تغير الفتوى بتغير الظروف
أسامة سعيد القحطاني
تحدّث الإمامان الشاطبي وابن القيم وغيرهما كثيراً عن تغير الفتوى بتغير الأزمان والأماكن والظروف، وهذا ليس راجعاً إلى أن الحكم الشرعي يتغير بذاته، وإنما يرجع إلى تغيّر الواقعة أو النازلة وهي محل الحكم، مما يؤدي إلى تغيّر مسبّبات الحكم أو عِلله. فلو شرب أحدٌ الخمرَ لأجل الاستمتاع كان حراماً بإجماع المسلمين، ولكن لو شربه نظراً لكونه في مخمصة -مجاعة-؛ فإن الحكم قد تغير هنا، نظراً لتغير الظروف كما يعبر الفقهاء. وهكذا تحدث عدد من الفقهاء في هذا الأمر، وكان من أبرزهم الشاطبي؛ حيث أوضح أن هذا من كمال الشريعة، أنها تُراعي اختلاف الظروف، ولا تساوي بين حالتين مختلفتين، مما قد يُسبب حرجاً على الناس.
ففهْم الواقعة -محل الحكم- أمر أساسي في تنزيل الحكم الشرعي عليها، وهذا قد يحتاج أحياناً إلى مختص في مثل تلك الواقعة، كأن تكون متعلقة بالطب أو الهندسة وما إلى ذلك، كي يبيّن للمجتهد الظروف المحيطة بالنازلة بشكل صحيح.
الملاحظ أن هناك عدداً من النوازل المعاصرة التي استعجل بعض الفقهاء المعاصرين في الحكم عليها، مما أدى إلى إصدار أحكام غير صحيحة ومبنية على فهم خاطئ للواقعة أو النازلة. وكثيراً ما تتدخل هنا العادات الاجتماعية مثلاً، أو عدم القدرة على استيعاب تلك النازلة أو غير ذلك من الأسباب. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتكررة إلى يومنا هذا، ومنها مثلاً؛ تحريم الطباعة من بعض الفقهاء خشية التحريف، وكونها مؤامرة من الكفار (نابليون آنذاك) فيما زعموا، حيث لم يعتد أولئك الفقهاء على الطباعة، ولم يبحثوا في فهم آليتها وفائدتها، وأن الأخطاء التي قد تحصل في الطباعة قد تحصل أيضاً من الناسخ! وهكذا في تحريم التصوير الفوتوغرافي الذي كان شغلاً للبعض، وكم نشرت من كتيبات ومنشورات لأجل هذا الأمر، وفي النهاية أصبح أولئك أنفسهم يستخدمون الآلات ذاتها، وهذا في نظري من صنع العادة والمألوف في آراء الكثير من الناس.
مثال آخر؛ وهو مشهور، عندما أفتى بعض الفقهاء -رحمهم الله- بأن الوصول إلى القمر غير ممكن، وأنه لا يجوز التصديق بذلك، وهذا إنكار لحقائق علمية متيقّنة بناء على فهم خاطئ للنصوص، مع عدم قبول النظر في النازلة أو الواقعة الحديثة وفهمها بشكل جيد لأجل إصدار الحكم! وهذا بلا شك -أعني مثل تلك الفتاوى المتسرعة- يطعن في الشريعة، حينما ينكرون شيئاً ثابتاً علمياً، ويصادمونه بفهم خاطئ للنصوص التي لا يستشكلها أحد الآن، بفضل انتشار العلم وتعارف الناس على تلك الحقيقة!
واليوم نجد قضايا ساخنة كثيرة؛ بطاقة المرأة، قيادة المرأة ومشاركتها ..، الأمثلة كثيرة ولا أريد الإسهاب فيها، وإنما أريد الإشارة إلى أنه كثيراً ما يعترض البعض على أشياء لم يعتادوا عليها ربما، ويُقحمون الدين لأجل ذلك، مع أنهم هم أنفسهم ربما يأتي يوم قريب ويكتشفون خطأهم! مثل ما حصل في الأمثلة السابقة. يجب بنظري أن لا يُتخذ من الدين ستار على كل ما لا يريده أو يحبذه البعض في آرائه الشخصية، وأن يُتَأنّى في الفهم الكامل للواقعة مع النظر في حاجة الناس وما استجد من ظروف وأحوال، كما لا يجوز أن يتوسع الفقهاء في التحريم باستخدام سد الذريعة في أمر هو في أصله مباح، ويدخل ربما في مصالح الناس الحاجيّة، التي لا غنى لهم عنها، مما قد يضيق على الناس في معاشهم، حيث بالإمكان القضاء على أغلب المباحات بهذه الطريقة، لو طردنا هذا الأمر، ولذلك خالف عدد من الأصوليين في هذا الأصل (مبدأ سد الذرائع عند الفقهاء والأصوليين)، كما هو المشهور عن الشافعية، بل قال الأحناف بعكسه كما هو واضح في إباحتهم للحِيَل الفقهية. هناك العديد من القضايا التي لا زال الخلاف -المتعلق بالدِّين- ساخناً فيها، مع أنه أمر لا علاقة له بالدين -بنظري-، وليس فيه نص بالتحريم، والخلاف فيها مشهور، ولكن البعض اتخذ من تلك القضايا شعاراً يقاتل دونه، وأصبحت تشكل بالنسبة له أمراً مصيرياً. وهذا بنظري لا يتفق مع أدب الخلاف، ولا مع التجرّد في البحث عن الحق والصواب.
لا شك لدي أن غالبية أولئك تأخذهم الغيرة على الدين، ويسعون جاهدين في الحفاظ على محارمه فيما يعتقدون أنه من محارمه، إلا أن الإنسان مطالب بإعادة النظر والمراجعة لكل آرائه -بمن فيهم كاتب المقال-، خاصة فيما اختلف فيه الناس. ولكن قبل ذلك وبعده؛ يجب أن لا نلجأ إلى التضييق على الناس في أمر لم يتبيّن فيه الحرام، كما يجب أن نكرر الدعاء المأثور؛ اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=7579