رسّام كاريكاتير
قصة قصيرة
بقلم-(محمد فتحي المقداد)*
أثناء فترة الدراسة في المرحلة الابتدائية، درجت موضة دفاتر تحمل على غلافها صورة الرئيس، ضمن دائرة متوسطة الحجم، وعلى الجهة الثانية للغلاف أيضاً صورة للوطن العربي تكللها كلمات ثلاث (وحدة- حرية- اشتراكية)، نردد الشعار بعد اصطفاف الطابور الصباحي، نأخذ وضعية الاستعداد، ينادي العريف: (أمة عربية واحدة)، نردُّ عليه: ذات رسالة خالدة، ثم ينادي: أهدافنا، فنرد بصوت واحد يرتجُّ في الأفق(وحدة- حرية- اشتراكية).
أسعار هذه الدفاتر، تَقِلُّ عن مثيلاتها بقروش قليلة، مما يجعلنا نُقْبِلُ على شرائها، وكانت المؤسسة الاستهلاكية تتبنى عملية طباعتها، وبيعها للأهالي في صالاتها المنتشرة على مساحة القطر. في فترات الملل أثناء الدروس، ولمقاومة الكسل الذهني، كنتُ أقومُ برسم نظارُة لصورة الرئيس، وأطورُ الصورة برسم دقن صغيرة(سكسوكة) تشبه القفل، وإذا انتهيتُ منها، أطورها إلى لحية كاملة، فأتخيل الرئيس إنساناً متدنياً مومناً، في تلك الأيام كانت اللحية رمزاً للمتدينين فقط.
من خلال إدماني على رسم وجه الرئيس، ومحاولاتي الكثيرة المتكررة، وبعد زمان ليس بالقصير، أتقنتُ رسم الوجه بكافة ملامحه، ودقائق تفاصيله، حتى اشْتُهِرْتُ بذلك، وصارت المناسبات الوطنية و القومية موسماً لي لإبراز موهبتي. من هنا جاءت محبتي للاستغراق في مداومتي على رسم الوجوه بكافة أشكالها، كثيراً ما كنتُ أحولها لرسم كاريكاتوري، بطريقة هزلية مضحكة. وكانت تستهويني الصفحة الأخيرة في جريدة الثورة أو البعث أو تشرين، وتذكرت من أخبرني عن مجلة أسامة الشهرية المخصصة للأطفال، فقد كان أبي يوصي عليها ممن يسافرون إلى المدينة في بداية كل شهر، وكانت فائدتي منها عظيمة، بأنني تحولتُ إلى تقليد المناظر الطبيعية، وبعض الصور المنشورة فيها التي تستهويني، جاءت مُيُولِي في إظهار هوايتي مُبكّراً.
بدعم من والدي، وتشجيع معلم الرسم، تابعتُ ملء الفراغ في أيام العطل، وبعد الانتهاء من كتابة وحفظ واجباتي المدرسية، تأتي العطلة الصيفية؛ لتكون موسماً يغزر فيه انتاجي المتنوع، تعززت ثقتي بنفسي، وكبر طموحي لعرض لوحاتي المتعددة، وما إن جاءت مناسبة الحركة التصحيحية في 16 تشرين الثاني، حتى أقامت رابطة الشبيبة احتفالات فنية، وأمسيات شعرية تمجد هذه المناسبة، وعلى الهامش أقيم معرض لمجموعة من الرسامين، وكنتُ أنا من ضمنهم، حيث تمكنتُ من عرض خمس لوحات، منها اثنتان للرئيس على وجه الخصوص.
سكرتُ في أوهامي، و أنا أتخيل نفسي في الصف الأول من الفنانين، ومن خلال الصحف و المجلات تعرفت على ناجي العلي، كانت أمنيتي أن ألتقيه، وغاية أمنياتي أن ألتقط صورة معاه، لكي تكون وثيقة دخولي إلى عالم المشاهير. غمرتني السعادة، وقد اشتطّ بي التفكير بعيداً في الأحلام.
***
أ أوهاميأ
اختلفت الأسرة، حول الفرع الذي سأدخله في الجامعة، الوالد راغب في دخولي كلية الهندسة، الوالدة كانت رغبتها تتوافق مع رغبة والدي، بينما وقفتُ وحيداً، وصوت واحد مقابل اثنين، وكانت النظرة الدونية للرسم والفن، وللاعتبار الاجتماعي دور كبير، ومجازفة كبيرة لا تُحمد عُقباها، لمن يختار هذا الطريق, والداي رأيهما أنها هواية، أما أن تكون دراسة وتقرير مصير، فلا وألف لا، تلك مهنة لا تطعم الخبز، وسيقتلك الجوع، هذه مقولة أبي المتكررة، ويتابع: بينما المهندس لقب اجتماعي يستحق الاحترام، ووظيفته مؤمنة، وله مستقبل في السفر إلى دول الخليج للعمل هناك.
بينما نحن في دوّامة الحدث، جاء تدخّل أستاذ الفنون، ومدير المدرسة، لمصلحتي، وتقدموا بنصيحة للأسرة، بأن يتركوني تسجيل ما أهوى، وبرغبة منّي، خوفاً من الفشل في مجال الهندسة، والوصول لطريق مسدود في حياتي.
سنة أولى، ثانية، دراسة، دوام، انغماسٌ تام في مجال رغِبْتَهُ، وحبّهُ خالط دمي، اندمجتُ فيه لدرجة التطابق التام، مظهري اختلف كثيراً، بنطلون الجينز الأزرق، بَهُتَ لونه، والوسخ بادٍ عليه، لا أذكر آخر مرةٍ زُرتُ فيها صالون الحلاق؛ لتهذيب شعر رأسي ولحيتي، هذا الصورة العدوى، انتقلتْ بلوثتها إلى ذهني، وترسخت كأحد معالم دالة على أنني فنّان، وحقيبتي أحملها على كتفي، ملازمة لي أينما ذهبت وتوجهتُ.
***
ذات جلسة متزاحمة بالأفكار السوداوية، طاولتي مليئة بالأوراق، و الأقلام، وفراشي الألوان، بالكاد أفسحتُ مكاناً لمكان أضع فيه دفتر الرسم، الغرفة تكتظ بسحب دخان سيجارتي، الستارة مُسْدَلةٌ على النافذة الوحيدة، الرطوبة تنبعث من جدرانها، رائحة عفن تزكم أنف الزائر لكهفي أول مرة، يتأفف بقرفٍ، يؤنّبني على هذا المكان غير الصحي، فتحتُ دفتري، طارت عصافير أفكاري، تبلّد إحساسي، نسيتُ ماذا سأرسم، قمتُ لتحضير فنجان قهوة، لترطيب مزاجي، ما إن فاحتْ رائحة القهوة وهي تغلي؛ حتى انفتح الالهام، واستقر رأيي هذه المرة على رسم كاريكاتير للرئيس، وهذه المرة الأولى منذ بداية طريقي، رغم أنني ما أزال أذكر نصيحة أحد رجال الحارة في قريتنا، ذات الفكاهة التي تجعلني أضحك من قلبي، لا أدري كيف جاءت الآن، و أنا أقف أمام بابور الغاز، لإنجاز فنجان قهوتي، مقولة هذا الرجل تقريباً حفظتها، ووعيتها منذ أول مرة طرقتْ مسمعي، وهو يقول: (ثلاثة ما عليهم مَرْجَلَةْ، البرد و الكهرباء و الرئيس)، فهذا الثلاثي ضربته قاضية، قلما ينجو منهن أحد أصيب بإحداها.
رجعتُ إلى طاولتي، وضعت فنجان القهوة أمامي، بضعة دقائق أتأمل البخار المتصاعد منه، رائحته النفّاذة تخترق خلايا دماغي، تشدّ شراييني، قلم رصاص الفحم بانتظاري، مساحة الأم تتصاعد داخلي، ما إن بدأت بالخط الأول، وكان لحظة انفلات من عقال واقعي إلى أن أتممتُ، (بورتيه) مختلفة تماماً لوجه الرئيس، هذه المرة هي الأصدق في قلبي على الاطلاق، طيلة مسيرتي، إنها رسم كاريكاتوري مضحك، تأخرتِ الساعة إلى ما بعد منتصف الليل، قمتُ متثاقلاً إلى فراشي، لأتخلص من إرهاق يوم غير عادي، نمتُ بعمق لدرجة التعرّق، رنينُ جرس المنبّه أيقظني، قمتُ رغماً عني، أقاوم رغبتي في المزيد من النوم، دروس العملي اليوم في الكلية، لا يمكنني التغاضي عنها، والحضور إجباري، لأنه يتقرر فيها مصير المادة للنجاح.
***
أثناء عودتي للبيت بعد انتهاء الدوام، سيّارة أمن أشارت إلى الباص بأن يتوقف، يصعد إليه رجال الأمن، مدججين بالسلاح، ارتعشَ جسَدي سَرَتْ فيه برودةٌ مفاجئة، اصْفَرّ لون بشرتي، رأرأةُ عينيّ تفضحني، كأنني أُخْفي شيئاً، قلت لنفسي: انتهت حياتي، هذا آخر عهدي بالحياة و النور والشمس، امتدّتْ يدِي بحركةٍ عصبيةٍ؛ لقص الصورة من الدفتر، دعكتُها بيدي بشدة، لم يخطر ببالي إلا ابتلاعها، مرارة الحبر جعلني على وشك الاستفراغ لكل ما في بطني، توجه تلقائي رجل الأمن، بمظهره المرعب، بشعره المنفوش، وشاربه المتدلي على جانبي فمه، والبندقية في يده، ثلاثة مذخرات ملفوفة بلاصق جعلهن قطعة واحدة، وجعبته على صدره.
- قال: ماذا تأكل؟.
- قلتُ: قطعة (كاتّوه).
- قال: أكيد طيبة..!!.
- قلتُ: نعم، وهززت رأسي.
- قال: ما لي أراك خائفاً؟، نحنُ نبحثُ عن شخص معه مخدرات، هل معك شيء منها.
- قلتُ: لا أبداً.
ما إن أدار ظهرة راجعاً باتجاه أول الباص، حتى ظهر أمامي طيف الرئيس واقفاً بقامته الفارعة، الغضب يتطاير شرراً من عينيه، توقف نبضي، تجمّد الدم في عروقي، كِدْتُ أصيح هاتفاً: بالروح بالدم نفديك يا حافظ. بادرني بقوله: ما الذي فعلته يا ولد؟. استفقتُ من ذهولي على صوت المعاون، منبهاً إلى أنّ الحافلة وصلت إلى نهاية الخط.
عمّان \ الأردن
4 \12 \2015