ضمن النشر المشترك مع
دار ومكتبة عدنان بغداد
صدر كتاب
نهاية الدولة العثمانية
وتشكيل الشرق الأوسط
ديفيد فرومكين
قراءة وتقديم
للدكتور منذر الحايك
ترجمة وسيم عبدو
كثيرة هي الكتب، وأكثر منها البحوث والمقالات والمحاضرات التي أوحاها انفراط عقد الدولة العثمانية، وما تبع ذلك من قيام كيانات سياسية متعددة لأمة كانت واحدة، لم تلتزم بقيامها بحدود جغرافية ولا لغوية ولا عرقية ولا دينية، فمن المألوف أن يكون ذلك الحدث الجلل مصدر إيحاء لا ينضب لفيض من النتاج التاريخي والسياسي، لكن مع الأسف معظمه كان يفتقر إلى اطلاع كُتَّابه على حقيقة الأمر، كما جرى فعلاً. لقد قرأنا كثيراً مما كتب بوحي العاطفة القومية أو الدينية، أو المصالح والأهواء فقط، لكن لم يذكر أحد أمامنا حتى الآن كيف جرى ذلك فعلاً بدقائق الأمور، وهذا الكتاب يتفرد بذلك عن كل ما كتب، فهو يورد معلومات موثقة بمنهج علمي واقعي بعيد عن العواطف والمصالح والمؤثرات، فهنا الوقائع تتكلم، وهنا الحقائق المجردة توضح كيف صنع التاريخ من جديد، ولذلك قد يخلق الكتاب أزمة ثقافية، فهو يقلب كل ما تعلمناه أو جلّه، ولكن الأخطر هو الأزمة الروحية التي سيخلفها بعد قراءته حتماً، وسيدرك القارئ معنى المصادفة في التاريخ، وسيعرف معنى التآمر لتمرير السياسات حتى ضمن الجهاز الواحد للدولة، وسيصعب عليه أن يصدق كثيراً مما احتوى عليه الكتاب، فأي أصدقاء هؤلاء الذين كانوا في سرهم أعدى من الأعداء، وأي أعداء هؤلاء الذين كانوا لأسباب مختلفة أفضل من الأصدقاء، إن ما كان بالأمس القريب مشاريع وخططاً وأفكاراً في الرؤوس، أو خراطيش على الورق، هو الآن واقع قائم له أسس، وله من يدافع عنه بشراسة ممن تجذرت مصالحهم السياسية أو الاقتصادية فيه.
يمتاز عمل فرومكين بالنظرة البانورامية الشمولية لتكوين الشرق الأوسط، وهذا ما يجعله عملاً ريادياً غير مسبوق، فهو سِفر يجمع بين دفتيه أول مرة الإجابات الكاملة عن أسئلة كانت ولا تزال رمز الحيرة والتعمية والتضليل، منها: كيف شكلت بريطانيا وحلفاؤها الكيانات الجغرافية والسياسية للشرق الأوسط؟، ولماذا كانت تلك الكيانات وتلك الشخصيات تحديداً؟، ما المرتكزات التي بنت عليها بريطانيا سياستها المستقبلية في الشرق الأوسط؟، وماذا كانت ترجو من وراء ذلك؟، ما الحسابات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي وجهت بريطانيا التي كان لها اليد الطولى في تكوين الشرق الأوسط؟، ما مدى التناغم أو الخلاف في الإدارات البريطانية وهي تتخذ قرارات مصيرية لملايين الناس ولمستقبل علاقتها بهم؟، هل كان القادة البريطانيين واعين ومدركين تماماً لما كانوا يفعلون؟، ومن أولئك الرجال الذين صاغوا أخطر القرارات في أصعب الأحوال لهم وللعالم؟.
ويبقى مما أجاب عنه الكتاب السؤال الأهم: أين حدود الواقع والخيال مما كنا نعرفه عن مجريات تلك المرحلة؟، مثلاً الجمعيات العربية؟، ابن سعود؟، الشريف حسين؟، الملك فيصل والأمير عبد الله؟، وما حدود الحقيقة عنهم؟، وحقيقة المعلومات التي كانت مطروحة عنهم لأغراض الدعاية أو الدعاية المضادة؟، حقيقة وعد بلفور؟ وغيره. لقد ساعد المؤلف اطلاعه على وثائق من دول عدة كانت سرية منذ ذلك الحين حتى سمحت في السنوات الأخيرة بنشرها، وهذا يجعلنا نتساءل: هل هذه هي المعلومات النهائية كلها؟، وهل هناك بعد ما يخفى؟، وما مفاجآت المستقبل التي لا تزال خافية؟.
لقد أعد فرومكين كتابه: "نهاية الدولة العثمانية" في الولايات المتحدة، ووضعه أصلاً لقرائها وقراء الانكليزية، ولكنه كتاب يعنينا، فهو عنا ولنا، ويتعلق بمرحلة من أخطر مراحل تاريخنا، وأكثرها مشكلات، فعلى الأقل لنقرأ، لنعرف ماذا صنعوا بنا؟، لأننا بذلك قد نتمكن من معرفة ماذا سيصنعون مستقبلاً؟، لنعرف كيف كان العرب عندما نظرت إليهم الدول الكبرى غنيمة حرب؟، واقتسمتهم، ومزقت أواصر آلاف السنين، فهل كان العرب واعين لما كان يحصل؟، فإن كانوا يعون ذلك فماذا فعلوا؟، أو ماذا كان يمكن أن يفعلوا؟ وإن لم يكن لنا دور في صياغة هذا الواقع فهل نستطيع صياغة مستقبل أفضل في ظل هذا الواقع؟، خاصة إذا كانت نظرة العالم وتعامله مع العرب على أساس أنهم شتات قبائل، ودولهم أجزاء أقاليم، وأنهم قاصرون وضعفاء، وحتى للمستقبل فإنهم غير قادرين على أن يتوحدوا، ومن المؤلم أن هذا ينطبق على معظم واقع العرب، إن لم يكن عليه كله، فمعظم العرب اليوم يروجون بفرح لإخفاق المشروع الوحدوي القومي، فقط ليلقوا عن كاهلهم الشعور بالالتزام القومي.
في باريس حيث اجتمع الحلفاء، يصوغون معاهدات انهاء الحرب العالمية الأولى، جهدوا أن تكون تلك الحرب خاتمة الحروب، ونهاية لها ليبقى انتصارهم أبدياً، ونجحوا فعلاً في تحقيق السلام، لكنه كان سلاماً ينهي أي إمكان لسلام قادم، فكان سلام باريس افتتاحية لسلسلة من الحروب والثورات، اشتعلت، ولا تزال تشتعل في الشرق الأوسط حتى الآن، وستستمر حتى مستقبل غير معروف، لقد فُرضت الحرب على كثير من العرب أو قاموا بها، وثبت أن الحرب واقع لا يخشى، ويمكن التعامل معه، ولكن السؤال الآن: هل نخشى السلام؟، وهل يمكن العرب التعامل معه؟، فمن السهولة أن نتوقع كلفة الحروب والثورات وخسائرها، وإن كان صعباً التنبؤ بنتائجها، لكن السلام الذي يمكن بدقة التنبؤ بنتائجه القريبة وفوائده المتوقعة، لا يستطيع أحد أن يقّدر ما سينتج منه في المدى البعيد وعلى كل الصعد، ومن متابعتنا لمجريات الأحداث في هذا الكتاب سنجد أن السلام كان مؤلماً للجميع بقدر ما هو قيّم لهم. وطالما نحن نقرأ، وفي ظل الربيع العربي الدامي، سيظل يلح علينا سؤال مرعب: هل نحن على أعتاب مرحلة جديدة من مراحل تشكيل الشرق الأوسط؟، تكون أسوأ بنتائجها وأقسى بعواقبها على العرب.
إن بداية ما يسمى قضية الشرق الأوسط بدأت مع نهاية الدولة العثمانية التي انتهت بمفاجآت كبرى، قلبت الأوضاع رأسا على عقب، فمنذ ذلك الوقت كانت هناك صيغ مفروضة على شعوبه، فرضها العثمانيون أولاً، ثم البريطانيون والفرنسيون، فهل جاء الآن دور الأميركيين وفي هامشهم الروس كي يفرضوا صيغتهم الجديدة للشرق الأوسط؟ كتب الصحافي الأمريكي "توماس فريدمان" مقالة عنوانها: "الشرق الأوسط: تعالوا نعرّيه قبل إعادة تكوينه"، نشرتها صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، قال فيه: "حدد المؤرخ فرومكين كيف تكوّن الشرق الأوسط بقوله: في عام 1922 استطاع تشرشل أن يرسم مصور الشرق الأوسط العربي بخطوط تلائم مصالح الإدارات البريطانية المدنية والعسكرية، وسيفاخر لورنس العرب بعد ذلك بأنه وبالاشتراك مع تشرشل وشخص آخر رسموا مصور الشرق الأوسط على وجبة العشاء، والآن وبعد عقود من ذلك التاريخ، فإن السؤال هو: إذا كان أهل الشرق الأوسط راغبين، أو قادرين على الاستمرار في العيش وفق ذلك التصور؟". ويضيف فريدمان: "يطرح هذا السؤال نفسه اليوم وعلى نحو أكثر حدة هذه المرة، فما يحدث الآن في سورية والعراق، وفلسطين ليس سوى "لحظة" تشرشلية أخرى، فتضاريس هذه الأقاليم الشرق الأوسطية المحورية يعاد تكوينها حالياً، ولكن لا يحدث ذلك بفعل إمبريالي من أعلى، وليس متوقعاً أن يكون كذلك، إنه يحدث بتأثير نزاعات تشتعل من تحت، وتضطرم في صدور السوريين والفلسطينيين والعراقيين.
ولكن هذه الرؤى الاستعمارية في تقسيم الشرق الأوسط كانت لتجد آذاناً صاغية في الإدارة الأمريكية السابقة التي وصفها فريدمان بأنها: "إدارة خطيرة جداً"، مضيفاً أنها: "أسوأ إدارة في تاريخ الولايات المتحدة". وكلنا يتفق مع الأديب والألسني الأمريكي البارز "نعوم تشومسكي في أن "إدارة بوش كانت "تشكل خطراً على العالم"، لذلك كان من المكن أن تشرع في تنفيذ فكرة تقسيم الشرق الأوسط حالاً إذا توافرت لها الأسباب، لأن هدفها "الهيمنة الكاملة" على المنطقة، ولا يستبعد أن تعمد واشنطن بقيادة أوباما، مستثمرة أحداث الربيع العربي، إلى محاولة إعادة تقسيم الشرق الأوسط، ليسهل عليها التعامل مع بلدان صغيرة، فبعد الشرق الأوسط القديم الذي شكلته بريطانيا، هل نصل إلى شرق أوسط جديد تشكله أمريكا؟ وماهو دور روسيا في هذه الحالة، وأيضاً ما هو دور القوى الصاعدة في المنطقة كإيران وتركيا.
وفي هذا السياق اتصل صحفي بفرومكين، وسأله عن مستقبل الشرق الأوسط؟، فأجاب بألم: "لا مستقبل للشرق الأوسط". أما "إدوارد لوتواك" المؤرخ العسكري الذي يعمل في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، فأجاب عن السؤال نفسه: "إنه لا يظن أن الغرب قادر على تشكيل مستقبل الشرق الأوسط مرة أخرى"، وأضاف أن الولايات المتحدة بتدخلها لن تزيد على أن تعطي العرب "سبباً جديداً لمعاداتها"، ولكن ما لا يمكن إنكاره أنه بعد المعطيات الجديدة للمغامرات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط والثورات الداخلية، وخاصة مع هشاشة في تركيبة معظم دوله، قد جعلت قدرة أنظمة دول الشرق الأوسط الحديث على الصمود والبقاء سؤالاً مفتوحاً بطريقة لم تكن قبل بضع سنوات فقط، بل الأكثر من ذلك قدرة هذه الأنظمة على تسويغ شرعية وجودها كأنظمة تحكم دول.
لقد قامت المجتمعات الإنسانية بتأسيس جميع الدول، ولكن هنا يظهر تأثير الإنسان الفرد في صنع بعض هذه الدول على نحو أكبر من مثيلاتها، فقد كان ونستون تشرشل، الذي يحتفظ بوش بتمثال نصفي له في مكتبه البيضاوي بالبيت الأبيض، هو من قام بالدور الرئيس لتأسيس معظم دول الشرق الأوسط، وكاد أن يتأتى لواحد من معجبيه، وهو من أنجب تلامذته في المدرسة الاستعمارية، أن يقلده في إعادة تكوين شرق أوسط جديد، خاصة إذا أخذنا في الحسبان إدارة بوش القائمة على جماعة "المسيحيين الجدد"، واعتماد كوادرها الخبرة والحدس والنظريات أكثر من اعتمادهم التخطيط المتأني والتفكير في عواقب الأمور، وظهرت مقدمات ذلك فيما سببته تلك الإدارة من اضطراب في الشرق الأوسط، وهنا نأتي لرأي جديد آخر لفرومكين ورد في مقالة له عنوانها: "جدار الإيمان والتاريخ"، وقد جزم فيها بأنه لا يمكن الحكم بصحة نظرية بوش فيما يتعلق بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، وقال: "إن أحد الدروس التي يمكن استخلاصها من التاريخ الحديث للشرق الأوسط يقضي بأن التغيير في المنطقة يكون أكثر قبولاً لو أنه يجري على أيدي المواطنين وليس بأيدي الأميركيين"، وهنا نجد أنه كان يتوقع قيام ثورات الربيع العربي.
وعن الهوية الجديدة للشرق الأوسط يقول فرومكين: "مهما بذل الغرب من جهود لتحويل البلاد العربية لنمط المعيشة الغربية فإن سعيهم غير ناجح، ذلك أن الشعب العربي يؤمن بالإسلام ويعتز بهويته العربية وبتاريخه وثقافته، ومن المستحيل أن يذوب المسلمون في الثقافة الغربية، لأن الإسلام دين ينظم كل دقائق الحياة الاجتماعية الثقافية السياسية والاقتصادية".
وأخيراً لنتوقف برهة عند التساؤل الذي طرحه فرومكين في نهاية الكتاب: عن إمكان استمرار إسرائيل بالحياة، وهي كيان ليس له من مقومات الدول إلا الاسم، يقول: "والسؤال هو: هل سيتمكن هذا النظام من النجاة في أرض الشرق الأوسط الغريبة التي زرع بها؟، فهل هذا السؤال هو الغاية التي أراد أن يوصلنا إليها فرومكين؟، علماً بأنه ضمَّن الإجابة في نص السؤال، فمن المؤكد أن نبتة غريبة لن تتمكن من النجاة بحياتها في بيئة غريبة معادية، لكنه ليصل بنا إلى هذه الحقيقة مهّد لنا برواية القصة الكاملة لولادة الشرق الأوسط، أو لخلق مشكلة الشرق الأوسط بالأحرى.
وسيجد القارئ في المتن أهم نصوص الكتاب، بعد أن اختصرت منها كثير من الاستطرادات حول الخلافات الحزبية في بريطانيا، وحول قضايا وجدتها غير لازمة لسياق مشكلة الشرق الأوسط، أو بعيدة عنه مثل العلاقات بين بريطانيا وبعض الدول الأوروبية، أو قضايا أقاليم بعيدة مثل أفغانستان والثورة البلشفية وغيرها، وسأدع النصوص المختارة بين يدي القارئ يستخلص منها ما يشاء من النتائج، كما استخلصت منها وفق وجهة نظري الخاصة فيما قدمته من قراءتي للكتاب.