الظلال أهمّ من كائناتها في الصحراء
قصّة ـ رضا السمين
ذكَروا أن ليس للكلِم أن يتنفّس المعنى في الحرير، والوجوه الشّاحِبة على الأبواب... لا صوت غير العويل والصمتُ شاهق. لعبة الورد والشوك قديمة. المدينة سرٌّ لا يصله إلاّ من تجرّأ على أخذ الكلام والقراءة. أيتها النفس المتردّدة، تبّا للأغشية التي تحجب عنك ثغرات الوجود.
قال الشبح للعاقل أريد أن أكتشف نظاما سرّيا لتركيب الكلام يخلق شعورا قُبالة الريح، زحزحة تضع الناس أمام شرخ للواقع، يمكنهم من خلاله ملاحظة واقع آخر. فأتبادل وإيّاهم الإيحاءات والأشياء والعلائق والأشكال والأجسام والروائح والعلامات والعطور والرغبات والأحلام. نظهر معا في مشهد لم يكن مرئياّ في غبار الحياة وصراعاتها.
هَمَس العاقل، أنّ السؤال هو أن نبحث عن ما هي اليوم أدوات الضعفاء أمام تعقّد المعنى؟ أن ننظر إلى العوالم السفلية التي تصنعنا، ونستمع للمفجوعين. الاقتراب الحميمي دون هتك الحُرمات والأعراض. الحكي على حافة الخطر. الوعي الحيّ يعني عدم تكرار ما قد قيل وكُتب والقطع مع التباكي وتصريف النّواح. والإنصات.. القدرة على الإنصات.
هذا ما نقلته لي بالحرف نسيان بنت علقم ونحن نمرّ وسط قرية مهزومة وجيرة النحس. كلام نسيان منذ التقينا في التسعينات وكأنّه سمّاعة نبض أو كاميرا ميكروسكوبية أو شعاع آلي ذاتيّ الحركة، أم لعلّه كما تقول هي، إبرة رقع. تأخذ المعاني من الشوارع والجنّ والهوامات، وتحوّلها إلى إيقاعات في الحكاية وتربط العلاقات المشتتة والمتآكلة والملتصقة. ثمّ سألتُها عن بقيّة جواب الشبح؟
الشبح لا يجيب قالت. بل يغيّر اتجاه المشي دون القفز فوق ثنائية المخصي والسلطان. يشعل النار وراء الحيطان ليضيء بوصلة تحت السماء علّه يكتشف المكان السرّي للمخيّلة الموؤودة. كلّ شيء بدأ بكذبة صغيرة من وراء ظهر النحن. دون علمها. حصلت فجوة بين الأسماء، فكانت الوحشة القاسية في أرض خراب. وورثنا أكفان اللهجات وأعذارا لا تفيد وقليلا من الصبر والعار.
تنهّد العاقل، لسنا عبيد المشرحة والمجزرة. الإنزال النرجسي أو المتباكية، لهما رائحةُ تخثّرٍ لحوت متعفن. لماذا يكون النّهب والجنس والقهر والتحايل هي العناصر الأربعة التي تحرّك واقعنا؟ لماذا يشحّ العمل في بلاد المغاربة؟ مصير الإنسان.. هو المشكلة، لا فقط "عالَمه" وحاضره ومستقبله وماضيه. ولماذا الفرد المغاربي لا تحميه أيّ جماعة أو دولة أو نفس قويّة.. فرد عار في دوامة الأخطار والمصائب، مسلوب من أيّ حماية جماعيّة، ويخضع في آن واحد لتحطيم معنوي ونفسي متواصل؟ لماذا يخبّئ المغاربي نفسَه حتّى عن نفسه؟ وأهوال الغزو القادم... لازالت آثارها باقية في النفس والأرض نكالا. وعبدُ السلطة يتلهّى بالسّمر مع عبد الشهوة والتجارة، والكلّ في "البَوْلسة" سواء. التفتت الدّاخلي والحروب الأهليّة ورواسب التخلّف وكثرة الأعداء والشِّرك..
صرخ الشبح في وجه الحكي أنّ الكتابة الواضحة نقل وكذب. اثني حروفك كي تفهم حاضرك، ما لا يراه أكثر الناس حولهم، ما لا يُسمَع من تحت. كيف نميّز الصادق من الكاذب؟ سألت طفلة تتنازعها الأمومة والأبوّة. كيف نفرّق بين الواقع الحيّ وبين الإستيهامات؟ سأل المتمرّد بين فنجان القهوة ولُعاب الكأس. كيف نُعارك الفصحى باللهجات المحكيّة وضمير الغائب ليتلوّن اجتماعنا من جديد بالنّحو والصوت الحيّ والمعنى؟ وليفعل الاسم فعله في حياتنا. الحكاية إصرار وترصّد.
ما العلاقة بين السرد المنحول وتمزيق الإنسان بالتعذيب في الدّاخل والخارج؟ سأل العاقل وأجاب، هو احتقار الإنسان والبلاد. كأنهما هشيم أو تراب. لا رباط للجهاد لا قيروان، طبيعي أن يَعافَ الإنسان العجزَ والإخضاع أن يكره. فلماذا كلّما فكّرتُ هاجمني الخطر ومقصلة القضاء؟ ومنذ أخدود سبتمبر، تضعني "المؤسّسة الدّائمة" في شمال أمريكا والغربان على لائحة القبر العمومي؟ في هذا الوقت المُرّ من يتحمّل المخاطرة ولا يبحث عن الوليجة..، مَن يجهر في هذا التيه "لا تخونوا أماناتكم"، من يشدّ على شهادة التوحيد في هذه الساعة الحرجة؟ مَن يأخذ الكتاب بقوّة؟ مَن يعرف كيف يؤمن؟ مَن عنده الشجاعة ليؤمن؟ مَن يؤمن ضدّ وصايا الأحبار وضدّ غلَبة العسكر.. ولا يشرك بعبادة ربّه أحدا؟
قالت نسيان بنت علقم: الإيمان لا السياسة ولا الشبق، هو موضوع الحركة المتواصلة عند العاقل. لا يثنيه غدر الثقفوت ولا متاهة خبايا النفس وعادةُ الحياة. ثمّ همّت بجماعة تخرج من ملابسهم روائح النظافة ونفسٌ موجوع، وسألتهم عن تعمير الصحارى التي تحيط بواحات الهذر، إعطاء أصوات عديدة لانتفاضة الصمت، تفعيل اللقاءات بالمشاركة في الأفكار والأموال. ذكّرتهم وذكّرتني معهم أنّنا لا نعيش في أفضل العوالم الممكنة ولا المقدَّر منها. ثمّ ارتعدت كأنّها رعشة الرماد في الليل المنقبض. وانفضّ الجمع وفيهم شخصيات تحمل هي أيضا في أحشائها برامج وراثيّة. وخِفتُ أن يقصفهم المعلوم مرّة أخرى على حين غرّة.
الوقت لا يحتمل أيّ مجانيّة. أن تَفهم وتُبصر ذاك هو السؤال. أن تعقل وتقاتل. أن تؤمن وتعمل. ومسألة إعادة التنظيم السياسي للمجتمع المغاربي تبقى مفتوحة مثل تدبّر مسألة الانقسام الاجتماعي. والوحوش التي تزأر خلف أقنعة السياسة وتمثيل الحداثة، تهزّ الواحد منّا لا تقتل نفسك.. سنقوم بذلك بدلا عنك. والكتابة، أتمّ العاقل، تحسّ كلّ هذه المشكلات كمسألة ومعاناة.
تنقّل الشبح ساعة من العمر بين الغناء والإلقاء الدرامي، بين الشعر والنثر، وكأنّه يشتغل على الّلغة، اللّغة القديمة وتلك المحكيّة واللّغة الوسطى، لغات التبادل والتعارف، لغات المهاجمين والحرب النفسيّة، الفصحى ولغة الأطراف والزوايا. تركيب اللغات والأصوات والعين الرّائية مع العين الباطنية، والهندسة مع الفضاء المبعثر... يبحث عن الجيرة وقد كره السّكن في الدّور المهجورة.
الأنفس كالدّيار المسكونة. حدّثتني نسيان وهي تُصلح المِنظار. النفس مثل الجسد تلعب على الحدود الغامضة بين الموت وحياة، بين الدّوران الشكلي والقوى المعادية، بين الشخصية الأساسية والعلاقات الهاربة، بين تتبّع الأثر وتكثيف الهاوية، بين فنّ التركيب ووحدة المشهد. مَنْ لا عدوّ له لا يستطيع التقدّم... كلّما كان القتال كانت إرادة الحياة، كلّما كان الصراع كانت إرادة الحبّ، كلّما كانت الرّغبات كانت إرادة الكشف.
سألتُها، كشف الصرخة التي لم تُطلق، التكشّف عليها، أم وضع المسألة في حلبة الحياة وساحة الحبكة؟
سرّ الصرخة يا فم القبر، منحوت فينا ولكن ما من أحد ترك سجلاّ يُحصي. سمعت آحاد العلماء يقولون هو برنامجنا الوراثي علينا اكتشافه بالمعارف والقصص، وقال الحسّون هو المخزون النفسي الحي الذي يحرّك موجّهات السلوك عندنا، أو هي طبقات متكلّسة صمّاء تغلّف الإنسان الفرد وتحاصر نحن المراجع السّابقة، وتمنعها من الصرخة والتوحّد. ودون الصرخة أهوالٌ...
يا نِسيان، أخبريني بما يقصف السواد الحالك بمفاجأة الكشف. أم هي لوحات، محدّدات، إكراهات ونَفَسْ..
نفرَ الشبح ذات نهار ضدّ الحياة يغلّفها الخضوع والقرف، ضدّ المقاومة يغشاها التبسيط والوهم، ضدّ غربان أوروبا وأمريكا ينهبون ويخرّبون كلّ آخر ويبصقون في وجهه إنسانيتهم، ضدّ المبادئ الكبرى يتلاشى ويموت الفرد من أجلها في حين تزعم أنّها في التحليل الأخير جُعلت من أجله، ضدّ الاجتماع يحتوي جذر اللامعقول والقمع، ضدّ آثار الآباء تُشكّل جذر الاغتراب والسلطة، ضدّ السّلطة وكلّ سلطة تعني الاستغلال والإقصاء، ضدّ التحزّب والإقناع فهي عوامل لاعقلانية خفيّة واستغلال، ضدّ التقسيم إلى خاصّة/عامّة أو نخبة/جماهير فالتمييز دائما على حساب عامّة الناس، ضدّ الانقلابات الثورية فالإجهاضات المستمرّة و"سرقة" التحوّلات و"الردّة" الدّائمة قانون تاريخي.. والجماهير إن هي إلاّ وسيلة صِدام أمّا الذي يجني مكاسب التحوّلات فدائما الصفوة. يريد للقصّة أن تلتقي، في المدينة، بشخصيّات تحمل نسبة من الليل، تنتظر ما لم يُسمّى، تتحدّث عمّا هو في طور التشكّل، تحاصر الأكاذيب وتكشفها، تنصت لهمس العقل، تقرأ القرآن وترفض الوصايا، تنبض تجترح تجرّب وتهاجر، تقترب من الجرح ومن الجماعة.
من هو المغاربي؟ من هي المغاربية؟ من هم المغاربة؟ هذه أسئلة القصّة، صوّتَ العاقل. جميل هو الإنصات للمقموع والمكبوت والضّائع وللهمس، وأخطر هو الإنصات للمقذوف في وجوهنا كلّ صباح وكلّ ليلة، مِن سخط وقهر وتحلّل وصفعات وصراخ وتحقير وقذف ينزّ أو غيظ يتفجّر... كيف نكشف الأعماق السوداء من دون أن نتّهم الضحايا؟ كيف ننكر الأمور الواضحة وضوح الجهل والقهر والنهب والعهر ونختار جهد الأسئلة وقيام الجهاد؟ كيف للقصّة أن تساهم في تحرير لغاتنا من العادة السرّية والنسيان والخرَسْ؟ متى تمّت خيانة لغتنا الفصحى، ذاك التعتيم الثقيل على نفوسنا وألسنتنا وحاضرنا ووجودنا؟ السكوت ليس علامة الرضا، السكوت يأس و"حُقْرَة". لنحكي إنسان اليوم السّاكن في عوالم المدن والتهميش والانترنت والقهر والفوضى الاقتصاديّة والتجهيل الاجتماعي.
عقّبت نسيان بأنّ الكارثة والخراب لم يأتيا فقط من "أعدائنا" بل أيضا من نفوسنا المتكلّسة بإرادة الخضوع وليّ الأعناق وخفض البصر وإتّباع الآباء، والتعوّد على ذلك من أقوى أسباب الذلّ والضلال. كيف نكتب "الحقير" دون التخفيف منه؟ البصيرة هي أن تسمّي الشيء بكلّ بيان وصدق ونور. يكفينا من لعبة المرايا الهائلة التي نعلّق عليها الإحباط والأوهام ونكاية العدوّ. أن نحكي يعني أن نجتهد لرؤية وبيان معنى أنّنا هُزمنا وكفى. الفارق هو متى؟ متى كانت الهزيمة فعلا؟ مشهد الانحناء وتابعاته ظلّ لسؤال...
مَنْ لا يقدر على قتل عدوّه يقتل جاره. أرض الإنسان في وقت خراب. حيل اللاوعي الفردي والجماعي كثيرة، إغواء فنّي لواقع مكثّف. كيف تقرأ حاضرك؟ كيف تكتب ماضيك؟ كيف تحلم بمستقبلك؟ كيف تسمع الكامن فيك والمنسي والمجاهيل؟ كيف نعيش رغباتنا، كيف نشبعها؟ الشبح بلا آباء ولا وَرَثة، ولستُ يتيما تائها. أنظرُ الآن إلى عصفورة سكبت دمعها على جناح الريح، وأعجبُ كيف لا تميلُ. الأُنس العجائبي بين الأشياء هو الذي يمكّن من التناسب والألفة ويوحّد فضاء القصّة أكثر من السببيّة والترابط الحدثي. لعبة دقيقة بين الإضاءة المكثّفة والصدى وكشف لاحق. رأيتُ وأنا أشرب كأس ماء في كُهَيْفِ النسيان، نقطة ضوء تتحرّك تحت ظلّ مقصلة وتروي عنّي الجملة الموقوتة. مساءلة المعنى واليقين، هناك في الأماكن المعتّمة من اللغة والسّرد حيث يُحجب تطوحها. كشف أسرار ذلك الحيوان الهارب وإضاءة شروط اكتسابه لتقنية العدّ الإحصائي.
مَن سيروي الحكاية؟ سأل العاقل كأنّه يعرّي السرّ والصوت. الفقراء، المنبوذون، الجائعون، المنفيّون، المحرومون، المساكين، المستضعفون؟ أم سادةُ العبث وجماليّة المرآة و"إرتكاسة" المعرفة والدُّوار حول النفس والتسميم السياسي؟ تيه الأسماء في مدنيّة الشهوة والحرمان... ويسيل قيحُ الصّور بلا انقطاع ولا حياء. علاقة آكل ومأكول. مصّ دائم للدّماء والعرق والممتلكات والذّاكرة. يجب أن نقتل "سيزيف" في الكتابة وفي الواقع، أن نخرج من أدب المناحة ونُسكِت المواويل المأزومة والمهزومة حتى الثمالة، وأن نرفض "المطلوب الحداثي" أي تكرار مسخرة سوء التفاهم الأبدي بين المرأة والرّجل العربيين، ونقطع مع سهولة التقارير المحبَطة والخائبة. لتكون الكتابة استكشافا لذلك المكان السرّي في نفوسنا والذي يمكن أن ننطلق منه لنقوم بشيء مختلف عمّا اعتدناه. لنقرأ في الكتاب العزيز ونتذكّر ونعيد تقييم مقارباتنا للحياة وللموت وللآفاق. إرادة الثقافة، أن تحمي وأن تكون في حِماية، أن تُدافِع وأن يُدافَع عنك.. إمكان ذلك في فعل واحد هو الغرض من الثقافة وأصل وجودها. إذا كان نوم العقل يولّد الكوابيس فإنّ تفرّد العقل ينتج الوحوش والقتل والنهب. المأساة حين تكون وحدة الإنسان وعالَمه مهدّدة. الكتابة نحت المعركة كما ننحت جوهرة. قصّة التعلّم، الإيمان بالله، الحرّية والعشق: هذه مكوّنات الشرف الأخلاقي للفرد وقوّة المجتمع الأهلي. مِن حكاية التفتّت والشرك إلى التوحيد، ومن العجز إلى المتعة والقيام. لا تنسَينَّ يا صديقي، ويا نور الأرض، صرخة الحجارة وحكمة القيروان "السّلاحُ هو النّهر الأبديّ، والكتابَ بقوّة".
أشارت نسيان بنت علقم بأنّ عليّ أن أضع كلمة واحدة في سياقين مختلفين حتّى لا يبقى الزمن المتجمّد كأنّه انتظار. وقالت بأنّ سبب السقوط هو التفرّج. التفرّج على قراصنة البحر يحاصرون المدن ويسدّون طرق المعاش على المسلمين في القرون الوسيطة. ذلك هو غرق المغاربة الفاجع. وغوص في الزمن المفترق للدّفاع عن النّاس ضدّ الكارثة الحديثة والهوّة اللاّمعقولة للغياب. كيف نكسّر الدّائرة المغلقة والحصار؟ هذا التناقض المميت بين القول والعمل. التفرّج على قنوات كباريه السّع-لُب، والعدوّ يدرس ويتوسّع ويتمرّغ في الأرداف والبيوت وحقول الطاقة. التفرّج على عَدَّاد القتلى في البلاد المستباحة كما نستمع إلى موسيقى خلفيّة لوقائع اليوم. التفرّج على تغريبة المغاربة من الفصاحة إلى الهباء، ومن طرد الفرنسيس والطليان والأسبان إلى مراكب الغثاء تنكسر حمقاء " الغرق ولا الوطن ". أحلُم بالقصّة تكون أداة حادّة لهتك الأكاذيب التي تخنق المغاربة فرادى وجماعات، وتعرّي الحقيقة المُرّة. الوعي المسموم بوحشة المغاربة أو توحّش الإنسان، لا تثنيه فجيعة الأحداث ولا تقنعه أدلّة المنطق. دقّ الباب، أخذتُ وجهي ونهضت لأفتح الشبّاك. يجرفني حنيني إلى القيروان، على ضفائر الشوك. لن أتدثّر بالزوايا المهينة للعقول وللأجسام وسأُعلن التمسّك بأهداب الجريمة. ذهبتَ لترجع؛ يا ابن الزوايا سافِر أنّى شئت فلن ترى غير تموّج الرّمل على ظهر البهيمة. إستراتيجية رؤية الأشياء في عريها، والتقاط الثنية... حكاية مهمّة للصحّة العقليّة.
شاهد العاقل زيف المظاهر والقناعات والاعترافات، تفسُّخ طبقات من النّاس ومدنا بأكملها بعد دوام الحرمان الذي يهلك، وعُهر "الكتَبَة" الذين إذا فتح الواحد منهم فمه كأنّه يطلق الرّيح، ورأى انتشار الجنون بلا تمرّد، وتحلّل الأجساد المهدورة التي يتقيّأها النقل العمومي وعسكرة الشرطة، وموت الرّغبة في التّعلّم، وسكرة المألوف والمعتاد في حفلة مجانين وساعة خراب. والسرّ الثقيل هو الإيمان المحاصَر بالإسرائيليات القديمة والمستحدَثة والخسارة المفتوحة. تملّكه القلق وفي نفسه أشياء، فهشّ إلى المنظار يبحث عن الفضاء والزمان والمتكلّم والضمير، أين الرّواة؟ في فوهة المعاش أم في الوقت الضّائع، في أيّ طابق من طبقات المدينة، تحت صخرة الوقائع أم تحت رمال النّفس، التسلسل وانسيابه أم قفزات وبياض. تتداخل الرّوايات أم تتصارع أم تتبادل النّائحات، أم هو تدافع المرور بأسلوب الرّقيق... كيف ينسكب الاجتماعي في الجمالي سوى بالكشف عن المنسي، وتعريب السّاكت؟ ضدّ أوهام الواقعيّة التصويريّة، ضدّ وطنيّة المقابر والمرثيّات، ضدّ الالتزام اليابس وتحجّر الأدلوجة. الحكاية تتفتّح ككتابة فرديّة حتى تستطيع تحويل الأنس مع الجماعة المجروحة إلى فعاليات متحرّكة أو كاشفة. الإفصاح عن الهمس الخافت الذي تسكنه الرّغبات والمرعِبات، فنسمع الصوت ونرى إشارته. القصّة تعني حكاية مجاهل الشخصيات ووحوشها ومُدنها وأحلامها، كيف يكون حالها إذا مسّها الضرّ في أماسي العزلة وفي الخلاء؟ وماذا يوجد تحت آخر الأقنعة؟ وحين الضرار؟
همّ أحدهم بمشاكسة نسيان بنت علقم برغم الهزيمة وتعداد الموتى، فابتسمت في وجهه نظرةً حفّزت فيه الرغبة في الهرب والفرار حتى كاد المسكين يسقط في العموميات ونقائص الواقع. ورأيت أنّ اللحظة سانحة لتحدّثني عن المستور عقلُه...
المستور عقلُهُ، لا يعرف الواحد هل هو طفل لم يتحقّق بعدُ، أو هو الإصرار على البراءة رغم القسوة، أم هو لزوم العودة "الرّجوع لربّي"، أم هو الجيل الثاني عشر وَضَعَ "الوحي" بين قوسين وعلّق الحُكم فكاد يُقذف من علوّ شاهق. لم يكن هناك دم فقط دعاء وآلة. كلّ ليلة كان الطفل يهدهد أخته بحكايات حتّى تنام، وكلّ صباح تسأله هل تصنع هذه العجائب أم أنّك قرأتها. وحين يختلي للنّوم يُغطّي رأسه بالكامل كأنّه يحميه. في إحدى المرّات التي كان عائدا فيها من مدرسته الابتدائية وكانت تبعد عن بيت العائلة 5 كلم سأل عجوزا تحرس أرضا برّية يشقّها طريق يختصر المسافة، أن تسمح له بالعبور فأذنت له، ثمّ بدا لها بعد دقيقة أن تطلق كلبها لملاحقته وهي تقهقه، فجرى الطفل جهده والكلب يكاد ينهش ساقيه الصغيرتين لولا أن ساعدته الرّيح فأوصلته إلى حاجز التلّ الذي يفصل بين أرض الغدر والطريق السريعة، وخابت عجوز الكلب. بكى الطفل مرّة وكان في غرفته ولم يعرف لماذا يبكي، مرّة أخرى بكى لأنّ معلّمه وصديقه اعتُقل لآرائه قهرا. مرّة رابعة لأنّ صاحبته كذبت عليه فيما يخصّ عذريّتها. وتلك حكاية أخرى. إثر نقاش حادّ مع أحد معلّميه... وكان المعلّم على خطأ، بكى الطفل مرّة ثالثة أمام عناد المعلّم الغريب ومحاولة زعزعته أمام بقيّة التلاميذ ببعض النّكات، غصّ الطفل فقام وجرى مغادرا المدرسة لا يلوي حتى وصل بيته واستخرج المرجع الذي يفصل موضوع الخلاف، وإذ تأخّر الوقت توجّه إلى بيت المعلّم مباشرة فوجد الأخير قد استخرج هو أيضا مرجعا واعترف بخطئه. وليعتذر، عرض على الطّفل أحسن هديّة، أن يأخذ ما يشاء من الكتب، من مكتبة المعلّم الضخمة. لم يكن هناك مجال للتّصنّع بينهما، فأخذ حقيبتين بالكاد استطاع حملهما، يجرّهما جرّا. أغلق عليه غرفته الصغيرة وفرش الكتب على الأرض وهو يقلّبها، يشمّ ويشدّ ويفتحها فتحا حتّى هلك بين أحضانها ونام عن العشاء. سهام، نادية وجليلة، بنات المدرسة اللّواتي آثرنه كلّ على طريقتها البريئة أو الهامسة. سي محمّد، سي محمّد. ب، سي حسن. ر، آنستي منجيّة، سي حمّادي، أسماء معلّمي الدّهشة... الذين أناروا له عشق المعرفة وحبّ التعلّم ورجولة المناظرة. لم يتوقّف عن كره اللّون الأحمر حتّى قرأ تربية الجنس البشري للسنج، وكان يتلذّذ بآلام الرّأس من كثرة القراءة. أوّل أورجازم أدبي هزّه حين أحسّ برأسه تتفتّح فيزيقيّا، حقيقة لا مجازا، وقد أتمّ في يوم واحد قراءة رسالة في اللاهوت والسّياسة لسبينوزا. نوادي الشطرنج وجابر بن حيان وابن خلدون وابن رشد، أسماء الدفء في أمكنة الطفولة. كسّر متطرّفٌ أوّل لعبة شطرنج اشتراها بكلّ ماله القليل، بحُجّة "التحريم". حزينا كان في أوّل مواجهة له مع الإكراه والشرطة ولم يعترض بفعل. أحبّ الطفل اللّعب في الغابة القريبة، القفز بين الأشجار وتسلّقها، وكان يتنافس وصديقه على المشي المتوازن على ما تكسّر وسقط من الأغصان الطويلة. شاهد الطفل نفسه في منامه وقد أجّل القيام بصلاة الفجر إلى وقت الظهيرة. ولكن القيامة قامت عند منتصف النهار. فوجد نفسه أمام ربّه يحاول تبرير التأجيل.. وفوجئ بأخته التي يسامرها بحكاياته كلّ يوم، تعارض محاولته وتطلب من الإله أن لا يقبل التبرير، حاول الطّفل أن يسكتها فهو أخوها.. وهو الذي يحكي لها حتى تنام، ولكنّها لم تتراجع وألحّت بأن لا تُقبل أعذاره، وحاجج الطفل راجيا من ربّه التفهّم وقبول تفسيره والتوبة.. ربّتَ الإله على كتفيه أن لا بأس. كان يحبّ اللّعب في الشارع مع الصغار أمثاله فيُكنّونه تارة "كاوبوي" وطورا، حين يرتدي زيّ الفارس، شرائط من القصدير تلفّه وسيفا، يسمّونه فارس بني عيّاد. أحيانا يحزن حتى يكاد يتوقّف عن التنفّس، في السّاعة الحرجة من ساعات المساء. ينتظر حتى تمرّ أو يستمع إلى موسيقى هنديّة أو موزار أو بِنك فْلويد. اكتشف سورتي الضحى والعصر، وأحبّهما: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالضُّحَى 1 وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى 2 مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى 3 وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى 4 وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى 5 أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى 6 وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى 7 وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى 8 فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ 9 وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ 10 وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ 11}... {وَالْعَصْرِ 1 إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ 2 إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ 3}...
وحكايات الإنسان في الرّبع الخالي تلوّن فصول سنته ببطولات الصّحابة وقيام المدينة وعظمة فتوحات المسلمين. ثمّ يستلذّ الطفل برؤية وجهه في المرآة وبسماع السيمفونية الثالثة لبتهوفن. انتبه إلى ذكائه ذاك الذي انتحر في الغياب، قبل انتحار جسده بسنوات عشر. ثمّ صار مع الوقت كأنّه يحنّ إلى تلك السّاعة الحرجة وتشقى عليه في الآن. تغيب من الذكرى أسماء وتبقى ظلال ولحظات، والناس في تجمهرهم وتفرّقهم. في يوم ممطر خرج الطفل من المعهد، جرى نحو الحافلة المكتظّة وأبوابها المندلقة، حاول الصعود كجيرانه قبل أن يعمّ اللّيل فسقط. إغماء ومستشفى، ثمّ عمليّة جراحيّة وسبعة أشهر بلا حراك. قرأ الطفل النسيان، حركة الوقت، الفصول، ومقالات فرويد وكتاب أصل الأنواع، التغيّر، وكيف تسارع الوقت، تسارع ثمّ ضاع. وتعفّن الصيف وانحسر عن صبرا وشاتيلا، المجزرة الوحش. ولطّخته القسوة. الكمد. أضحى الطّفل يحبّ الجسور المطلّة على الأنهار، أو الشّاخصة إلى سكك الحديد، أو على جرف أو وادي أو مطار. هنا الطفل والشمس قاربت المغيب. أخبار القتل الإسرائيلي، قصف العصافير والأطفال والأشجار والعدد من النساء والرّجال في فلسطين ولبنان. والمضاف إليه في الخليج. شاهَد الطفل وضوح الشّاشة وتأسُّفَ أمّه على المساكين هناك، ولم يتبيّن ما همهم أبوه. ثمّ تدثّر بالكتب.. لا يكفّ عن التفكّر والقراءة إلاّ حين يدهمه النّوم أو الامتحانات أو الجوع. يستمع إلى موسيقى النّاي والماء والريح. بعد ذلك صار هوس الطّفل "الصّدق الدّاخلي" عند النّاس، لا ازدواجيّة لا انفصام لا نفاق. وتحقيق العدل دون البدء بالظلم. بناء دولة المغاربة القويّة والتي تحقّق لأفرادها الحرّية والكرامة. تحرير الإنسان والأرض العربيّة. توحيد الإنسان والإسلام. إعادة بناء الإنسان وفق متطلّبات مرحلتنا التّاريخية وقدرات الواقع. العمل على تحرير الإنسان من وصايا الإسرائيليات وعادة الإنقهار السّياسي واجتماع الكُرَويّات. عقلُ أسباب الهزيمة وبناء شروط المقاومة في ساحة حوار عامّة والقضاء على العنف الأفقي. تأكيد أولويّة الثقافي على السّياسي. ثمّ همّت به الدّنيا ولاحقته...، وتاه الطّفل عن أحلامه. داهمه اليومي وأسباب المعاش وأثقلته دولة القردة والنّعال. وذراع طفل حطّمها جنود الإسرائيل بالحجارة... على ربوة هناك، وسجّلت الكاميرا المشهد. ثمّ انتحار النفس أمام ضرورة توفير العيش وعناد الحمار. كأنّه بعض الحوت، ينتحر حين تحاصره الشِّباك. حدّث الطفلَ رفيق له عن أهمّية المال في التّحوّل الاجتماعي. دهش الطّفل لأنّه لم يفهم وقتها العلاقة مع الثورة. قرأ نقد العقل السّياسي لدوبريه وديمومة النقطة الصّفر. حين زار الرّيف فهم أكثر تعليم المقهورين لفرايري. وحين عرف دليلة تأكّد من حدس غرامشي والخصام مع الأدلوجة. أبو بصير وحافة البحر في الشتاء... أم القائد تشوده وسنواته الثلاث؟ قرأ في لحظة توقّفٍ ج. باطاي فأعطاه الأخير مفردات الإقالة واللّذة والتيه: "هدف الحياة ضدّ الموت هو خسارة الطّاقة"، "الشطح الشبق هدف الحيوي ومجاله"، "هدر الطّاقة هو الأورجازم"، "الجذبة ما يصبو إليه الأحياء ضدّ الموات العقلاني". ولقي الطفل مرجعيّة المتاهة.. ثمّ قرأ فوكو ونيتشه والجيل الأوّل والثاني لمدرسة فرنكفورت فزاد تيهه. أفَلت نهضة المستكفي في بلده بعد الماركسيين والقوميين وقال الطّفل "إنّي لا أحبّ الآفلين". أفلت روحه مع حركات الفكر السياسي. وأفلت طبقة متوسّطة مستهلكة معزولة أمام هجمة عولمة الرأسمال، وضاع الكلّ والفرد في طوفان الولايات المتّحدة وبني إسرائيل. نفط. والسجن الأزرق من المحيط إلى المحيط إلى الخليج. لم يهتمّ الطفل بالذكاء الكافي لـ"إنّما تأكل الذّئب من الغنم القاصية" فخسر قوّته في العزلة. "الذي يبقى كثيرا مع نفسه، يتشوّه." تقول حكمة الهنود الحمر. قرأ الكلام الأصل والمجتمع ضدّ الدولة لبيار كلاستر. شعر درويش بعد روايات المسعدي. آثار الغيم عند إشراق اليأس في إفريقيا والبلاد. حافلة بين دمشق وإسطنبول، سيّارة بين الصحراء وبغداد. طريق مثلّجة وطبيعة شاهقة، وأخرى رملٌ صهدٌ ونار على نار. القاهرة كأنّه سقط في العمق. أبو ظبي بعضُ وطن وقليل من الحريم، نهاية العربية وترف الإسقاط. أثارته رؤية قناة البوسفور والمياه المشتركة بين آسيا وأوربا بلا أعمدة. قنوات البندقيّة بلا تاجرها، شباب وموسيقى متحرّكة وماء. غيم باريس وهندسة الشوارع بأسماء علمائهم والأدباء. مرسيليا مستنقع الموانئ، ومرفأ مزيّف. الرّباط وأحياء القصدير وتجاور الحديث الغريب والقديم الأرعن. القيروان أطلال عظيمة لحاضرٍ رماد؟ وفي الجزائر ما زال الاستعمار لغة و"الحقرة". "شِبه-شِبه" مدينة تونس، شعراء المورطان وجهة طرابلس الغرب. ونساء كالمدى.. نجوى العشق والمرأة الأولى، فاتن الصمت، أميرة الرومانسية، وسيلة الهوى، نورشان الفرح، أجداس عذراء فارس، ميريال والفنّ، باولا الشبق، أنجليك السّواد، لطيفة الحنين، إيزابيل الغوص. وإسعاف الذّاكرة بدليلة ومفيدة. الأولى جمال ناهد وأنوثة ودمع أزرق وحنان. والثانية جاذبية الطفولة التي تعود وفي النّفس منها حضور. الأولى خانت غرامشي والثانية خانت الصحراء. كان الطفل ينبش بأظافره داخل الرّحم. أو كأنّه جُبِلَ من طين. "ملحمة" سقوط الآلهة لفاغنر، والمسرح الاحتفالي، وأغاني ترايسي شابمان، وكلمات ولوحات، وبقايا أغنية مهشّمة: "لا ملجأ يا خِلُّ يؤويني. ولا التراث الملاذُ. ولا حتّى الصّداقات القديمة. لا حبّ ولا فرح. لا أمل ولا حلم. ولا حتى داعٍ لموتي بات يبغيني. واللّيل من حولي استبدّ ظلامه الدّامي. غراب أنا إذا جنّ الليل" لشاعر من القيروان لم أعرف رسمه؛ "حاصر حصارك لا مفرّ. وإذا سقطت ذراعك فالتقطها واضرب عدوّك لا مفرّ"، "وإن كان لا بدّ من عصرنا. فليكُن مقبرة. كما هو. لا مثلما تتجلّى سدوم الجديدة"، "ومازال في الدّرب درب. ومازال في الدّرب متّسع للرّحيل" لدرويش لنا؛ "أيّوب صاح اليوم ملئ السماء. لا تجعلوني عبرة مرّتين. مرّتين" بصوت مارسيل خليفة؛ وصوت مُظفّر المجروح يفضح البذيء في واقع الزمن المُرّ، "القدس عروس عروبتكم".. "أنا ما هُنتُ في وطني. وما نكّست أعلامي. وقفت بوجه ظلاّمي. يتيما عاريا حافي" لسميح القاسم؛ "أنا الفقير إليك يا ربّ وأنت عنّي غنيّ. والضعف فيّ أصيل وأنت الرّبّ القويّ. يا الله لولاك كنتُ هباء يا ربّ. أو فاسقا أو شقيّا. والمرء من غير دين يا ربّ لم يسوَ في الكون شيئا. معايبي ليست تخفى. لكنّ عفوك أوفى. يا الله يا الله. وإنني رغم ضعفي أرى الكبائر حتفا. أحيا بروح طموح. ملأى رجاء وخوفا. تطير تسجد. تسجد تسمو. وتحتسي النّور صرفا." لواحد من المتصوّفة الزهّاد. ودور المفكّر والبناةُ من المستضعفين في هكذا كان يا أخي لعلي شريعتي. ومفاهيم عبد الله العروي ومغاربه. لوحة "النسيان مستحيل"... وقرَع الطّبل خلف صوت فيروز. ميمونة تعرف ربّي وربّي يعرف ميمونة.. ثمّ كانت الحرب وتجدُّد الصليب وظهور الأحبار الأخير. الفساد والقتل والنّهب والظلم. ظلمات من ورائها ظلمات.
المستورُ عقلُه يهرب دائما لأطراف الجسم. في الحقيقة طرف، جزء بين الظلّ والإباحة. الرّغبة لساعة من الوقت فيما لا يُعرَض بل يشير، الهامش أمام نظره كلوحة... رسالة طفليّه مخطوطة حدّدت مسار الطريق والوادي. رؤية خاطفة لامرأة وامتلاء، رسالة فلقاء، تواعد وموت. ورقتان مائيتان حدّدتا وجهة الطريق. موسيقى آبيتاف، وناس الغيوان. وفيّا لعادته العلنيّة سافر الطّفل. "حمد الله ع السّلامة، يا جاي من السّفر". ورقصت الفساتين المُهملة لنجاة. ثمّ قارَب هامش الشرب. قلب معروض على حافة الحانات وإهانة تُقبّل نافذة البحر. التّغيير تمّ في غفلة من عقله، أو هو الانزياح والانزلاق... يتمشّيان على طول سكّة الحديد، في تلك السّاعة من اللّيل، على أطراف المدينة، غادر حاميّته، لم يفهم الإشارات ثمّ شاهد صورا، دخل بيتا ورأى ما حدث. ديجور ظلم. شفتان حربيتان. ثمّ سامح حتى جُنّ. رائحة كريهة واستقبال. جاءه الصّوت والنّاي من غبار القرون. راح يرتكب خيالات تعوّضه عن التفكير الشقيّ والفعل الجماعي والأخلاق، بناءات وهميّة لا سند لها سوى سحر الطفولة والهوس، وواصل عدّاد القتلى في التلفاز دورانه، والذين سقطوا ولم تلتقطهم الشاشة وزاد التوسّع والكمد، وتأسّفَ الجمعُ كبصقه في تراب. ويهشّ القوم على الرّمل بصبرهم عساه يصير حديدا. وما قرأ الحمار أسفار حِمله. المستور عقلُهُ حوّل هو أيضا الدّم ترابا، وأطعمَ به جموع الخمر والرّقص والكروان. وحمل هذيانه قربانا خالصا من النّحاس. وصارت نفسه تائهة عن أنفاسها، والبرد من الخلف ومن الأمام. الكارثة عند العرب لا تولّد المعرفة، بل الانتظار. تهميش العقل بعد وضع "الوحي" بين قوسين، ضياع الحسّ وارتكاب السّكرة.
ترفض أيّام المستور عقلُهُ أن تفصح عن سنوات ثلاثة خَلين، مسحها حدث ما... ثمّ اتساع الهوّة والعيش في هوامش الخمر والمضاجعات الإباحيّة وجدل المقاهي مع قِحاب اللّيبراليّة الجديدة، وهدر أكثر الوقت الباقي بين مشاغل الهمّ المالي والقمار والقرف. شُحّ القراءة برغم مواصلة شراء الكتب ثمّ بيعها في سوق الخردة. موات شبه كامل لحسّ المسؤولية والواقع على جميع الأصعدة. انتشار جرثومة التخيّل الدّنيء والسّطحي كممارسة يوميّة، والغوص في مخالطات يومية مع أرذل القوم والغثيان وبذاءة القاع. قَيْلولة النّهج. أجنحة النفس الطيّبة تذكّره بسورة العصر عند السّاعة الحرجة، تحاول بعث الرّماد ودفع النّبض رغم الصقيع، "إلهي أنقذ مطلقك الكامن في الإنسان". ثمّ تمضي السّاعة الكَتوم، ويستمرّ نزيف الطّاقة في مخالطات يومية مع رعاع القوم وطغامهم من الثقفوت. نخبة كحيوانات منوية بلا حراك، نسبة خراب في دوران التخبّط، أخدود بين رؤية الجثّة لنفسها وبين العمل، فرديّة الوسخ تسخر من معركتها مع العوامّ. دكّان من النّخاع خسفت به نظرة تهكّم. شلل العالة ولا نفعَ الدّرس الألف ولا النّصائح ولا أصواته الدّاخلية ولا شيء. باع عزّة النّفس ببقايا عتهٍ قديم. نزل في الرّفس ثلث عمره، تناقض مستمرّ بين القول والعمل، صخب عنيف يقطّع أيّامه، يجري وراء عقب سيجارة، نفاية قلب على حافة الطريق وحانة. يصرف أيّامه كأنّها جمرات تحرق لامبالاته. العقل متناثر والصراصير من الخلف ومن تحت، الضفاف ملأى بالدّود وابتسامة الأعماق السّوداء. ينزف كلمات وكُحّة. من الخيال التافه إلى الآلة المثقوبة ومنها إلى الخيال التافه. هدر الوقت والطاقة والكرامة. يدفعه الارتباك إلى جاذبية الحافة... وحين يتساءل كيف سقط إلى هذا الحدّ؟ تراوده السكّين عن "أخلاقيّة أوديب". تتلوّى السكّين أمامه على ألسنة الضوء والضجيج، تعكس قسمات وجهه كأنّها تلحّ بالانطفاء، لو أمسك بها بعنف، تُرى من أين سينتثر الدم؟ لمعان السكّين ووفرة هدوئها يدعوه، ينظر إليها موضوعة على الطّاولة أمامه وتنظر إليه، يكاد يتمدّد نحو إغوائها، الحلّ كلّ الحلّ فيها.. لا حلّ آخر. وتذكّر سورة الضحى تردّ عنه العِدى والعُقال. تروّح عنه ساعة بعد ساعة. والموؤود على كِبرٍ يمشي كمحنة بين الناس. مُرّ وعلقم. من صيرورة التّهميش إلى آليات التشرّد. لماذا أضاع شعرة الحياء وكرم النّفس؟ كيف تحوّل إلى حشرة تترنّح بين السُّكر والحاجة؟ يصرخ الطّفل "أرني الطريق أيّها الوعد". يريد أن يكون. عزّة النّفس. إكراما لنفَس المقدّس فيه. يفهم من جديد كأنّه الكشفُ، الإمكانَ العبقريّ في "كلّكم مسؤول" المسؤوليّة الفرديّة والسّؤال الجماعي معا، وحكمة "إذا لم تستح فاصنع ما شئت". جاذبيّة السّكر تراوده عن نفسه، وآلة القمار تكشف له إباحة ثقبها وليل الحاجة والفقر يشوّش عليه أيّامه. سكَبت عليه الحُرقة نارها... من الصّعب إعادة البناء بعد السنوات الطوال في تكوين النفس ثمّ في تحطيمها. في المرّة الأولى براءة الاكتشاف تحميها وتمرّد الشباب يدفعها والمعرفة تتفتّح أفقا وطُرقا.. في المرّة الثانية يأس الكهولة ينخرها وبؤس التجربة يثبّطها ونزيف الفكر والجسد ينهشها. أرني الطريق أيها الوعد. أليس "النضج" أفق الممكن؟ وإعجاز "ما زال حيّا" دافعا؟ وضربات التجربة قوّة؟ لكلٍّ تحدّيه... لا تتعثر أيّها الطفل في الغفلة، لا تكُن طمثا في الوَحل، لا تكُن نفاية القاع. لا عبث في الكون. وقصّة من نور: من يلتفت إلى الوراء ينقلب إلى صنم ويُمسَخ. اهتزّت النفس اللوّامة فسافر الطّفل إلى مكوّنات العلم والفطرة فيه وصلّى. "يا من لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، أرني الطريق أيّها الوعد، ولن أفارق طريق الكتاب ورسالة القيروان: توحيد الله وقيام الإنسان في المدينة."
نظرتُ نسيان بنت علقم وهي تتأمّل نداء المستور عقلُهُ كأنّ ضربة كتابة زلزلت عمقها، وهمست كأنّها تخاطبه {... خذ الكتاب بقوّة }، ولم تعد ترى الجيرة أو تسمعني. تحرّكتُ أسأل الحوار والصُّحبة فإذا المدينة وسكّانها وأصواتها وأشباحها والمصالح المتعارضة فيها وهاماتها، خبرُ آحاد.
هل هناك بعد نهاية القرن 20 الأرض الأصل؟ الشخصيّة الأوّلية والأساسية؟ ولستُ أطرح هذه الأسئلة لأنني الشبح الفرد، ولكن لأنّ الصراع ضدّ الساعة قد قطع العلاقة معهما. الكتابة كتخلّص من "مخلوقات" بأسرع وقت حتى لا تعتدي وتهيمن على الكاتب، أم أنّ الكتابة تلخيص لنصّ غائب؟ أم لعلّ الحكاية سحر، لمن لا بوليس له أو عليه؟ أم دخول الكاتب أو من يقوم باسمه... فضاء التشويش والتكثيف عبر التناص والإيهام؟ قراءة للوقائع بلا بداية ولا نهاية. أم نكد الرّاوي يغلّف حاجته في مدارات الشخصيات؟ أم إفتضاض مبكّر ومدوِّخ بجدّته الكاملة لجسد.. الأنا، المثنّى، الجماعة، المدينة، العالم، الرّغبات، الوحش، المخطوطات، الوقت، الأرض، اللغة، الرئيس، المحارب؟ أم مقاومة الجنون، والهوّة التي تنفتح أمام الهاوية، والمجاري المتّصلة بين السّرد وبيت الحمّام؟ أو تمثيل خياليّ لكوارث الآخرين؟ و"البهيم".. يحتاجنا ونعتمد عليه؟ أم التوتّر بين الأنا بطبقاتها و"النحن" بمراجعها؟ أم أنّ الحكاية هي المشاركة في التمتّع؟
كيف نروي حكاية تُعلِّم اللاّ-تحمّل؟ وعندما يقولون لي أنت العاقل تريد أن تجعل القصص تمرّدا مفتوحا وجها لوجه، أجيب بأنّ القصّة لابدّ أن تكون متحرّكة في كلّ لحظة، متشدّدة ولا تساوم، تصرخ في وجه الخسارة، وتعارِك المدينة. وتسخر من السّلطات. وترفع الصّوت بسؤال مستقبل الشخصيات في المدينة، وما ينبع من جديد الطّاقة ليهزّ الأزمة في الأحياء فلا تتجمّد عروق السكّان.
أنا أيضا أريد أن يكون الكتاب عن يميني. ذاك كدحي وهدفي. وإن اخترتُ الظلمات طريقا.. خارج ثنائية الصراع بين تقليد العوام وحِيل الشيطان.كيف أسبح في الظلام والنّور المحتجب عنّي هو غايتي، وأفق صراعي. كيف أكون جديرا بالاستخلاف؟ هذا السّؤال لا يفارق نظري المشدوه أمام تحدّي الخلق الحيّ، وتحرّك الأشياء والأسماء والأشباح... وكنتُ في أوّل العمر أسبح في عطر الجماعة وحضور الوِرد اليومي حتّى خِلتني ممّن سيظلّهم الله يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه، شابّ ترعرع في طاعة الله. ثمّ في لحظة شكّ عظيم.. في الطريق لا الهدف، في الوسائل لا الغاية، في الأتباع.. وليس في الرّسالة. نَفَرت نفسي من أكل التراث. عِفتُ سكون الفرح بما تخيّله القوم عن ماضيهم كأن لم تكن هزيمة ولا تخثّر ولا هم يحزنون. وتاقت نفسي، نكالا أو مكر العقل، لاختبار منازعة العدم والظلام، وملامسة وسخ الدّنيا، بل وبمرور الأشهر والسنوات سكنتُ الجحيم الأرضي. حيث النّاس عراة كما لا يكونون إلاّ في القذارة. هناك حيث معاملات المال الشديد وغرق الكحول والتنازع على أوهام الجسد الأنثويّ وتعويضاته. واستبدّت بي الرّغبة في أن أكون ما لا يتوقّعون، بعد سيرة شبابي البكر. أن أكون باحثا في المستنقع البشريّ والوقت. أن أخالط أفشل القوم وأستمع إلى حيواناتهم، حين تنهار الكؤوس المفرغة وتنهش الأجزاء في أحشاء الكوابيس. "أجرني ربّي... وتقبّل منّي الشكّ في التفكير، واغفر لي يا أرحم الرّاحمين ما أخطأتُ أو نسيت". ولولا لقاء وس- وس لما كان اسمي الشبح.
كُن حذرا حدّ القسوة يا الشبح. خذها نصيحة من العاقل، وقد صار بي عمر التجربة عتيّا وكانت أغلب رحلتي هتكا لما قيل قبلي. هذا زمن الاطمئنان المخيف وخرافة السلطة وتطاول الإسرائيل. اصنع حرّيتك بقدر ما تكوّن سلطتك. وانحت من ماء الحجر طائرة. سمعتُ أنّ الخبرات المستحدثة في تفكيك التنظيمات وعادات الأهالي قد سكبت مسحوقها على جفون القرد وهو يحلم بتكسير غرفة الأصدقاء وكانوا يصقلون الحرف من القرآن ومن كتاب الجوع. يقضّون سعادة النّعال بسكّين العشق والمعارف، يستلّونه من زغاريد النّساء ومن كتابة الصّاعقات. كيف يكون القصّ؟ خارج المقاربات المطلوبة والنّهايات المعهودة. أنْ تبتكر معناه أن تستعيد سُكناك، ولا تنس هاتِكِ اللّذّات، والإفادة من خبرات النّاس وأمّة الإسلام التي نحتت مسارها المركّب والمتعرّج ما بين الرّمل وما تحت العرش. أنْ تستبيح الهجرة نحو المعنى الأوّلي. معنى الفرد يلتقي في سفره المطلق بالرّحمة... هناك أمامه، أقرب إليه من خطوته الأولى. كيف لي في رجفة الملاحظة أن أتحمّل بياض الملاحظة والبيان؟ والمسبّق يحجز الماء، يجادل النّور باللّغو؟ كيف تواجه القصّة قهر الغربان المتلبّسة بحُسن الخطاب، دون الوقوع فيما ارتاحت إليه كهوف القوم، ودون الفخر بإنزال السروال ولذّة الدُّوار والاستقالة؟ ثلاثتهم مأزق يتغذّى بتخبّط المغاربة. لتكون القصّة نشيد الكتابة المتوحّشة. تاريخنا الطويل والمتعدّد والمركّب يغلّف مكنوناتنا الاجتماعية والذّهنيّة والجغرافيّة والسّياسيّة، ومن وجوه عديدة يحاصر الإنسان فينا، يبرّر ثقافة كسرى السّياسية ويزعم بأنّها إسلاميّة المرجع لا فقط المُتاح آنذاك من غلَبَة وفقه. والمشكلة كيف نحكي انقسامنا السياسي وتعدّدنا القبلي أو الجهوي أو اللساني أو الاجتماعي، وتشخيص وعي الشخصيات وتحيينها عبر حركة اللغة، ومساءلة الثقافة الرّسمية والإنصات لأصوات الناس أو لسكوتهم أو لهمساتهم أو لتنهيداتهم.. الإنصات لمرويات الحروب والأوبئة والهجرات والكوارث والهزائم والانتصارات. وكيف ذابت الخطابات والخبرة في الأمثلة الشعبية و"الحِكم" والأجسام الموشومة والذاكرة المثقوبة. بناء حركات القصّة وهمساتها أو صرخاتها بتوظيف تداخل كلّ هذه الأشياء التي ذكرت مع القول المسرحي، الشفوي، النقدي، الشعري، الصحفي، التاريخي، السياسي وحكاية الإنسان. تكثيف وتحويل المستويات المختلفة أو المتصارعة أو المتجاورة للمدينة وتوظيف الاستعارة والمجاز المرسل والتّناص والإظهار.. ومساءلة نتاج الحضارة المهيمنة والدّولة والجماعة والعائلة والأمّة والعوالم الحديثة. ليس لقصّة المغاربة أن تكون تذويتا لرومانسية الشرق، ولا "نقل" ما يريد أن يسمعه الغزاة عن نسائنا في الحمّام أو تحت الضرب، ولا "التعالم" على النّاس بسلاسل الروّاة.
من يسمعك، يا العاقل، يظنّ أنّ القصّة بيان لإعادة بناء الإنسان المغاربي في المنسوج والموصول من حبكة الوعي الجماعي... والحكاية يا صديقي غير ذلك، بل ضربات خاطفة وحامضة للأشياء، روّاة متعدّدون من أجناس مختلفة يخترقون الحُجب، واقع مكسّر يفتح هوّة للمتعة، تناقضات ينبثق من شقوقها الاضطراب والفرح. بيت القصّة الهواجس والكوابيس والجراح النّازفة والحلم والعجائب والوحوش الكاسرة واستعادة الدّهشة الفرد. حلبة القصّة ومجالها المنفيّ والمسكوت عنه والمكبوت والمسكون والممحو والتّهكّم والخفيف... لو سألتَ الواحد من النّاس ماذا كنت تكون لو لم تكن مسلما؟ لأجابتك إحدى الشخصيات بأنها لو لم تكن مسلمة لكانت مسلمة، على عادة أهل التنوير الإسلامي في إيمانهم بطيبة أصل الإنسان وسلامة فطرته. وقد تجيبك شخصيّة أخرى بأنّها لو لم تكن مسلمة لكانت كلّ شيء إلاّ أن تكون مسلمة، ذلك بأنّها ترى أنّ الإنسان مزيج من أسمى السموّ وأقصى الانحطاط، ولا بدّ من الإسلام وإلاّ كانت الجريمة وكانت الكارثة. وقد تجيب أخرى بأنّ الحقيقة تسكن في هامش بين الإجابتين.
أين يلتقي عندنا الوقت والنّاس والكتاب والمدينة نحن المغاربة؟ سؤال لا يحير جوابا. الآن لا أسطورة لا فتوحات لا ملحمة لا مأساة. فقط انتظار وخوف. والإنسان الفرد لم يعد نحتا مستمرّا، بل خضوعا لما يأتي وانحناء. سجن الحرّيات الفرديّة والجماعيّة، نفي التمرّد خارج التاريخ، إعدام الحسّ بالجماعة، تفقير الحبّ وتسليفه، تحطيم لبنى المجتمع الأهلي القديمة والوليدة، الظلم والنّهب والقهر والقرف...، تأميم العهر وظُهور الديّوث. من هذا الواقع المُرّ تكون التّسمية أوّل واجبات القصّة. فمن الشعوب من يفقد الذّاكرة كما الفرد المُصاب. واستعادة الذّاكرة-التسمية شرط الصحّة العقليّة للجماعة والأفراد. إذا نجحت القصّة في استعادة "اقرأ" والبصيرة والتعارف، تكون قوّة هائلة. لنبني حكاية متجدّدة تكون جذورها في الحوار والخيال والمناقشات والرّاموز وعنف مرحلتنا والوقت، وتكون تشريحا قاسيا للاغتراب السياسي واللّغوي. أي أن نضع في "حلبة" الحكاية الشكّ، اللاّ-أمان، في مواجهة ما سيأتي، في وجه ما نحن عليه. الكتابة كمشكل أي تقديم النّاس "الشخصيات"، كإشكاليّة مستمرّة، بدلا من تسليمهم مقيّدي الأرجل والأيادي ومكمّمي الأفواه إلى وصف الرّاوي-السّلطة. والحوار هو الطريقة الوحيدة حتى لا ينتحر اجتماعنا. أريد صرخة حمراء، وذاكرة تأخذ كلمة وتردّ... لقد تجرّعنا الانتظار طويلا، وتلبّسنا بالمسامحة وصرفها، والنسيان يحمي أعداءنا. خلق المشاكل، هو عمل القصّة.
كلامك يا العاقل، مثل الأخبار. كم يلزمنا من الوقت، لتحويل المعلومات إلى تجربة، والتجربة إلى معرفة ومتعة؟ أيّ وقت يلزمنا لإصلاح عاقبة التطلّعات والأحلام؟ أيّ وقت يلزمنا للحياة؟ وللموت؟ أيّ وقت يلزمنا لكشف ما لا يمكن التفكير فيه؟ عمل القصّة هو استكشاف الحقول اللاّمرئية التي تبدأ بالضرورة من التاريخ، ولكن تتضمّن كلّ الإمكانيات الواقعية الأخرى، التي بالكاد تمّ استشرافها، والظنّ بوجودها، فيما وراء الإحصائيات والرّسميات وعلى الحدود بين الصّحو والنّوم. والحكاية تعريب من لا يستطيع الإفصاح من سكّان الأحياء المعرّضة للذباب والصراصير والتناقضات والعزلة الموحشة والقلق والآثار المدمّرة للمعاش والشعور بالذنب وبالحقارة وبالفشل ورُهاب الموت والخوف وكاسحات الزمن وقاع الأحلام والجريمة... ما رأيك يا فم القبر؟
أتّفق مع العاقل، في أنّ القصّة هي رفض العمى أو لا تكون، حكي البصيرة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الفاتحة، لإحداث ثغرة في المحابس والسجون. التزام الإنسان (الكاتب، القرّاء، السّامع) بمحاولة بناء مشاريع متنوّعة للتواصل و"حكاية"-المدينة في مواجهة العدوّ وشياطين الكذب والتزييف، وشرف استنهاض الناس الذين يسيرون في اتجاه الكارثة والشرك. أن تكتب يعني وضع حياتك على المحكّ وتُخاطِر، وليس فقط أن تتخلّص من شخوصك أو تضع نار اسمك على عَلَم.. وأوافق الشبح في أنّ ما تقوله القصّة ولا يمكن أن تقوله إلاّ هي هو بالضبط حكاية الأصقاع البعيدة والهوامات السّوداء، السّفر الارتجاعي نحو طفولة الإنسان حيث الغرائز الأوّليّة والموت، ونحو الإرث السّحيق حيث تسكن الأشباح، ومنها أشباح القتل والأجداد والجنس والوحوش الضواري، ثمّ العودة لأيّام الاغتراب والعزلة... كلام العاقل ضربات كتابة، حديث الشبح أسئلة ملتاعة، وآراء نسيان بنت علقم كشّاف ظلمات.
يا فم القبر، هناك ضرورات تبيح وتوجب العنف ضدّ الإكراه. الشرف هو النطق لا الخرسُ، والقصّة تجهر بمسألة واجب – أن – تكون.. لكلّ إنسان.
نسكن في الحوار نحن الأربعة، وفي هذه السّاعة الحرجة للمغاربة. نرفض الشرك بالله والإكراه. نسعى للتمتّع بالطيّبات من الخيرات واللّغات والجيرة وجمالية الأصوات. نرفض الخبيثين والخبيثات والقهر. نعمل لـ"قراءة" الحكاية-المدينة والكتاب وآفاق النفس، ولتسمية العوالم والوحوش والتواريخ. ونجهر بالاختلاف في بناء السّرد لتحريره من النُّواح الفردي، وهوام الكاتب الفاهم، وسلطات التملّك، والتحرّر مِنَ الذين لا تاريخ لهم سوى دماءنا والنّهب. نكشف الموبوء والنّرجس. يا نسيان، هو السّكن الحميم في الكتابة المتوحّشة.
لفت نظري أنّ الحياة؟ الآخرين؟ قد فرضوا علينا الكُنية التي بها نتسمّى، وتصير في المدينة لقبا أو "طابعا" لنظرة وقّعها الآخر سواء فرديّا أو جماعيا، أي هويّة تظهر مرتبطة بنظرة الخارج. الكنية تسجن الشخصية داخل مجموعة، وتعطيها وظيفة داخلها، وتكشف – مِنْ تحت - معنى التسمية والسّلطة التي يوفّرها "أخذ الكلام" في المدينة. ومن بين الدّرجات الثلاث للتسمية (الكُنية، الاسم، اللّقب) فإنّ الكنية، بعيدا عن الحالة المدنيّة، هي ما يقول بشكل أفضل العلاقات التي نقيمها فيما بيننا وتظهر الشخص منّا "عاريا" أمام الآخرين.
كيف يمكن، في هذا الإحباط المعمّم والظلم والسّلب القبيح، كيف يمكننا تجميع الطاقات وتوحيد النّاس الذين لا يملكون شيئا, لا ثقافة تتحرّك، لا تاريخ يتنفّس، ولا إيمان حيّ ؟
القصّة يا جماعة، ضدّ الحواجز في المدينة وضدّ الخرس والهمهمة المشحونة، تضع اللّغات في حوار واتصال، وتقرّب أولئك الذين لا توجد بينهم أيّ مناقشة أو تواصل وحتى أولئك الذين لم يلتقوا أبدا... وهكذا يمكن أن تُغني لغة المدينة بتعدّد صوتي نوعي. كلّ "لغة" تجد معنى عبر شبكة الرّجع والصّدى التي تقيمها الحكاية. وتحقّق شكلا من التقدير والانتظام والاندماج... والكلام مع القارئ لترتيب وتنظيم أشياء العالم وعوالم النفس، والحوار معه، هو علامة التموضع داخل المدينة وقُبالتها، ومن غير ذلك تبقى الحكاية مُغلقة على نفسها، ونتحوّل نحن إلى "صورة" خطاب وإلى شخصيات في مشهد متجمّد. الشخصية ليست مجموع مواصفات في المدينة-المقصورة "يضعها" الرّاوي السارد، بل تُقيَّم كـ"وجهة نظر خاصّة للعالم ولنفسها" كإنسان يبحث مشروعية الوقائع التي تحيط به وقيمتها، وأحقّية وقيمة شخصه نفسها. الحكاية-المدينة بنية متعدّدة الأصوات، ويكون صوت الرّاوي تعبيرا بين تعابير أخرى وصوتا بين أصوات مختلفة. أرى أنّ تفهّم الشخصية لحالها ونفسها هو الذي يحقّقها داخل القصّة-النّحو. والاعتراف بتعدّد مصادر الحكاية، وإسماع الصوت.
الحقّ في أخذ الكلام والتعبير داخل المدينة برغم كلّ العوائق.
هذا ما أراه أيضا، لكن الشبح يبدو وكأنّه لا يوافق لا العاقل ولا فم القبر؟ إلى أي حدّ "عدم المشاركة" في التعبير هو قاعدة الخراب؟ ويكون فقر التعبير سببا ونتيجة للاغتراب والقرف والانسحاق؟
ليس أنّي لا أوافقهما، ولكنّي أرى أنّ اللّغة علامة اغتراب أو إبهام واستحالة. الشخصية تحمل في داخلها تغريبتها وموتها. هل الكلام للاستعمال الاجتماعي؟ إظهار السّلطة أو حالة الخضوع؟ لغة تقديم ومتمثلات؟ اللّغة إشهار وعلامة و"نياشين" وتزيين؟ اللّغة كلمة سرّ، علامة انتماء لمجموعة؟ اللّغة علامة "ظاهرة" لعلاقات حميمة؟ كلمة واحدة قد تحفر هوّة كبيرة بين شخصين...
القصّة-المدينة نظام يتمحور حول التّدافع، متسلِّط-متسلَّط عليه، وبين الشِّرك أو توحيد الخالق الصّمد الذي تلجأ إليه كلّ الكائنات وهو الكريم العزيز الحكيم.
كثير من الشخصيات لا تشهر لغتها كسلاح، بل هي سجينتها مثل ما هي سجينة "المعازل" و"الغيتوهات".
السّلام عليكم، العاقل.. الشّبح.. نِسيان.. فم القبر.
وعليكم السّلام المستور عقلُهُ.. أهلا.. مرحبا.. كيف حالك ؟
هوالإحساس بلذّة المعنى في مدينة هلوك وانتشاء مشاع... هل الإنسان خسيس أم خائف؟ والمرتجف هل هو من الحُثالة؟ السّياسة مربط الانشقاق لا التنوير ! واللاعقلانية هي استعمال وسائل متعارضة مع الأهداف أو مناقضة لها. النخبة إضاءة وسط دائرة القرّاء تحيط بها الدائرة الأوسع للناس، أو تكون كوجه قتام لقطّة مخنوقة.
كيف ينهض مغرب الشمس؟
لن تخرج النّار من الفرد المنتظَر ولن تنبع المياه من كهوف التنظيمات... بلادنا أيضا هي أرض الإنسان. ما العمل اليوم لمواجهة العدوّ والخوف ؟ هذا سؤال الحكاية-المدينة...
هيّا نخرج للتجوّل وجها لوجه مع المدينة-الوحش ونحكي...
[/font]