من مشاهير علماء الصيدلة المسلمين
ابن البيطار (ت646هـ / 1248م)
عبدالله بن أحمد المالقي، أبو محمد، ضياء الدِّين، المعروف بابن البيطار: إمام النباتيِّين وعلماء الأعشاب، وُلد في مالقة، وتعلَّم الطب، ورحل إلى بلاد الأغارقة (اليونان) وأقصى بلاد الروم؛ باحثًا عن الأعشاب والعارفين بها، حتى كان الحُجَّة في معرفة أنواع النبات وتحقيقه وصفاته وأسمائه وأماكنه، واتصل بالملك الكامل الأيوبي (ت: 635هـ / 1238م)، فجعله رئيسًا على سائر العَشَّابين وأصحاب البسطات في الديار المصرية، ولما توفِّي الملك الكامل بدمشق، توجَّه ابن البيطار إلى القاهرة، فخدَم الملك الصالح نجم الدِّين أيوب ابن الملك الكامل، وكان حفيًّا عنده مُتقدِّمًا في أيامه، توفِّي ابن البيطار بدِمَشق في شهر شعبان سنه ست وأربعين وستمائة فجأةً، ولضياء الدِّين بن البيطار مِن الكتب "كتاب الجامع في الأدوية المفرَدة" المعروف بـ"مفردات ابن البيطار"، وقد استقصى فيه ذكْر الأدوية المفرَدة وأسمائها، وتحريرها وقوتها، ومنافعها ومضارِّها، وإصلاح ضَررها، والمِقدار المستعمَل مِن جرمها أو عُصارتها أو طَبيخها، والبدل منها عند عدمها. ويقول ابن أبي أُصيبعة عنه: "ولم يوجد في الأدوية المفرَدة كِتاب أجل ولا أجود منه"، وصنَّفه للملك الصالح نجم الدِّين أيوب ابن الملك الكامل.
وقد استشهَد المؤلف بأكثر مِن 150 مؤلفًا، وذكَر فضْل كلٍّ منهم في موضوعه، وقد وصَف أكثر مِن 1400 عقار بين نباتيٍّ وحيوانيٍّ ومعدنيٍّ، منها ثلاثمائة عقار جديد، لم يذكرها أحد قبله، فكان ثمرة ناضِجة لعمق الدراسة، ودقَّة الملاحَظة، وسعة الاطلاع، وهكذا فإن الكتاب المرتَّب حسب الأحرُف الأبجديَّة يعدُّ أعظم ما أُلِّف بالعربية عن النبات، ولم تُعرَف أعمال ابن البيطار في العالم الغربيِّ إلا متأخِّرة.
يقول ابن البيطار في مقدِّمة كتابه هذا: إنه "أودع فيه أغراضًا يتميز بها عما سواه، ويفضَّل على غيره بما اشتمل عليه وحواه"، وقد بيَّن منهجه في تأليفه من خلال الأغراض الستة التي جاءت في المقدِّمة، وهي:
الغرض الأول: استيعاب القول في الأدوية المفرَدة والأغذية المستعمَلة على الدوام والاستمرار، عند الاحتياج إليها في ليل كان أو نهار... "استوعبت فيه جميع ما في الخَمس مقالات مِن كتاب الأفضل ديقوريدوس، وكذا فعلتُ أيضًا بجميع ما أورده الفاضل جالينوس في الستِّ مقالات مِن مُفرداته بنصه، ثم ألحقتُ بقَولهما مِن أقوال المحدَثين في الأدوية النباتية والمعدنية والحيوانيَّة مالم يَذكُراه، ووصفتُ فيها عن ثقاة المحدَثين وعلماء النباتيِّين مالم يَصِفاه، وأسندتُ في جميع ذلك الأقوالَ إلى قائلها، وعرفتُ طرُق النقل فيها بذِكر ناقِلها، واختصصتُ بما تمَّ لي به الاستِبداد، وصحَّ لي القول فيه ووضح عِندي عليه الاعتماد".
الغرَض الثاني: صحَّة النقل فيما أذكره عن الأقدمين، وأحرِّره عن المتأخِّرين، فما صحَّ عِندي بالمشاهَدة والنظر، وثبَت لديَّ بالخُبر لا الخَبر، ادَّخرتُه كنزًا سريًّا، وعددتُ نفسي عن الاستعانة بغَيري فيه سوى الله غنيًّا، وما كان مخالفًا في القوى والكيفية، والمشاهَدة الحسية في المنفعة والماهية، للصواب والتحقيق، أو أن ناقله أو قائله عدَلاَ فيه عن سواء الطريق، نبذته ظهريًّا، وهجرته مليًّا، وقلت لناقلِه أو قائله: لقد جئت شيئًا فريًّا، ولم أُحابِ في ذلك قديمًا لسَبقِه، ولا محدَثًا اعتمد غيري على صِدقه.
الغرض الثالث: ترك التَّكرار حسب الإمكان، إلا فيما تمسُّ الحاجة إليه لزيادة معنى وتبيان.
الغرض الرابع: تَقريب مأخذِه بحسب ترتيبه على حروف المعجَم مقفًّى؛ ليَسهل على الطالب ما طلب، مِن غير مشقَّة ولا عَناء ولا تعَب.
الغرض الخامس: التنبيه على كل دواء وقَع فيه وهْم أو غلَط لمتقدِّم أو متأخِّر؛ لاعتماد أكثرهم على الصحُف والنقل، واعتمادي على التجربة والمشاهَدة حسب ما ذكرتُ.
الغرض السادس: في أسماء الأدوية بسائر اللغات المتبايِنة في السمات، مع أني لم أذكر فيه ترجمة دواء إلا وفيه منفعة مذكورة، أو تجربة مشهورة، (وذكرتُ) كثيرًا منها بما يُعرف به في الأماكن التي تَنبت فيها الأدوية المسطورة؛ كالألفاظ البربرية واللاطينية، وهي أعجمية الأندلس؛ إذ كانت مشهورة عندنا، وجارية في معظم كتبنا، وقيدتُ ما يجب تقييده منها بضبط الشكل والنقْط تقييدًا يؤمَن معه من التصحيف، ويسلَم قارئه مِن التبديل والتحريف.
ولابن البيطار مؤلَّفات أخرى منها: كتاب "المُغني في الأدوية المفردة" في العقاقير، تناوَل فيه علاج الأعضاء، عضوًا عضوًا بطريقة مختصَرة؛ كي يَنتفع به الأطباء، وهو كتاب حظي بالشهرة كذلك، وله كتاب "ميزان الطبيب"، وكتاب "الإبانة والإعلام بما في المنهاج مِن الخلل والأوهام"، ومن الكتب التي يذكرها ابن أبي أصيبعة لابن البيطار كتاب "شرح أدوية كتاب ديسقوريدس"، وكتاب "الأفعال الغربية والخواص العجمية"، وقد اجتمع ابن أبي أصيبعة بابن البيطار سنة 633هـ بدمشق، ورأى مِن حسن عشرته، وكمال مروءته، وطيب أعراقه، وجُود أخلاقه، ودرايته وكرم نفسه، ما يَفوق الوصف ويُتعجَّب منه، وقد شاهد ابن أبي أصيبعة مع ابن البيطار كثيرًا مِن النبات في مواضعه في ظاهر دمشق، وقرأ عليه أيضًا تفسيره لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس، فوجَد مِن غزارة عِلم ابن البيطار ودرايته وفهمه شيئًا كثيرًا جدًّا.
ومما يَجدُر في هذا الصدد أن كتاب ابن البيطار "الجامع في الأدوية المفرَدة" ما زال يُترجَم إلى اللغات الأروبية حتى العقد الخامس مِن القرن التاسع عشر الميلادي؛ حيث ظهرت ترجمة كاملة باللغة الألمانية في شتوت غارات عام 1842م، وحريٌّ بأهل الاختِصاص ألا يَزهدوا في تراث المسلمين العِلمي؛ فإن نهضة أوروبا - ومن ثم العالم بأسره - قامت على هذا التراث، وأبسط ما يُقال بخصوص علم الصيدلة ما ذكرته الموسوعة البريطانية: "والحق أن كثيرًا من أسماء الأدوية وكثيرًا من تركيباتها المعروفة حتى يومنا هذا، وفي الحقيقة المبنى العام للصيدلة الحديثة - فيما عدا التعديلات الكيماوية الحديثة بطبيعة الحال - قد بدأه العرب".
فما أحوجَ هذا التراثَ إلى ذوي الاختِصاص يطَّلعون عليه، ويَدرسونه ويَنشُرونه؛ ففيه - على أقل تقدير - شَحذ لِهمم الأجيال القادمة بأن يتطلَّعوا إلى الأخذ بهذه الأمة إلى الصدارة كما كان الأسلاف، وفيه كذلك رفع الروح المعنوية عند طلَبة العِلم، فليس الإبداع والاختِراع في مجال العلوم الكونية والطبِّ والصيدلة مقصورًا على طلبة العِلم في الغرب والشرق، بل هو ملْك لمن يأخذ بالأسباب ويَبحث في الأعماق.
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 18 - 20].