زكاة القلم .. وزكاة الثقافة
كلنا تعلم فى بدايات عمره ما هى أركان الإسلام الخمس ,
وكلنا مر عليها وحفظها ورددها وهناك من التزم وهناك من قصر كما هى طبيعة البشر فى كل وقت
ولكن حديث اليوم لا يخص الجموع والعامة بل يركز على الخاصة من أهل القلم وأهل الثقافة ..
كل أهل القلم مهما اختلفت مجالاتهم ومشاربهم , فأصحاب القلم هو الفئة العليا بأى شعب يحترم نفسه فإن أصبحوا فى غير هذا المستوى كان العيب فيهم أيضا لا فى المجتمع الذى ارتفع بسفلته وأحبط عليته
لأنهم ـ كما يقول مفكرنا توفيق الحكيم ـ هم أصحاب تربية الرأى العام
ودورهم بالغ الخطورة مهما بدا للناس قاصرا , والأمثلة على ذلك أكبر من أن تحصي فكم من جموع حركها مقال وكم من جموع أثارها بيت شعر واحد
وأصحاب القلم ـ
كغيرهم من الخواص ـ فيهم المجتهد وفيهم المخل وفيهم الداعى للخير والعلم وفيهم الهادم لهذا وذاك
وليس هناك عجب أو غرابة فى الذى امتهن الحق بوضوح وأيضا فى الذى امتهن الباطل فى وضوح .. نظرا لأن الوضوح هنا يكف عنا مشقة المعاناة مع أصحاب الغفلة أو أصحاب الوجوه المتعددة
فصاحب الحق تكون نصرته .. هى الرد , وصاحب الباطل يكون دفعه .. هو الرد
ولذلك فالهم الأكبر يكون فى حق أولئك الغافلين عن حقيقة دور القلم وهم على إحدى صورتين :
إما أصحاب غفلة عن الأثر الفادح الذى تحمله كتاباتهم للقراء ومدى تأثيرها عليهم
وإما أصحاب غفلة عن الفريضة الغائبة وهى زكاة القلم وزكاة الثقافة والموهبة
كما بالتفصيل التالى
أولا : الغافلون عن الأثر ..
الأمية كانت فيما مضي من الأزمان هى أزمة الأزمات بالنسبة للثقافة العربية عامة , ولكن عصرنا الحالى أضيفت فيه إلى كارثة الأمية .. كارثة الجهل العميم
وإن كانت الأمية تعتبر كارثة , فالجهل طوفان من الكوارث , لأن الأمية تعنى عدم المعرفة وهذه علاجها يكون بالتعليم والإرشاد أما الجهل فهو المعرفة الخاطئة ويحتاج جهدا مضاعفا لإصلاح العطب الذى يتسبب فيه نظرا لأن المصلح عليه أن يقوم بتنقية عقل الجاهل من جاهليته أولا ثم إعادة تعليمه
ولنا أن نتخيل أى مستوى بلغته عقلية العامة ومصادر معلوماتها عبارة عن إعلام مشوه وثقافة سينمائية ومدارس وجامعات تخرج الأجيال عبارة عن ركام مسخ لا إنتماء له ولا منتمى
والأمثلة أكثر من أن تحصي على مدى التردى فى سائر جوانب الحياة مما يعطى لنا مدى فداحة الأثر لكل قلم يكتب دونما إستثناء لا سيما فى محافل الإنترنت التى فتحت الباب أمام كل قلم وكل كاتب
وهذا وإن كان أمرا محمودا فى جانب فهو مذموم فى جانب آخر
فكما فتحت المنتديات أبوابها أمام المواهب التى أغلقت فى وجوهها نوافذ الإعلام , فتحت الباب أيضا للغثاء الذى يري فى الكتابة مجالا للتسلية وقضاء وقت الفراغ فيكتب أو ينقل كل ما يصادفه من الشبكة المتسعة لاهثا خلف تعقيب من هنا أو كلمة مدح من هناك
وبالطبع يتركز اهتمام تلك الفئة على الموضوعات اللافتة للنظر
فإذا عدنا لحال المجتمع فعرفنا كيف أنه مجتمع أصبحت القيمة فيه عبارة عن القيمة الرياضية الخالية " فاى " , لعرفنا كيف أن هذه الأقلام التى تكتب بلا هدف تمثل موضوعاتها مصدرا من مصادر الثقافة فى المجتمع !
والمثال الحى على ذلك هو ما يفعله الباحث عن معلومة ما أو موضوع معين فى الإنترنت حيث يقوم بالتجول بين الموضوعات التى تتناول ما يبحث عنه دونما أن يتأنى لحظة ليسأل أو يستقصي عن مصدر تلك المعلومة أو هذا الموضوع
وبالتالى يكون أصحاب الأقلام الكاتبة أو الناقلة عبارة عن فيروسات ناقلة للعدوى ويتحملون وزر ما تبثه موضوعاتهم فى المجتمع ولو كان الآخذ بها فرد واحد فقط لا غير
وكل هذا دون أن يدركوا تحت تأثير الغفلة من قوة الأثر الذى تسببه موضوعات منقولة دون تحرز لا سيما إن صادفت بندا أو مبدأ هاما فى الثقافة الدينية أو التاريخية أو نحو ذلك
وكل هذا تحت تأثير حمى التميز أو النشر أو المساهمة فى المنتديات
ولكل قارئ أن يتجول قليلا عبر المنتديات وسيري العجب العجاب مثل إحدى الموضوعات الذى يتحدث عن عريس منحل قام بفعل فاضح ليلة زفافه أمام جمهور الحضور فى الحفل
هذا الموضوع منذ تم نشره قام بنقله عدد رهيب من أعضاء المنتديات مدعوما بالصور إلى أكثر من 7160 منتدى على الإنترنت , والمصيبة أن بين هذه المنتديات من يقدم نفسه على أنه منتدى ثقافي أو ملتقي أدبي ؟!
ونوعية هذه الموضوعات التى يحب أصحابها نشرها تحت بند الغرائب والطرائف أكثر من تحصي رغم افتقارها لأدنى معايير الأخلاق فضلا على معايير الفائدة الثقافية المرجوة ..
ومن الجانب الآخر موضوعات المغالطات الثقافية التى تمثل بدورها نوعا رهيبا من أنواع التجهيل للخاصة فضلا على العامة من أمثال الموضوعات التى ينقلها بعض الأعضاء من مواقع ومنتديات غير متخصصة أو مأمونة وتتحدث عن غرائب ومكتشفات علمية ليس لها أصل من الواقع وحقائق ومعلومات تخص الإعجاز العلمى للقرآن ولم يعتمدها أهل الإختصاص من لجان الإعجاز العلمى المنتشرة بمصر والسعودية وباكستان وغير ذلك من المعلومات التى لا يصح مطلقا تداولها واشتهارها بين المنتديات الثقافية وهى لا تستند إلى قول متخصصين
وهذه الأمور لها خطورتها .. ليس فقط فى مجال نشر المعلومات والثقافة الخاطئة بل إن التأثير قد يمتد إلى صلب حياة القراء ومثال ذلك موضوع تم نشره فى بعض المنتديات عن اكتشاف علمى مؤداه أن سم العقارب لا يؤدى إلى الوفاة !
وهذا بالطبع أمر غير صحيح لا فى مضمونه ولا مفهومه ولو اعتمد عليه القراء باعتباره اكتشافا علميا لكانت كارثة لأولئك الذين يسكنون المناطق الصحراوية والريفية التى تنتشر فيها العقارب بمختلف أنواعها
وبتقصي الموضوع يظهر لنا أن الإكتشاف العلمى الأصلي إنما يتحدث عن نوع معين من العناكب أو العقارب التى لا يقتل سمها الإنسان فجاء ناشر الموضوع وأعاد صياغته بما يتناسب مع مبدأ الإثارة ليجعل منه موضوعا لافتا للنظر بغض النظر عن المصائب التى قد يتسبب فيها هذا النشر !
لا سيما لو وضعنا بأذهاننا أن الخبر المشهور يكتسب بشهرته مصداقية أمام العامة حتى لو كان خبرا مكذوبا أو مزيفا
ومع غياب التحرى وأمانة التدقيق والنقل قبل النشر تحت دافع التميز والرغبة فى زيادة أرقام عداد المشاركات بذل بعض الأقلام جهده ليمارس دوره الثقافي فى الإتجاه المعاكس تماما لرسالة القلم وأهداف نشاطه
بل أحيانا تتسبب حمى الرغبة فى التميز واستجداء الشكر الفارغ فى أن يتحول القلم من حامل أمانة يمارس دوره فى الوعى إلى قلم عميل يساهم فى نقض الثوابت الدينية والقومية للقضايا العامة ,
والكارثة أنه عندما يتحول إلى قلم عميل لا تكون عمالته هنا بمقتضي التعمد أو الإدراك بل إنه يكون عميلا دون أن يدرى يقوم بخدمة الأهداف المعادية مجانا ودون أن يتكلف العدو فى تجنيده شيئا
من أمثال ذلك الأقلام التى روجت لأكذوبة اليهود حول المسجد الأقصي وأيضا أكذوبتهم حول بناة الأهرام وكيف أن الحضارة الفرعونية ليست حضارة مصرية بل هى حضارة من كوكب آخر إلى آخر ذلك من الموضوعات التى تحتاج تدخلا طبيا ونفسيا عاجلا لدى من يقتنع بها !
بالإضافة إلى وقوع العديد من الحمقي وبسطاء الفكر من أعضاء المنتديات فى فخ الإعلام المعادى الذى يروج عن طريقهم ما يشاء من اعتداءات على شخص رسول الله عليه الصلاة والسلام عن طريق اتخاذ هؤلاء المعتدين صورة الغيرة على الإسلام والمسلمين فيقومون بنشر الإساءات والمقالات والرسوم التى ليس لها أصل من الواقع تحت عنوان متكرر وهو
"
انظروا كيف يرسم اليهود صورة نبينا , أو انظروا ماذا كتب الغرب عن الإسلام " ثم يذيل الكاتب موضوعه بعبارة شهيرة وهى "
انشرها ولك الأجر عند الله " فيتلقفها الحمقي وينشرونها دون تدبر
وتلك الموضوعات إما أن تكون من أقلام نكرة لا تمثل أدنى قيمة فى الغرب نفسه أو أنها موضوعات غير صحيحة لم تنشرها صحف الغرب أصلا بل إنها من اختراع بعض ساقطى الغرب ونحن من يمنحها الشهرة والإنتشار
تماما كما هو الحال مع رسائل الإيميلات التى تصل من مصادر ومواقع مجهولة وتحتوى عشرات بل مئات من الأقاصيص الباطلة والأحاديث الموضوعة المنسوبة كذبا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام والتى تجد طريقها إلى أقسام ومنابر الشريعة فى المنتديات المختلفة حاملة معها فيروسات الثقافة القاتلة هذه المرة , لأنها لا تقتصر على معلومة ثقافية خاطئة , بل تتعدى هذا إلى أصل من أصول المعرفة الدينية .. وكيف لا وهى أحاديث تنسب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو المصدر الأصلي للتشريع , خاصة إن عرفنا أن تلك الأحاديث المكذوبة لا تعالج الفضائل أو الرقائق بل تعالج فى بعض الأحيان ثوابت عقدية قد تؤدى إلى عواقب وخيمة إذا مرت على العقول فاقتنعت بها
ولا ننسي أن الممارسات المنتشرة بشكل رهيب بين العامة وتقدح فى صميم التوحيد إنما ظهرت وانتشرت بسبب تلك الأحاديث والقصص الباطلة التى جرت على ألسنة المغرضين واكتسبت انتشارها بأسباب عدة من بينها عوامل الإنتشار التى تحملها المنتديات وتساهم فى تكريسها
وكما نوهنا سابقا أن المعلومات الخاطئة إن كانت بشأن ثقافي عام ـ رغم سلبيتها ـ إلا أنها لا تمثل الخطورة التى تمثلها الأخطاء فى مجال موضوعات الشريعة
ولهذا فالنداء الذى لن نمل منه هو ضرورة أن يتحسب الأعضاء وأصحاب الأقلام لمدى الإختلاف الشاسع بين المشاركات فى سائر أقسام المنتديات وبين المشاركة فى الأقسام الدينية التى ينبغي أن نتعامل معها بالورع والحذر المستفيض
ولو أخذنا بالقياس
فالقاضي خير له أن يخطئ فى العفو على أن يخطئ فى العقوبة , والفقيه خير له ألف مرة أن يقول لا أعلم على أن يقدم رأيا يشك فى صحته مجرد الشك
والكاتب خير له وللمسلمين أن يمتنع عن طرح موضوعاته إن اشتم فيها ما قد يعتبر معلومة غير موثقة من مصادرها المعتمدة علميا فى مجالات الشريعة من فقه وعقيدة وسيرة وحديث وتاريخ
فالشك هنا أولى بالإتباع عملا بالتحرز الواجب الذى يتناساه العشرات عندما يقدمون رغباتهم الشخصية فى المشاركة بمنتديات الشريعة على واجبهم الطبيعى بالصمت عما لا يعلمون
يتبع ..