التربية بالعبادة,,
قرات المقال وقلت في نفسي لماذا لانصوم خارج ومضان ونروض انفسنا من جديد.؟
اليكم المقال
د, عبد الحليم بن إبراهيم العبد اللطيف
العبادة الصحيحة نور وهداية إنها تولد الاطمئنان إلى الله وإلى صدق موعوده والتسليم بقضائه وقدره ومحبة ما يحب والرضا دوماً بما يرضاه، وهذا هو التوكل الصحيح المريح الذي يشحَذُ العزائم ويقي من الهزائم المذلة ويمنح القوة وصلابة الإرادة ويزيح عن القلب المُتقلِّب بدون عقيدة راسخة يزيح عنه القلق والضعف المدمر للأعصاب، والناس أمام رمضان فرق شتى فمنهم العامل ومنهم المفرط، وقد أطال بعض الباحثين في وصفهم وقسمهم إلى أقسام حسب الهمم والتربية الصحيحة أو غيرها، والمشاهد أن البعض يصوم صوماً معتاداً يجمع الطعام الكثير ويوفر الشراب الوفير ويجعل دوماً من شهره ككل دهره موسماً للموائد الفاخرة وفرصةً سانحة للسهر الطويل ليلاً والنوم العميق نهاراً إن كان ذا عمل ضاق به وتبرّم كثيراً من مراجعيه وتغيرت نفسه وتعكر مزاجه وتقطع دوامه وكثر أحيانا تأخره وغيابه، والبعض يمشي مُلثّماً يضيق بمن يلقاه ويسيء معاملة من حوله وكأنه مهموم مغموم لمّا فقد الطعام والشراب.
والعبادةُ الصحيحة كما اعطت اولاً تعطي لاحقاً قصد بها تربية الروح تربية الضمير والوجدان وهي بعد الله سند متين وحصين للنفس الضعيفة أحياناً وهي تواجه تيارات الحياة العاتية أحياناً وتواجه ضعف العزم ومتطلبات الجسم ودفع الشهوات، والإسلام يوسع معنى ومقاصد العبادة فكلُّ ما يتوجه المسلم به إلى الله فهو عبادة ولذا تميزت هذه العبادات وأتت بخير النتائج، إن كل توجّه وكل شعور نظيف شريف فهو عبادة وكل امتناع عن فعل ساقطٍ أو شعورٍ هابطٍ فهو عبادة والعبادة الصحيحةُ هي الصلة الوثيقة بالله وهي التربيةُ الصحيحةُ المتجددة لهذا الإنسان لنفسه ولروحه في جميع دروب حياته، إن الشفافية والصفاء والوفاء وعدم الجفاء الذي يحسه البعض في رمضان ناتج قطعاً عن هذه العبادة الصحيحة التي يمارسها المسلمُ خلال شهره حينما تتجرد نفسه خالصةً لله رب العالمين، حينما يرتفع حسه وتعلو نفسه عن عبث الصغار واهتمامات الأطفال التي يعيشها كثيراً بعض من الكبار وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً، والعبادةُ الصحيحة تعملُ وبقوةٍ على تهذيب النّفس والسُّمو بها وتليين خشونتها وجفوتها، كما أن العبادة الصادقة تزيل القلق والتوتر الذي كثيراً ما يصيب النفس بسبب الكبح والاختلاط بالناس والتنافس أحياناً على الحقير والصغير من الأمور، إن الشعور النبيل الذي يحدثه الصوم هو مفتاح السعادة لبني البشر، بل هو مفتاح السعادة للحياة الصالحة المصلحة على ظهر هذه الأرض، وهو ثمرة يانعة شهية من ثمار العبادة الدائمة، واذا كانت الأمم في أمور دنياها تهتم كثيرا بالتدريب فإن المسلم في شهر رمضان يتدرب على العبادة الصحيحة والتوجه الصادق والبذل المفيد والتعامل الحسن بدلاً من التعامل الخشن، ويجد لذلك ذوقاً خاصاً وطعماً مميزاً ونكهة فائقة، يألف المساجد ويعمرها ويزاحم أهلها ويحظى بصحبة الأخيار والأبرار وينفر من الفجار والأغيار، حيث تغشى الجميع البركة وتحفُّهم الرحمة، وفي صلاة التراويح خاصة يتعود على صلاة القيام ويألف التهجد، يرتع قلبه في ربيع القرآن فيترفع بذلك عن اقتراف المعاصي والآثام إذ أن كثيراً من المضيع أو المتهاون بالصلاة يألفها في رمضان ويعتادها ويسهل عليه الاستمرار بعد ذلك لما في قلبه من التقوى والمحبة والرجوع إلى الله وهو بهذا الصيام الصادق استعلى على الباطل وهزم الشيطان وسيطر على نفسه الأمارة بالسوء، وهذا الاستعلاء أمر في غاية الاهمية في جميع تشريعات الإسلام، فمن هزم أعداءه من الداخل استعاد واستمد القوة الروحية التي لا تعدلها قوة بحالٍ من قوى الأرض التي يظنها الصغار والأغرار قوى لكنها هباء امام الإيمان وقوتة وآثاره في الفرد والجماعة، ولذا يحرص الاسلام على عمارة هذه القوة وإمدادها وإزالة ما يلحق بها من صدأ أو فتور بهذه الشحنات التعبدية المتكررة حسب الحاجة إليها من صلاة وزكاة وصوم وحج الخ،فهي التي تنشىء الواقع المادي المحسوس، والمسلم لا يجد حلاوة الطاعة ولذة القرب وعمق وبُعد الإيمان في نفسه وفي أعماله واقواله حتى يستعذب الطاعة ويستشعر المغيبات والمسلم لو استشعر المغيبات بحق وصدقٍ وعمق من وعد الله ووعيده كأنها أمامة حاضرة بين يديه لسارع الى مرضاته ونافس في طاعته وهجر وأقلع عن معصيته، وخير مكان للتدريب والتقرب وإلزام النفس بطاعة الله شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن, وبهذا الفهم الدقيق لمشروعية الصيام والقيام وبهذا التخلق الكامل والشامل بالصيام وآدابه ومعانيه ومراميه سجل تاريخ المسلمين أروع الدروس والعبر والمُثُل حيث استقبلوا رمضان ليس شهرا معتادا كحال بعض مسلمي اليوم بل استقبلوه على انه مدرسة عظيمة وكريمة لتجديد وتهذيب الإيمان وتهذيب وترتيب الخلق وتقوية الأبدان والأرواح وهؤلاء الرجال السائرون على منهج الهدي ودين الحق هم الذين تفتح لهم ابواب الجنة وتغلق عنهم ابواب النيران وهم الذين صدقوا الله ماوعدوه، وصدقوا ماعاهدوا الله عليه وهم الصالحون المصلحون يصلحون الأحوال وتصلح بهم الأوضاع وتوضع عنهم الأوزار وتسعد بهم الأمم والشعوب,وهم الذين تربوا في مدرسة القرآن في شهر رمضان، والإنسان ما هو إلا قلبه والجسم مطية أو وعاء له، والقرآن يُقرأ ومن منافعه واهدافه إحياء هذا القلب وصيانته (أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) أبصر الطيب والخبيث والحلال والحرام والنافع والضار، قال عمر رضي عنه : غايتنا لا تدرك بالأبصار ولكن تدرك بالقلوب التي في الصدور، وما لم يدرك الإنسان غايته لم يعرف إليها سبيلاً ولم يدرك لها جمالاً، وهذا الإحساس الغامر العامر الفيّاض هو الذي يضاعف اشواق المرء إلى غايته ويستحث همته اليها فتهون عليه المراحل والعقبات وكلما ادركه كسل او ملل لاحت له بوارق من دار السلام فيستحثُّ همته وتقوى مطيته تبعاً لذلك فيتجدد عزمه ويحيا امله ويقوى رجاؤه
لها أحاديث من ذكراك تشغلها
عن الطعام وتلهيها عن الزاد
أذا اشتكت من كلال السير أوعدها
روح القدوم فتحيا عند ميعاد
لذا فالعاقل يُقبل وبقوة على مطالب روحه يقضي نهاره صائما وقائما وقارئاً وليله قائما ومستغفرا تضعف قواه البهمية وتقوى قواه الروحية ولا يعيش عيشة بهمية كحال بعض المسلمين مقبلا على الحطام منافسا في الخسيس مباعداً النفيس، مستغرقا في مطالب البدن مشغولا بالحقير الفارغ والمظاهر الخادعة، مسخراً قواه وإدراكه الحسّي والمعنوي لهذا المتاع الباطل، مفتونٌ عن حقيقة نفسة محجوب عن ادراك لُب الحياة اراد الله له العزة والكرامة وان يرقى إلى أفق أعلى فانسلخ من تلك المنزلة ونزل عن تلك الكرامة وأخلد إلى الارض واتبع هواه, والقلب الحي هو أكثر القلوب اهتزازاً وطربا بنشوة العبادة والصلة بالله وأشدها شوقا ورغبة واستشراقا لتتابع نفحات القُرب (وما أكثرها وآكدها في رمضان) والقلب المُتبلّدُ الراكدُ الجامد لا حركة فيه ولا شوق إلى ما هو خير، إن رمضان بخيراته بنفحاته، يجب ان يسمو بهمة المسلم، يجبُ ان يجعل له شأناً واهتماماً فوق هذا المستوى، يجب أن يُريهُ رمضانُ الفرق الهائل بين ناحيته الحيوانية التي يعيشها الكثير وناحيته الإنسانية التي يُريدها الإسلامُ، وهذه المهمةُ العظيمة للمسلم على ظهر هذه الأرض تقتضي منه ان يَبتعدَ عن الشر ويعرف أوكارَهُ وأخطارَهُ ودعاته، وإذا لم يكُن ذا وجدان حيٍ نقي فإنه لا يستطيع أن يشعر بحُسن الحسن وقبح القبيح,, إذاً المسألة مسألةُ شعورٍ ووجدان ورمضانُ خيرُ مُعين على ذلك والله المعين.