فيروسات البيئة البصرية ... و شيطنة الخيال
بقلم: شامل سفر
أن يتسمّر المُشاهد أمام الشاشة، فيذهل عمّا سواها؛ غارقاً في بحر من التأثيرات الصوتية البصرية المعدّة بحرفية عالية .. لم يعد هذا (فقط) هدف المخرجين وشركات الإنتاج العملاقة .. لم يعد هدفهم يقتصر على ذلك منذ زمنٍ بعيد ... فاستثمار التسمّر المذكور، يدر أرباحاً على المدى الاستراتيجي، هي أكبر أرقاماً بكثير من مجرد تلقّى الإعلانات التجارية بأعصابٍ مخدرة وخيالٍ تائه .. لقد صارت مداخيل شباك التذاكر وعوائد الإعلانات التجارية، مجرد أهداف قصيرة المدى لها ما بعدها؛ على المديين .. المتوسط والطويل.
وعلى الرغم من أنها ـ أي صناعة السينما ـ مجالٌ صناعي /تجاري .. (وفني ثقافي .. هكذا يقولون) .. إلا أنها (ويا للعجب) تعتمد على الزراعة بالمقام الأول .. زراعة من نوع خاص شديد الدقة، وعظيم الخطورة في آن واحد.
الدماغ البشري أيها السادة .. حسبما يعرف أصغر مبتدئ في مجال علم النفس .. يتذكر ما يسمع ويشاهد في وقتٍ واحد .. أكثر بكثير مما يتذكر ما يسمعه فقط .. أو يشاهده فقط ..... إن الذاكرة السمعية /البصرية مجالٌ خصب جداً يمكن للمحترفين أن يزرعوا فيه ما يشاؤون ... والسبب بسيط للغاية .. فالبذرة المزروعة، إذا تم تعاهدها بالرعاية والسقاية، أي بمزيدٍ من الرفد المدروس، لا يبقى نموها وامتدادات أغصانها وأوراقها .. لا يبقى كل ذلك مقتصراً على الذاكرة .. بل يمتد تدريجياً ليطال الخيال .. والأحلام الليلية .. بل وأحلام اليقظة .. ثم يسري رويداً رويداً ليبدأ التأثير في طريقة معالجة الأفكار والمشكلات والقضايا العقلية .......
بكلام أكثر بساطةً .. الأمر يبدأ من مجرد تسلية بسيطة .. يبدأ (ربما) من تناول وجبة عشاء أمام أي نوع من أنواع الشاشات .. فيصل بالتدريج طويل المدى .. إلى العقل وطريقة التفكير، ثم إلى السلوك ... السلوك يا سادة .. أي أنه يطال العلاقة بالآخرين ... أي بالمجتمع.
وما يقال عن أن فلاناً من الناس ما هو إلا متلقّي سلبي .. لا يفلتر ما يشاهده .. أظن أن أصدقائي من المخرجين الذين يقرؤون كلماتي الآن، سيبتسمون إذ يمرون على الجملة السابقة ... لأنهم يعرفون يقيناً، أن السرعة العالية للتتالي البثّي (للمَشاهد وللأفكار) ستجعل من أي نوع من أنواع المشاهدين (تقريباً) .. متلقّين سلبيين .. لا لأنهم سلبيين ابتداءاً .. بل لأن التتالي السريع، مع التضمين العالي الدقة والمدروس باحترافية شديدة .. لن يدع وقتاً كافياً للمحاكمة العقلية كي تمارس دورها الفطري والطبيعي.
ولئن كان التكرار يجمّد المحاكمة العقلية .. ويعرف ذلك كل من يعمل في مجال الإعلانات التجارية .. فإن التكرار في السينما لا يكون دائماً تكراراً تطابقياً .....
إن الإعلان التجاري يتم تصميمه بشكلٍ يجعله قابلاً للتأثير بمجرد تكراره كما هو؛ وبدون تغيير في طريقة البث .. وأما تكرار الفكرة التأثيرية الإيحائية عبر الفيلم السينمائي .. فهي تعتمد على (ولاء الخيال) .. وللخيال المدمن ولاءٌ دائم للمزيد .. للمزيد من ساعة أو ساعة ونصف، يتم خلالها (تعاطي) الجرعة المعتادة .. إنها جرعة الساعة ونصف من المشاكل (الحلوة العرض) والتي تحل في النهاية، ويصبح كل شيء على ما يرام ..... بمعنى أن تكرار البث الإيحائي التأثيري لفكرة، أو سياق من أفكار ... يعتمد على مشاهدة فيلم ثانٍ وثالث ورابع ... ويتم بث نفس السياق .. بل نفس الفكرة أحياناً .. بشكلٍ جديد يتلاءم مع سياق الفيلم التالي.
أيها السادة .. الأمر لا يقتصر على طفل اشترى له أبوه ملابس (سوبرمان) فارتداها الطفل ثم حاول القفز من فوق الخزانة كي يطير ... الأمر أكثر خطورةً مما يتوهم كثيرون .....
إن الطفولة الفكرية التي ما يزال كثيرٌ ممن بلغوا الثلاثين (وربما الأربعين) يعيشونها؛ بسبب طول إهمالهم لما يُدخلونه إلى عقولهم وذواكرهم وخيالاتهم ... يجعلهم أكثر عرضةً لمصائب فكرية، وبالتالي سلوكية .. هي أكثر خطورةً عليهم (وعلى المجتمع البشري كله .. لأنهم يؤلفونه في مجموعهم) ... أكثر وأبعد خطراً .. بشكلٍ (ينبغي) أن يثير قلقاً علمياً عالمياً .. لدى أصحاب الضمائر الحية.
صباحكم .. تأمل