المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الواثق
الموشحات ... هل هي أندلسية المنشا أم سريانية شرقية ??
كثرت آراء القدامى والمحدثين حول تاريخ ومكان نشأت الموشحات فمنهم من يحدد تاريخها إلى أواخر القرن التاسع وآخرون في نهاية القرن العاشر وآخرون في أوائل القرن الحادي عشر . أما منشآه فهناك عدة نظريات نوجزها بما يلي :
أولا- إن اغلب الباحثين من المستشرقين ( مينيندز بيلينو ، ريبيرا ، جب ، بروكلمان ، بنكل ، وغيرهم ) والعرب ( يوسف اسعد ، بطرس البستاني ، د. عبد العزيز ألاهواني وحنا الفاخوري وغيرهم ...) بأن فن التوشح انتقل إلى الأدب العربي من خلال الأغاني الشعبية الأسبانية ( الفلامنكو) والبروفنسانية اللاتينية التي كانت تعرف بالرومانسية من خلال جماعة الرواة والمغنين المعروفين في فرنسا بالتروبادور وجنكلر من العصر الوسيط ( القرن السابع والثامن الميلادي )اشتهروا في غالية وأسبانيا إذ كانوا يطوفون البلاد متنقلين من قصر إلى قصر يقصدون الأمراء في المواسم والأعياد ، يتغنون بأناشيدهم الغرامية وقصص الفروسية في مقاطع غير محكمة الوزن ولا تلتزم فيها القوافي التزاما . أما الأساس الذي يستندون إليه في نظريتهم هو :
1- لان قصائدهم ( أسوة بالموشحات ) كانت مغناة
2- مواضيعها تدور في الغرام والفروسية
3-غير محكمة الوزن ومختلفة القافية
4- وجود جوانب مشتركة بين الموشحات والمنظومات التروبادورية حيث نجد في مقطوعة من المقطوعات التروبادورية جزء يقابل الغصن في الموشحة وجزء يقابل القفل .. ومن نقاط الالتقاء أيضا أن ما يقابل الغصن مع ما يقابل القفل يسمى عند جماعة التروبادور بيتا كما هو الحال عند جماعة الموشحات .
إلا إن هذا الرأي خلق عند البعض رأي معاكس آي دفع بالبعض أمثال المستشرق ( ليفي بروفنسال وبنكل وكراتشوفسكي) ومقداد رحيم ومجدي شمس الدين و... لا يستبعدوا أن يكون شعراء التروبادور هم الذين تاثروا بالموشحات ، حيث كانوا قبل أن يعرفوا فن التوشيح ينشدون منظومات شعرية تتجرد تماما من الوزن والقافية ولا تتضمن من الإيقاع إلا اتحاد الحروف الأخيرة ويدعمون نظريتهم بما يلي :
1- إن أول شاعر تروبادوري هو جيوم التاسع أمير بانييه الذي كتب أشعاره بين سنة 1100-1127م أي بعد أقدم الموشحات بأكثر من 200 سنة .
2- ما ذهبنا إليه من التقارب بين الموشحات وأغاني التروبادور كتقابل الأغصان والأقفال .
3- نجد إن هذه الظاهرة غريبة على الشعر الأوربي قبل جماعة التروبادور .
ثانيا : والبعض الآخر أمثال ابن بسام ، ابن خلدون ، احمد حسن الزيات ، طه حسين ، مارون عبود ، إبراهيم أنيس ...وغيرهم يعتقدون أن فن التوشح هو مشرقي المنشأ إي عربي وينسبونه إلى مقدم بن معافر الفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني هو أول من كتب الموشح وكان ذلك في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي واخذ عنه أبو عبد الله احمد بن عبد ربة صاحب كتاب العقد الفريد ويوسف بن هارون وعبادة بن ماء السماء ، إلا أنهم لم يظهر لهم ذكر .. ومنهم من يعتقد أن الشاعر العراقي ابن المعتز المتوفي سنة ( 296هـ – 876م ) هو أول من انشأ هذا الفن بقوله:
أيها الساقي إليك المشتكي قد دعوناك وان لم تسمع
ونديم همت في غرته
وشربت الراح من راحته
كلما استيقظ من سكرته
ثالثا . البعض منهم وخاصة د. عبد العزيز الاهواني يعتقد بان الموشحات أعجمية لوجود ألفاظ أعجمية أي خرجات أعجمية وهذا ما سينقلنا إلى عدة احتمالات هل هي أندلسية أم فارسية أم سريانية .. من يدرس الموشحات سيجد أن كثير من الوشاحين (وحتى غير الوشاحين أمثال أبو نواس ) يخرجون قصائدهم بأبيات لأشهر الشعراء من العرب والأجانب أو ألفاظ دخيلة إلا أنها قد تكون مألوفة لديهم . حيث روى أبو فرج الاصفهاني (تولد 356هـ - 936م ) مقطعة من أربعة أبيات لإبراهيم الموصلي يصف بها خمارا ختمها بالبيت الأتي
فقال ( إزل بشينا ) حين ودعني وقد لعمرك زلنا عنه بالشين
نجد أن الشاعر استخدم مفردات سريانية كعبارة ( أزل بشينا ـ إزل بشينا ) بمعنى اذهب بسلامة وكذلك (اّزلنا . زِلنا ) بمعنى ذهبنا و(بشينا ـ بالشين) بمعنى بالسلامة .
رابعا : وآخرون يعتقدون أمثال الأستاذ مقداد رحيم إن الموشحات التي نسمعها اليوم مغناة بشكل جماعي ليست أندلسية في طريقة الغناء والألحان بل هي مشرقية . فهي مزيج من ألحان مشرقية وألحان أندلسية كنسية . ويعتقد الأستاذ مقداد إن الموشحات كانت في السابق يغنيها شخص واحد مع جوقة تردد بدلا من جوقتين ... كما يعتقد أن الموشحات مرت بثلاث ادوار وما وصلنا منها كانت بالدور الثالث إي متكاملة .
خامسا : هناك من يذهب أمثال المستشرق فيليكروسا بان الموشحات العربية قد تأثرت بالموشحات العبرية
سادسا : أما الأستاذ سلمان علي التكريتي يقول :
ولا نغالي إذا قلنا أن الموسيقى السريانية بواسطة الكنيسة الشرقية قد تمكنت من فرض فنية ترانيمها الشرقية على عموم أوربا عن طريق مدرسة الرها ونصيبين ، وان الموسيقى الأندلسية والموشحات الأندلسية هي موسيقى الكنيسة الشرقية التي انطلقت من وادي الرافدين وبلاد الكنعانيين والفينيقين وشبه الجزيرة العربية . ويعتقد الأستاذ سلمان علي بان الموشحات الأندلسية في المشرق العربي ( سوريا ، عراق ، لبنان ، أردن ، مصر) قد تأثرت تأثيرا واضحا بإيقاعات الغناء الشعبي من ناحية وتأثيرات الموسيقى التركية من ناحية ثانية فافتقدت الموشحات الأندلسية في المشرق العربي ميزتها التراثية الأصلية لكننا نجد العكس في المغرب العربي ( تونس ، مغرب ، جزائر) إذ أن الموشحات الاندلسية صارت هي الأساس الذي يستلهم منه الغناء الشعبي لان الموشحات في الأصل كانت هي الغناء الشعبي والتقليدي في أن واحد والدليل على هذه الاصالة والنقاء هو قربها ومشابهتها لأداء الغناء الكنسي المشرقي الذي ما زال يؤدي على شاكلته على مر القرون ومنذ ظهوره وخلال تطوره بأسلوب مار افرام .
سابعا : أنا اتفق مع الأستاذ سلمان علي التكريتي على إن الموشحات هــــي مشرقيـــة الأصل ذات جذور كنسية سريانية ، فهذا الفن وجد في الأدب السرياني قبل أن يوجد عند جماعة التروبادور والجنكر بقرون ويرجع السبب في ظهوره في الأندلس بدلا من العراق وبلاد الشام :
1- كون بغداد والشام هي مركز الخلافة الإسلامية وكان الأدب العربي لا يزال يشكل امتدادا لببيئته الصحراوية في الجزيرة وكان تمسك الخلفاء بتراثهم وانشغالهم في الفتوحات أدت إلى عدم تشجيعهم لأي قصيدة تخرج من إطارها التقليدي .
2- أما الأندلس فلبعدها عن المركز وانفتاحهم على مجتمع شاع فيه الترف واللهو والغناء شيوعا عظيما أضعفت سيطرتهم لا بل جذبتهم الطبيعة الأندلسية وجعلتهم ينسون طبيعتهم الصحراوية وأوزانها التقليدية الآمر الذي أدى بالأمراء في الأندلس إلى تشجيع هذا اللون من الشعر . فبدأت حركـــة التحرر في القـرن الحادي عشـــر فأخذ الشعراء العرب يمثلون بيئتهم الجديدة من غير أن يهملــــوا التقليـــد إهمالا تامــا ، أمثال الشاعر ابن زيدون وابن عمار والمعتمد بن عباد وغيرهم .
أما كيف انتقل هذا الفن من المدراش السرياني إلى الموشح العربي فيكون:
1- من خلال المدارس والجامعات السريانية في الكنائس والأديرة التي كان يتلقى فيها الكثير من الأدباء والمفكرين العرب علومهم فيها ومن بينها المداريش والسوغيتات ، ومن خلال ما نقله المترجمون السريان من الآداب والعلوم السريانية إلى العربية . فتشبعت الأذن العربية بهـــذه التراتيل التي كانت ترتل باستمرار في الكنائس والأديرة بألحان شتى . وكانت بغداد ودمشق زاخرة بشعر عربي أصيل يشكل امتدادا للشعر في الجزيرة ويتطرب بنغمات المدينة الحاضرة ، فليس من المستبعد أن تكون بغداد ودمشق قد شقت طريقها نحو التجدد الشعري ، وكان محقا من اعتبر بشار بن البرد وأبا نواس ومسلم بن الوليد أول دعاة التجدد ، في حين كان الشــعر في الأندلس لا يجـرؤ أن يـذرع مثـل هــذه الخطـوات لانشغال العرب هناك بالدفاع عن أنفسهم والتفكير بالتوســـع ، إلا في أواخر عهد الإمارة الأموية في القرن العاشر الميلادي. فليس مستبعدا أن تكون هناك عشرات الموشحات تغنى سرا أو علنا في العراق أو الشام واختفت لعدم تشجيعها من قبل الخلفاء
2- عندما دخلت الجيوش العربية الإسلامية بلاد الأندلس واستقرت هناك كان من بينهم أو من بين الذين توافدوا إليها لاحقا الكثير من الأدباء الذين تلقوا علومهم في المدارس السريانية في العراق أو بلاد الشام فنقلوا معهم أشعارهم وأفكارهم التجددية في الشعر ، فعندما سنحت لهم الفرصة أظهروها هناك .حيث كانت العلاقات وثيقة بين طرفي العالم العربي ، والرحالة الكثيرون يذهبون إلى الشرق للتزود بعلمه ويأتون إلى الأندلس طلبا للرزق أو الشهرة . فوفد زرياب ( تلميذ اسحق الموصلي )إلى الأندلس عام 822 م وكان له اثر بليغ في فن الغناء والموسيقى وجلبت المغنيات من الشرق فحملت معها إلى الأندلس فنها وأدبها ومن اشهر هؤلاء المغنيات القيان قمر البغدادية .
3- ومن المحتمل أن يكون هذا الفن قد انتقل أليهم من خلال اليهود القاطنين في بلاد الأندلس ( كما يقول المستشرق فيليكروسا ) الذي انتقل إليهم هذا الفن من الأدب السرياني حيث استمدوا (اليهود) الكثير من آدابهم وعلومهم من السريان كما يقول بذلك الباحث إسرائيل أبراهام . ومن الأسباب التي دعتني إلى ذلك :
1- أن الجيوش الإسلامية احتلت بلاد الأندلس سنة 711م ودامت الدولة الإسلامية هناك حتى سنة 1492 في حين أن أقدم الموشحات ظهرت فـــي القرن العاشر أو الحادي عشر . في حين كان احتكاك المفكرين والأدباء العرب في المشرق منذ القرن السابع الميلادي حين نزلوا إلى ساحات العمل في التأليف والترجمة جنبا إلى جنب إخوانهم السريان .
2- كانت باستطاعة الأذن العربية أن تتقبل اللغة السريانية وآدابها وألحانها بصورة أسهل بكثير من تقبلها للغة أعجمية بعيدة كل البعد عن لغتها وتراثها .
3-إن ما يجمع من صفات مشتركة بين المدراش السرياني (القرن الثالث الميلادي) والموشحات العربية (القرن الحادي عشر) يجعلنا نؤكد جازمين أن الموشح مشرقي الأصل سرياني المولد . فالمدراش الذي هو عبارة عن منظوم جدلي في قالب شعري يمثل النوع الغنائي من الوزن يمتاز والموشحات بـ :
1- أن أبياتها لاتكون على نمط واحد إي تتساوى عدد مقاطعه حينا وتختلف حينا أخر.
2- إن أبياتها تكون قائمة بذاتها ولا صلة لها بالبيت السابق ( إي تأتي مستقلة إي كل بيت في المدراش قائم بذاته ) وتفصل هذه الأبيات ( ويسمى في الموشحات الدور حيث يشتمل على أجزاء تسمى أغصانا تتعدد بتعدد الأغراض) ردة ( قفل بالعربية الذي هو عبارة عن بيت واحد أو عدة أبيات من الشعر تبتدئ بها الموشحات وتتكرر ويشترط فيها التزام القافية والوزن والأجزاء وعدد الأبيات الشعرية وذات موسيقى واحدة ) ترتلها الجوقة بعد كل بيت أو أكثر يقوم فرد بترتيله ، إي أن :
* الجوقة الأولى ( الشماس في الغالب) ترتل الأبيات الطويلة
*الجوقة الثانية ترتل الأبيات القصيرة التي تؤلف الردة ( التي هي عبارة عن حمدلة أو صلاة ما ) . ومن شروط هذه الأبيات (باستثناء الردة /القفل) أن تكون متشابهة وزنا ونظاما وعدد أجزاء ، وباستطاعة الراوي تنويعها .
3- للمداريش أنغام شتى وكانت الألحان تتغير بموجب أنواع المداريش فالمونسنيور لامي أكد وجود 75 ضربا من الألحان في الأناشيد الصحيحة أو المنحولة لمار افرام . وتأتي على الأغلب على شكل حوار وكان ذلك سببا دفع البعض بتسمية المداريش بالموشحات ، وأول من صنفها هو برديصان (+154م) واسونا (القرن الرابع الميلادي) ومار افرام (+306) ومار اسحق وبالاي و.. . وقد دخلت عليها وعلى الموشحات بعض الفنون في كتابتها. وتفرع من المدراش السوغيت ، حيث يستعمل في صياغة الماسي الدينية ويكون على شكل حوار بين منشدين أو جماعتين . فبعد مقدمة مؤلفة من 5-10 أبيات ذات أربعة أشعار من الوزن السباعي ( الغالب ) تبدأ المحاورة بين شخصين أو جوقتين كما في أنشودة الميلاد (محاورة بين العذراء والمجوس ) وأنشودة البشارة ( محاورة بين الملاك جبرائيل والعذراء ) وهي من قصائد نرساي ( 399 -503 م) .
يتبع .... تقسيم ابن سناء الملك للموشحات