يكن مؤهلا قبل أزمة عام 2008، لفهم آفاق وتداعيات ما كان يحدث في "سوق النفط" لجهة إعداد المنطقة لحروبٍ قادمة.
إن ما مارسته الولايات المتحدة من سياسات نفطية بعد حرب أكتوبر، وتحديدا بعد حسم وترتيب شؤون الصراع العربي الإسرائيلي على الجبهة المصرية، من تصفيةٍ للحسابات مع من أمكن تصفية الحسابات معهم من عناصر القوة المنتشرة في الساحة العربية المشرقية، يكشف لنا عن جوهر السياسة الأميركية في العامل مع هذا الإقليم، وعن الدور المركزي للنفط فيه، وبالتالي فهو يكشف لنا عن الدور المركزي للوظيفية السعودية في تمرير هذه الإستراتيجية، باعتبارها أم الوظيفيات العربية وحاضنتها بالعباءة "البترودولارية".
تَمَكَّنا ونحن نحاول التَّأّكُّد عبر أدِلَّةٍ قاطعة من أن ما حدث في واقع النفط العربي، خلال نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وهو ما عرف بـ "الأزمة النفطية العالمية"، التي تسبَّبَ فيها الارتفاع الكبير في أسعار النفط، ثم انهيارها المفاجئ بشكل غير مفهوم.. نقول.. تمكنا ونحن نحاول التأكد من أن كلَّ ذلك كان مجرد مؤامرة نفطية على الأمة، استغلت قدرا كبيرا من التواطؤ الرسمي في تنفيذها، فمارس المتآمرون والمتواطئون من أقطاب "الوظيفية العربية" في جزيرة العرب مع المُخَطِّطِ الإمبريالي الأميركي بمقتضى تلك المؤامرة أعتى أنواع التضليل المعلوماتي ضد شعوبهم وضد أصحاب الفكر المخلصين في الأمة، تَمَكّنا من كشف ما يؤكد لنا صحة منهجنا في تحليل الإستراتيجية الأميركية التي حكمت اقتصاديات النفط في تلك الحقبة، والتي تحكمها في كل حقبة قادمة من حقب "الجيوسياسَة النفطية"، راسمةً بواسطتها خرائط المنطقة العربية في الشرق الأوسط.
لقد قمنا باحتساب المداخيل النفطية لدول الخليج في الفترة من عام 1979 وإلى عام 1991، وهي فترة تشمل كامل الأعوام التي غطتها المؤامرة النفطية التي افترضناها بمرحلتيها "الارتفاع في الأسعار، والهبوط الكارثي المفاجئ فيها"، إضافة إلى السنوات التي شهدت الحربين اللتين تم التخطيط لهما في قلب المؤامرة، وهما الحرب العراقية الإيرانية، والحرب الأميركية العراقية في الكويت. ثمَّ احتسبنا المبالغ التي أُنْفِقَت على صفقات التسلُّح التي عقدتها دول الخليج مع الدول الغربية عموما، ومع الولايات المتحدة خصوصا في الفترة محل الدراسة، وأضفنا إليها المبالغ التي أُنفقت من قِبَلِ دول الخليج على الحرب العراقية الإيرانية من جهة، وعلى تمويل الحملة الأميركية ضد العراق من جميع جوانبها التي أثارتها من جهة أخرى. والمبالغ التي أعلن الخليجيون أنفسهم أنهم خسروها في أزمات البورصات العالمية التي عصفت بالبورصات الأوربية والأميركية خلال الفترة نفسها.
ولم نُدْخِل في حساباتنا السابقة، النفقات الجارية لتغطية مصاريف تواجد القوات الأميركية في القواعد الخاصة بها على الأراضي الخليجية، والمستمرة منذ عام 1990 وحتى الآن. ولا أدخلنا في هذه الحسابات أيضا، الاقتطاعات الضخمة غير مفهومة المبررات ولا المرجعيات المستندية لمشروعيتها، والتي يقوم بها أمراء وحكام الخليج، سارقين ثروات شعوبهم لحساباتهم الخاصة، وكأن هذا النفط هو ملك آبائهم وأمهاتهم يقتسمونه بوصفه تركةً، لهم فيها كامل الحق، ويتصدقون تَكَرُّماً ومِنَّةً بما تبقى منه بعد توزيع التركة، على هذه الشعوب المغلوبة على أمرها.
وعندما احتسبنا المبالغ المتبقية من مداخيل النفط الذي كان مرتفعَ السعر في معظم سنوات المؤامرة، بعد خصم ما تم احتسابه في البنود سالفة الذكر، باعتبار أن كل ذلك عبارة عن خسائر تم التخطيط أميركيا لتكبيدها للدول الخليجية، وجدنا أن تلك المبالغ لو قُسِّمَت على أعداد براميل النفط التي تم إنتاجها وتصديرها خلال الـ "13" عاما محل الدراسة، لكان سعر البرميل الواحد هو "8" دولارات فقط.
أي وباختصار شديد فإن مبلغ "36" دولارا الذي وصل إليه سعر البرميل الواحد في حقبة المؤامرة، والمدفوع من جيوب مستهلكين معظمهم ليسوا أميركيين، ضُخَّ في جيوب الأميركيين دون سواهم، ولم يَطُل منه أصحاب العمائم في شبه جزيرة العرب ولا شعوبهم المغلوبة على أمرها، إلاَّ ما أراده صُنَّاع المؤامرة الأساسيين، وهو السعر الذي كان سائدا قبل بدء ارتفاعه في عقد السبعينيات.
أي أن الأنظمة السياسية في الخليج اعْتُمِدَت من قِبَل المركز الإمبريالي في المواجهة ضد الشعوب، شريكة في التواطؤ على تلك الشعوب وعلى ثرواتها الوطنية بالمجان. فإذا علمنا أن سعر البرميل عاد ليهبط إلى ما قيمته "6" دولارات في ذروة الأزمة عام 1986، لفهمنا أن المسألة إنما عادت لوضعها الطبيعي الذي كان الأميركيون موافقين عليه قبل أن يبدأ العرب في لعبة النفط شركاء متآمرين مع الأميركيين عقب حرب أكتوبر، التي لا يمكننا أن نُنْكِر أن العرب استغلوا سلاح النفط خلالها استغلالاً كفؤاً حقا لمواجهة الأعداء الذين فرضت عليهم أحداث المعارك في الميدان أن يواجهوهم رغم أنوفهم.
وهذا ما كنا نعتقد جازمين بأنه سوف يتكرر في اللعبة التي كنا نتوقعها قبل حلول أزمة عام 2008، والتي بدا لنا في حينها أنها ستكون أضخمَ بكثير مما حصل في السابق، بحيث تطلبت هذا القدر المهول من الارتفاع في أسعار النفط، لتحقيق فوائض كبيرة تستطيع تغطية متطلبات الخريطة الجديدة التي بدأ الأميركيون في رسمها قبيل احتلال العراق، والتي راحوا يستكملون رسمَها مع كل مستجدٍّ يفرض نفسه على الساحة هنا أو هناك بعد احتلاله، مدشِّنين كل ذلك بهذه الصفقات المريبة مع المملكة السعودية هم وحلفاؤهم الإنجليز.
إننا في ضوء ما كنا قد بدأنا نقرأه قبل عام 2008 من ضخامةٍ في الاستعدادات لرسم الخريطة القادمة عبر تكديس الثروة البترودولارية والأسلحة الأميركية في أيدي الخليجيين، كان باستطاعتنا تَخَيُّل بعض معالمها الدامية، التي لم نكن نراها ترتسم أو تتشكَّل خطوطُها وألوانُها بعيدا عن..
- إيران في حربٍ مدمرة أو صراع مزمن مع العرب عبر الساحة العراقية بالدرجة الأولى، وبشكل أو بآخر، يُؤسس له أو لها، طائفيا ومذهبيا بزعامة محفل ادعاء رعاية السنة ومناجزة ما أطلق عليه "مشروع الهلال الشيعي"، وهو المحفل المُكَوَّن من كل من "السعودية" رئيسا، و"مصر" قبل سقوط نظام الحكم الوظيفي برئاسة مبارك" نائبا للرئيس، والأردن قبل انطلاق الحراك الشعبي عضو شرف مراقب.
- وعن تركيا في البعد الكردي الذي كانت قد بدأت تتكون معالمه في شمال العراق.
- وعن باكستان النووية في شكل تفعيلٍ مدمر لواقعها ولصراعاتِها غير واضحة المعالم، في بعدها الأفغاني بالدرجة الأولى، مادام الصراع في بعده الهندي أكثر انضباطا، بسبب عقلانية الهنود وعدم تحركهم داخل دوائر القرار الأميركي. ولعل ما تجلت عنه الحالة الباكستانية من اغتيال تراجيدي لزعيمة مهمة من زعماء العمل السياسي في باكستان هي "بي ناظير بوتو" في تلك الفترة، أشَّر إلى الآفاق المظلمة التي تُعَدُّ الساحة الباكستانية لها، على الرغم من الهدوء الحذر الذي ساد باكستان بعد الحادثة بسبب قدرة النظام على امتصاص تداعيات الحادث التراجيدي بسيناريو الانتخابات الذي نَفَّسَ معظم الاحتقانات التي عادت لتظهر وتتفاقم بعد فترة وجيزة أعقبت غياب "مشرَّف" عن الواجهة السياسية لباكستان، وتفاقم أزمة الناتو في أفغانستان وفي مناطق الاحتكاك بينها وبين باكستان.
- وعن سوريا في حالة خروجها على الطاعة الأميركية والإسرائيلية، ورفضها لمشروع التحييد واختيارها لفكرة القاعدة الآمنة المحتضِنَة للثورة العربية الكبرى القادمة، وإصرارها على التحالف مع إيران في مواجهتها للولايات المتحدة والغرب عبر تداعيات الملف النووي الإيراني.
- وعن المقاومة الشعبية في كل من فلسطين والعراق ولبنان، التي علينا أن نتيقن من أنها وحدها تمثل فرس السبق والرهان الناجح للشعوب العربية في مقبل أيامها، إذا استطاعت أن تتحول إلى ظاهرة قابلة للتفريخ في دول الجوار الإسرائيلي الأخرى، وخاصة الأردن ذات الخصوصية في العلاقة مع الحالة الفلسطينية.
إلا أننا رغم يقيننا بأن الإستراتيجية الأميركية ما تزال تلعب ضمن هذه المنطقة وهي تُعِدُّ للإقليم خرائطَه، لا نستطيع أن نغفل عن تغييرات هامة حصلت على المخطط الأميركي، وعن تعديلات لا يستهان بها تعرضت لها تلك الإستراتيجية، بعد أن انفجرت أزمة عام 2008 المالية العالمية الكبرى، لتمتصَ معظم – إن لم يكن كل – الفوائض النقدية الخليجية، وعلى رأسها الفوائض النقدية السعودية منها، ما جعل تمويل حرب مدمرة في الإقليم كما كان مرسوما له، أمرا غيرَ مقدور على تنفيذه في ضوء المستجدات المالية التي فرضتها تلك الأزمة.
وازدادت المخططات الأميركية في الإقليم ارتباكا وتداخلا بعد انطلاق الربيع العربي، الذي فاجأ العالم بسقوط نظامين وظيفيين عريقين، أحدهما مركزي بالغ الحساسية في كافة السياسات الأميركية في المنطقة، هما التونسي والمصري، ليتطور هذا الربيع، ويتكثف حاليا في البؤرة السورية بالغة الخطورة والدقة، وهو الأمر الذي جعل الإدارة الأميركية تعيد بناء تفاصيل إستراتيجيتها الجديدة آخذة في الاعتبار مجمل هذه المستجدات التي يُعتبر إهمالها والتغاضي عنها خلال رسم معالح الحركة القادمة في الإقليم ضربا من الجنون.
إن حكام الولايات المتحدة من الجمهوريين هم عادة ممثلو كارتلات صناعتي النفط والسلاح في معقل الإمبريالية، لذلك نستطيع أن نفهم على الفور لماذا يجب أن تكون الإدارات الأميركية في عهود حكمهم صارخة في تبنيها لسياساتٍ خارجيةٍ تقوم في جوهرها على لعبتي النفط والسلاح، وقائمة على إدارة الإستراتيجية الأميركية من خلال إدارة سوقي النفط والسلاح بشكل مختلفٍ عن المعهود، عبر حروبٍ ُتدار بأسلحةٍ أميركية، مدفوعة الثمن بأموال نفطٍ خليجيةٍ. كما أننا نستطيع أن نفهمَ لماذا تَخِفُّ حِدَّة الاندفاع في الإستراتيجية الأميركية العالمية والشرق أوسطية القائمة على محورية عنصري النفط والسلاح في إدارتها، عندما يكون الديمقراطيون في البيت الأبيض.
فارتفاع أسعار النفط بشكل كبير، فضلا عن أنه يسهم في زيادة مداخيل أصحاب الكارتلات النفطية الأميركيين حتى من داخل السوق الأميركية نفسها. فإنه يُسهم في زيادة الفوائض في مداخيل الدول النفطية الخليجية التي تُعَدُّ أكثر الدول النفطية في العالم تبعية للإرادة الأميركية وخضوعا لها. ولعل هذه النقطة هي الأهم من بين مجموعة النقاط المشَكِّلَة لموضوع ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية الفورية.
ولكن ما هي التركيبة النسبية لمصادر هذه الفوائض النقدية؟!
من الضروري العلم في هذا السياق بأن الولايات المتحدة الأميركية ليست هي السوق الرئيسية للنفط العربي الخليجي. إن الأسواق الرئيسية لهذا النفط، هي الصين واليابان وأوربا الغربية، ثم تأتي بعد ذلك الهند والولايات المتحدة، ومجموعة أخرى من دول العالم الشرقي والجنوبي. أي وبكلمة أخرى فإن مساهمة الولايات المتحدة في تكوين هذه المداخيل والفوائض هي مساهمة ضئيلة. وهنا مكمن الفائدة الحقيقية لها.
إذ أن هذه الأموال والثروات التي يُعَدُّ معظمها غيرَ أميركي، ولم يُضَخ إلى الخليج العربي من سوق النقد الأميركي، سيعاد ضَخُّ معظمها إن لم يكن كلها إلى السوق الأميركي وليس إلى غيره، مرتين وبشكلين مختلفين، كلاهما ذو مردود عالي على الناتج الأميركي.
المرة الأولى، عندما يتم إيداع معظم هذه المداخيل الفائضة عن الحاجة التنموية والإنفاقية المُشَوَّهَة لتلك الدول، على شكل مُدَّخرات في البنوك الأميركية، وعلى شكل استثمارات في البورصات الكبرى في الولايات المتحدة.
والمرة الثانية، عندما تُدفع مبالغ كبيرة جدا منها للإدارة الأميركية على شكل أثمان لصفقات أسلحة، أو على شكل تكاليف حماية وقواعد عسكرية مقامة في الأراضي الخليجية، أو على شكل تغطية نفقات عسكرية لمهام تقوم بها القوات الأميركية لأغراضٍ تُصَنَّف على أنها دفاع عن تلك الدول.. إلخ.
فإذا علمنا أن نظام التثمين والتسعير في المسائل العسكرية والدفاعية أبعد ما يكون عن الموضوعية القائمة على منطق الربح المنطقي الذي يُضاف إلى التكلفة الحقيقية، بحيث أن معظم أسعار بيع السلع والخدمات العسكرية المقدمة للدول الخليجية، تعادل ما لا يقل عن عشرين ضعف التكلفة الحقيقية لها. فإن هذا يعني أن الولايات المتحدة تكون قد سرقت أموال النفط العربي الخليجي المُحَصَّل عليه من التصدير لدول العالم، بموافقةٍ ورضىً تامَّيْن من حكومات تلك الدول، تحت لافتة التسلح والدفاع عن الأمن القومي لها.. هذا أولا..
في حالة نشوب حرب إقليمية في المنطقة، فإن طرفا واحدا على الأقل من الأطراف المتحاربة سيكون مسلحا بالسلاح الأميركي. والذين يدفعون ثمن هذا السلاح بشكل مباشر أو غير مباشر هم الخليجيون، وذلك من فوائض مدخراتهم في الولايات المتحدة وفي غيرها، وتنطبق على مستويات التسعير في هذا المقام، المعايير نفسها التي انطبقت في حال الشراء المباشر للسلع وللخدمات العسكرية.. وهذا ثانيا..
وحتى لو كان أحد الطرفين المتحاربين مكتفيا بذاته، فإن هذا لا يغير من الجوهر شيئا، فما لم تنفقه الدول الخليجية على المسائل العسكرية والحربية والدفاعية، تضيِّعه في البورصات في عمليات التبَخُّر الدورية التي تتعرض لها تلك البورصات في أزماتها المفتعلة من حين لآخر كما مر معنا.. وهذا ثالثا..
وفي هذا الصدد يجدر بنا توضيح مسألة هامة قد تتبادر إلى الذهن، ويحصل بسببها الكثير من الارتباك في التصورات والمفاهيم، وقدر كبير من التَّشَوُّش في فهم سيرورة الأحداث ودلالاتها. فالكثيرون يتساءلون..
"إذا كانت شركات النفط في الولايات المتحدة بوصفها أكبر منتج للنفط في العالم، ستبيع نفطها الذي تُنْتِجه كاملا داخل السوق الأميركية، بأسعارِ السوق السائدة التي وصلت إلى أعتاب الـ "150" دولارا للبرميل قبل حوالي اربع سنوات، وذلك في فترات الذروة خلال شهر مايو / أيار 2008، فضلا عما ستشتريه بهذه الأسعار من السوق العالمية. أليس ذلك سببا وجيها لتذمر المستهلك الأميركي شأنه في ذلك شأن بقية مستهلكي العالم، الذين سيعانون من هذا الارتفاع المهول في الأسعار؟!"..
"وإذن فإن الفائدة النسبية المحدودة التي تحققت للكارتل النفطي الأميركي، يقابلها ضرر كبير تعرض له كل الشعب الأميركي الذي سينعكس ارتفاع أسعار النفط على مستوى معيشته في كل جوانبها. أي أن المليارات التي حققها الكارتل النفطي كمكاسب نقدية طارئة بسبب هذا الارتفاع، والتي حصل عليها في واقع الأمر من خلال عملية ترحيل لها من مكان داخل الولايات المتحدة إلى مكان آخر، دون أن تكون لها أيُّ دلالات في زيادة الناتج القومي الأميركي، فهي لم تُنْتِجْ سِلَعاً جديدةً ولا حقَّقَت قيمة مضافة، إنها كميات ثابتة من النفط الخام ارتفع ثمنها، فباعها منتجها بهذا الثمن الجديد إلى مستهلكها الذي دفع أكثر.. نقول.. إن هذه المليارات أليست تدفقا ماليا إضافيا تَكَبَّدَه المستهلك الأميركي من جيبه الخاص بدون تَغَيُّرٍ في دخله الفعلي؟!"..
"أو ليس ذلك بالتالي عبئا استهلاكيا وقع على كاهله، سيثير تَذَمُّرَه من إدارته ويدفعه إلى الحنق والنقمة عليها؟!"..
في واقع الحال تبدو هذه الأسئلة مشروعة ووجيهة للوهلة الأولى. لكنها لا تلبث أن تظهر بلا مضمون عندما نفهم حقيقة السياسة النفطية الأميركية داخل الولايات المتحدة.
فمنذ زمن بعيد بدا واضحا للإدارة الأميركية أن واقع الشرق الأوسط وأوضاعه السياسية المتقلبة وغير المنضبطة، قد يتطلبان إحداثَ تغييراتٍ تقتضي تراكمَ كمٍّ هائلٍ من الثروة بأيدي العرب الخليجيين، لا يمكن تَحَقُّقُه إلاَّ بارتفاعِ أسعارِ النفط الخام، إلى أرقامٍ تقارب المائة والخمسين دولارا للبرميل الواحد، باعتباره ولأجيال قادمة هو مصدر الدخل الأساسي في تلك الدول. وبالتالي فهي كانت تدرك أيضا أن هذا الارتفاع الخيالي إذا لم يتم أخذ الحيطة له منذ ذلك الزمن البعيد، فإن انعكاساتٍ خطيرةً غيرَ مأمونةِ العواقب ستحدث في المجتمع الأميركي بسببه.
فماذا فعلت، وبماذا احتاطت، وكيف تصرفت منذ ذلك الوقت، بشكلٍ يَجعل التَّخَوُّفات المحتملة محلولةً بأثرٍ رجعي؟!
منذ وقت مبكر – منتصف السبعينيات تقريبا – فرضت الإدارة الأميركية على النفط الخام ضريبة فدرالية، بنسبةٍ متغيرة لا تعرف الثبات، في ضوء علاقةٍ من نوع غريب بسعرِ برميل النفط، جاعلةً هذه النسبة تتغير صعودا وهبوطا، لتحقق معادلةً سعريةً تَتَّسِم بالثبات المتمحور حول سعر يقارب المائة والخمسين دولارا للبرميل الواحد.
ومعنى هذا أن الإدارة الأميركية حددت سعرا افتراضيا لبرميل النفط بالنسبة للمستهلك الأميركي هو ما يقارب المائة وخمسين دولارا. وكان المستهلك يدفع هذا السعر لثمن البرميل الواحد من النفط الخام، مُقَسِّماً إياَّه إلى جزءين، أحدهما يمثل سعر البرميل الذي يتقاضاه المنتج وهو من حَقَّه، والجزء الثاني ويمثل الفارق بين هذا السعر والسعر الافتراضي، والذي هو المائة وخمسين دولارا تلك، ويُدفَع هذا الجزء كضريبة على النفط الخام، للحكومة الفدرالية.
أي أن المواطن الأميركي كان يتعامل منذ زمن بعيد جدا مع برميلٍ للنفط الخام سعره مائة وخمسون دولارا دون أن ينتبه إلى ذلك أو يعيَه، لأن هذا السعر في واقع الحال منطوَىً في كل ما يستهلكه في حياته من سلعٍ وخدمات. وليس هذا السعر بالأمر الجديد عليه من حيث تأثيره في حياته. كل ما في الأمر أن الحكومة الأميركية كلما ارتفع سعر النفط مقتربا من المائة وخمسين دولارا للبرميل الواحد، تُخفِّضُ من نسبة ضريبتها هي.
فعندما كان ثمن البرميل خمسين دولارا، كانت الحكومة تتقاضى مائة دولار، وعندما أصبح ثمنه سبعين دولارا، فإنها راحت تتقاضى ثمانين دولارا. وإذا أصبح ثمن البرميل مائة وخمسين دولارا، فإن الحكومة الفدرالية لن تتقاضى عنه شيئا. أي أن السعر بالنسبة للمستهلك الأميركي الآن وغدا وإلى أن يصل السعر إلى مائة وخمسين دولارا، ثابت لم يتغير ولم يحس به على وجه الإطلاق، فيما تكبدته الحكومة على شكل ضرائب تتنازل عنها لصالح كارتل النفط الأميركي، كي تلعب لعبتَها في رفع الأسعار بالشكل الذي تريده تنفيذا لسياساتها العالمية والشرق أوسطية، دون أن تثير مخاوف المواطن الأميركي وقلقَه.
أي أنها راحت تدفع لمنتج النفط الأميركي جزءا من أموال دافع الضرائب المدفوعة أصلا للحكومة الفدرالية في كل الأحوال، دون أن يشعر هذا الدافع بشيء، لأنه كان في الواقع قد تعوَّدَ على دفع القيمة نفسِها إلى خزينة الدولة منذ عقود مضت من الزمن. فهو بذلك لم يَجِد عليه أيُّ جديد.
ولعل الاضطراد المتواصل في ارتفاع أسعار النفط الخام دون أن نسمع عن مشكلات أو تذمر لدى المستهلك الأميركي من هذا الارتفاع أو من انعكاسه على مستوى معيشته خلافا لكل دول وشعوب العالم التي كانت تستورد النفط، يثبت لنا ذلك ويؤكده. بل إننا لم نسمع أيَّ مسئول أميركي يتحدث عن تأثير سلبي لارتفاع الأسعار على الاستهلاك الأميركي إلا في منتصف شهر مايو / أيار 2008 عندما أعلن الرئيس "جورج بوش" بخجل وبمرور عابر، أن بدء ارتفاع أسعار البنزين قد يؤثر على المواطن الأميركي، وهو ما دعاه إلى طمأنة ذلك المواطن بأن المسألة لن تؤثر عليه في المدى المنظور وإذا لم تتجاوز الأسعار المائة والخمسين دولارا.. وهنا علينا أن ننتبه إلى أن الرئيس الأميركي لم يصرح بهذا التصريح، إلا بعد أن بدأ سعر برميل النفط بتخطي حاجز الـ "140" دولارا، أي بعد أن بدأ يقترب من الخط الأحمر الذي أشرنا إليه.
أما تعويض هذه المليارات التي ستتكبدها الإدارة الأميركية بتخفيض نسبة ما تحصل عليه من ضرائب على النفط الخام من مواطنيها بإحالتها إلى قادة كارتل النفط الأميركي فأمرها سهل، لأنها ستُسْتَرَد مضاعفة من صفقات التسليح ومن نفقات ومصاريف تمويل الحروب التي ستغطيها الدول الخليجية في الشرق الأوسط.
فلندخل إلى شيء من التفصيل لتوضيح ذلك أكثر..
"الأرقام في العرض التالي افتراضية للتمثيل فقط"..
دعونا نفترض أن السعودية ستصدر ما مجموعه السنوي "2000" مليون برميل من النفط الخام، بواقعٍ يقارب الـ "6" ملايين برميل في اليوم تقريبا. وبسعر يصل فقط إلى "70" دولارا في المتوسط للبرميل الواحد. إن إيراداتِها المُتَأَتِّيَة من هذا الإنتاج خلال سنة واحدة هو "140" مليار دولار، يمكنها أن تتجمع على مدى عشر سنوات لتصبح "1400" مليار دولار. فإذا علمنا مثلا أن المملكة السعودية ستنفق فقط ما مجموعه "400" مليار دولار على موازناتها ومشاريعها وخططها التنموية الداخلية خلال السنوات العشر، فإننا في واقع الأمر نتحدث عن فائض في الثروة البترودولارية قدرها "ترليون" دولار على مدى السنوات العشر محل الدراسة تلك.. (هذا مثال افتراضي لشرح الآلية وليس لتوضيح حقيقة الأرقام، لأن الحقيقة كانت في الواقع أضخم وأخطر من ذلك بكثير، بعد أن وصلت الأسعار في عام "2008" إلى أكثر من "140" دولارا للبرميل، وبعد أن أبدت السعودية في أكثر مناسبة استعدادها لإنتاج أكثر من "10" ملايين برميل يوميا لتعويض أي نقص في المتاح من النفط في حال تطبيق عقوبات على إيران، أو في حال حدوث أزمات إقليمية أو دولية تهدد التدفقات النفطية في العالم، كما فعلت خلال هجمة الناتو على ليبيا وتوقف تصدير النفط الليبي).
بكل تأكيد فإن هذه المبالغ ستودع في البنوك والبورصات وبيوتات المال الأميركية بالدرجة الأولى، والأوربية بالدرجة الثانية كما جرت العادة. خلال السنوات العشر فإن السعودية ستشتري أسلحةً بقيمة "150" مليار دولار. وبما أن أسعار الأسلحة غير منطقية وتكافئ حوالي عشرين ضعف ثمنها الفعلي الذي كَلًّفه إنتاجها كما مر معنا. فهذا يعني أن أكثر من "140" مليار دولار ستدخل إلى الولايات المتحدة كمكاسب وأرباح حقيقية من صفقات الأسلحة تلك.
وبما أن الحكومة الأميركية بدورها تشتري الأسلحة التي تبيعها لأولئك المغفلين أو المتآمرين، "اعتبرهم كما شئت"، بأثمان مرتفعة من شركات تصنيع الأسلحة الممثلة للكارتل العسكري في الولايات المتحدة، كي يستفيد الجميع من صناعة الموت هذه، فإن هذا المبلغ سيوزع ضمنا وعبر الصفقات التجارية التي ستكون قد تمت بشكل قانوني بين الحكومة وشركات السلاح على الطرفين، بحيث يمكن القول بأن الحكومة الأميركية ستحقق مداخيل إلى خزينتها جراء هذه الصفقات لا تقل عن "100" مليار دولار..
هذا جانب واحد من جوانب إمتصاص الفوائض في المداخيل النفطية للدول الخليجية..
وماذا بعد؟!
دعونا نُكْمِل السيناريوهات الافتراضية المُخَطَّط لها أميركيا..
ستندلع حرب مدمرة في الإقليم تكلف ما بين أسلحة وذخائر وخدماتٍ عسكرية ودفاعية وغير ذلك ما يقارب الـ "500" مليار دولار. ستُدْفَعُ أيضا من المال السعودي الفائض هذا. ولأن أسعار كافة الأسلحة والخدمات العسكرية والدفاعية غير منطقية كما مر معنا، وأنَّها تكافئ حوالي العشرين ضعف التكلفة الفعلية، فهذا يعني أننا نتحدث عن حربٍ ذات تكلفةٍ فعليةٍ مقدارها "25" مليارا تقريبا، أي أن ما يقارب الـ "475" مليارا من الدولارات، دخلت إلى الولايات المتحدة كأرباح ومكاسب حقيقية من هذه الحرب.
وإذا عدنا لتوزيع المكاسب بين الحكومة الأميركية وبين شركات السلاح والخدمات العسكرية المختلفة بنفس نسبة التوزيع السابقة، فإننا نتحدث عن مكاسب ومداخيل صَبَّت في خزينة الحكومة الأميركية مقدارها بسبب هذه الحرب "350" مليار دولار تقريبا..
أي أن إجمالي ما دخل إلى الخزينة الأميركية بسبب الامتصاص العسكري للفوائض السعودية اقترب من النصف تريليون دولار..
ولكن ماذا بعد؟!
ما يزال هناك ما يزيد على النصف تريليون دولار مدَّخرةً في بورصات وبنوك الأميركين والغرب ومسَجَّلَةً كملكيات نقدية للسعوديين. وهذا وضع نشاز وغير مقبول وعلى السعوديين أن يستعدوا لإكمال اللعبة بخصوص هذه الفوائض المتبقية حتى النهاية. كل ما في الأمر أن السعوديين يبدأون في ترتيب أوضاع هذه الملكيات المختلفة الأشكال، لتوضع أمام بوز المدفع "البورصي" الأميركي، لتُطلِقَ عليها البورصات نيران مدافِعِها الحارقة بشكل مدروسٍ يُبَخِّرها، وينتهي الأمر.
وهكذا يكون الاقتصاد الأميركي قد ضَخَّ إلى مالكيه ومستثمريه ومواطنيه أكثر من نصف تريليون دولار في رمشة عين، أتاحتها أبخرة المال السعودي الذي اشتعل في محارق البورصات الأميركية. وهو قدر مهولٌ من الدخل لا يُتاح في مثل هذا الوقت القياسي لكل البشرية مجتمعةً.
كما أن الحكومة الأميركية تكون عبر لعبة صفقات الأسلحة والحروب الإقليمية المحبوكة قد استعادت أضعاف ما تنازلت عنه من ضرائب للمواطنين الأميركيين بسبب غلاء أسعار النفط الخام. لتكون النتيجة أن كل طرف في الولايات المتحدة كان مستفيدا فيما تضرر كل العالم الذي أرادت الولايات المتحدة أن يتضرر.
خلاصة القول إذن، أن ارتفاع أسعار النفط العالمية لا يعود على العرب الخليجيين ومن دار من العرب في أفلاكهم بأيِّ منفعة ذات دلالة تنموية، إلا في حدود ضيقة وشكلية وتهدف فقط إلى الإيهام بالمردود الإيجابي، لتجنب وقوع "الحكومات السفيهة" تحت طائلة الإدانة من قبل شعوبها الغارقة في الضلال والغفلة. كما أنه لا يتسبب للأميركيين بأيِّ مَضَرَّة، ماداموا سيمتصون كل الفوائض النقدية التي حققها هؤلاء والمتأتية لهم من دول العالم الأخرى، من خلال إستراتيجيتهم العسكرية في المنطقة العربية.
وكأن الولايات المتحدة الأميركية تُمَوِّل حروبَها وقواتِها في المنطقة بأموال ليست لها. فتكون بذلك قد حَرَّكَت وأحيت ونشَّطت كارتلين ضخمين من الكارتلات التي تُشَكِّل القوى الأساسية والفاعلة في معقل الإمبريالية، وهما كارتل النفط الذي استفاد أصحابه من ارتفاع الأسعار ابتداء وبشكل مباشر، باعتبار الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط الخام في العالم، عبر عملية إزاحةٍ داخليةٍ لقطعة هامة من الكعكة الأميركية على حساب الخزينة الحكومية الأميركية التي تفعل ذلك حماية للمواطن من جشع المنتج الذي يجب أن يربح ويلبي نهمه إلى المال والثروة، وحماية للمنتج من ثورة المواطن الذي يجب أن يبقى نظام التسعير في حياته الاستهلاكية متوازنا غير مُخِلٍّ بمقدرته الشرائية. وكارتل السلاح الذي استفاد أصحابه من فوائض النفط الخليجي التي مُوِلَت بها مبيعات أسلحتهم وخدماتهم العسكرية المتنوعة، معيدة إلى الخزينة من جديد كل المبالغ التي تمت إزاحتها منها خلال الفورة النفطية، للحفاظ على التوازن بين المنتج والمستهلك في سوق النفط الأميركي.
ولأن معظم هذه المداخيل النفطية الخليجية قد تأَتَّت من كل من الصين والهند واليابان وأوربا الغربية وأوربا الشرقية وبعض دول العالم الثالث، فهذا يعني عمليا أن الولايات المتحدة برفعها لأسعار النفط إلى هذا الحد إنما تضغط على اقتصاديات تلك الدول بشكل أو بآخر، وبنسب متفاوتة من دولة إلى أخري كي تُدًفٍّعَها أَتاواتٍ عالمية كما يفعل كلُّ البلطجية والفُتُواَّت في المجتمعات البدائية.
مُستهلكو الطاقة في العالم إذن، هم الذين يدفعون ثمن شلالات الدم في الشرق الأوسط عبر أيدي حكام الخليج الذين يقومون بهذا الدور القذر من خلال دفع ثمن أسلحة الموت والدمار التي تريق الدماء في المنطقة من ثمن النفط الذي تمتلكه شعوبهم، بعد أن باعوه لأولئك المستهلكين كي يتدفأوا به، لتكون النتيجة الفعلية أنهم يتدفأون بدماء ضحايا الشرق الأوسط.
وإذن فهل تعتبر "الوظيفية السعودية" أقل أهمية ومركزية في المشروع الإمبريالي العالمي، من "الوظيفية الصهيونية"، أم أنها أكثر منها أهمية، مادامت تمثل الرافعة الاقتصادية لهذا المشروع، عبر الولوغ إلى الأذقان في معالم الانهيار والتراجع والتفتت والتخلف العربية، بالمشاركة الفاعلة في أقذر إدارة لاقتصاديات النفط والسلاح العالمية وفق الإستراتيجية الأميركية؟!
هذا بطبيعة الحال دون أن نتحدث عن ظاهرة الانمساخ الثقافية والدينية التي يسوِّقُها البترودولار السعودي للأمة العربية، حائلا بذلك دون هذه الأمة ودون إعادة إنتاجها لثقافتها ولرسالتها الدينية الإسلامية، على نحو يضع "الوظيفية السعودية" المتصدرة لثقافة الظلام، في مكانها الصحيح، والذي هو أنها الوظيفية المؤسِّسَة لـ "الصهيونيتين العربية والإسلامية" والمنشئة لهما، دون أيِّ تحفظات.
لتكون النتيجة الحتمية هي أن "الوظيفية السعودية" لا تمت إلى العروبة أو إلى الإسلام بأيِّ صلة، لأن الانتماء إلى هاتين المرجعيتين القِيَمِيَّتَين "العروبة" و"الإسلام"، يجسِّدُ نفسَه عبر سياساتٍ وثقافاتٍ ورؤى إسلامية تؤسِّس لمواجهة المشروع "الإمبريالي الصهيوني الوظيفي"، وليس عبر سياساتٍ وثقافات ورؤى إسلامية تدعمه وترفده وتسانده وتحضنه وترعاه، فتمثل رافعته التي لا يقوم بدونها.
فالانتماء إلى "العروبة، هو انتماء إلى "قيمة العروبة" التي حملت رسالة الإسلام الثائر المنقذ للبشرية على كاهلها منذ أربعة عشر قرنا، قبل أن يتمَّ التآمر على هذه "القيمة" بكل أنواع "الشعوبية" و"الهرطقة التراثية" التي أقامت صروحها الفقهية والعقدية والسياسية من ثمَّ، على أنقاض العقل والعلم، لتُجسِّدَ أكبر عملية تزييف في فهم التاريخ العربي الإسلامي، وفي فهم مضمون الرسالية في الدين الإسلامي ذاته، بشكل تفوَّق على التزييف التاريخي الذي سوَّق به اليهود والبروتستانت للعالم كلَّ أكاذيبهم، وليس الانتماء إلى العروبة انتماءً إلى عِرْقٍ مفرَّغ المضمون، نزعوا منه ونزعوه من تلك "العروبة القيمة"، ليغرقوه في ثقافة العشيرة والقبيلة كرافعة لثقافته في زمن غزو الفضاء.
كما أن الانتماء إلى "الإسلام"، هو انتماء إلى "ثورة" وإلى "قيم ثورية"، تدفع باتجاه تحرير الإنسان من كل أشكال الظلم والعبودية والارتهان والاستضعاف، وليس الانتماء إليه انتماءً إلى حالة من "الهوسٍ الديني" المشَوَّه للذات وللنفس، أو انتماءً إلى "غيبوبة تراثية" غارقة في الشكلانية والمظهرية القميئة، التي جعلت من طريقة الاستنجاه، ومن طريقة التشهد في الصلاة، ومن طريقة الجلوس أثناء قضاء الحاجة، أمورا أهم عند الله من تحرير أمة ورفعة قضية، فشوهوا حتى صورة "الإله" العظيم المنزهة عن كلِّ النقائص، من حيث يظنون أنهم عنه يدافعون، ولإرادته يستسلمون، ووفق خطته يتحركون، فيما هم عن كلِّ ذلك أبعدَ ما يكونون.