نزوح الأرواح


عند ساعة الأصيل تحلقوا قرب حافات العالم غير المرئي ، وكأنها ساعة غير محسوبة من هذا الزمان ، أنفاس لاهثة تكسر حالة السكون ، وضوء باهت يتلاشى شيئا فشيئا ، عالم مغبر معفر برائحة شواء مقرف ، ولون طيني يغلف الأبصار ، يرسم على الأرض والأفق أشكالا تتقارب فيها الدرجات اللونية ، كلما ابتعد عنها الناظر بدت له هياكل جاثمة على هذه القفار كشدوف أشجار زرعت في الأرض عنوة ، محاطة بجبال من الطين ، الكل في حالة انتظار وترقب لشيء ما ، الأجساد القابعة تشكل لوحة غريبة التكوين توحي تشكيلات خطوطها لشيء ما ، قد تكون هيكلا لامرأة ملقاة في بركة من طين ،في حالة يأس تام ، ، كأنها في حالة احتضار تتوسد الوحل باستكانة المستسلم للموت طمعا في الخلاص ، دخان لفافات التبغ ،تطير بلا أجنحة ، حركتها محسوبة رغم السكون الرهيب ،
قبل
أيام استيقظ على صوت انفجار فزعا
تفقد من بقى حيا ، نظر مندهشا إلى جدران الغرفة التي تحولت إلى كوم أحجار وطوب ،( والحمد لله لم يمت أحد )
أقدامهم متشنجة ، تثاقلت مسيرتهم . يبحثون عن بر الأمان، الليل ستار لكنه مليء بالمفاجآت ، الزمن يقرب منهم لحظات الموت لذا عليهم أن يجمعوا بين الحذر وسرعة المسير، للابتعاد عما يحيق بهم من أخطار . لعبت برؤوسهم خمرة الأحداث دون انتشاء، جعلتهم يتربصون لكل حديث ، مع من سيكونون ، لا يهمهم إلا الخلاص لا يهمم إلا الأمان ، مادام كل شيء مرسوم في دهاليز العتمة.
(الرصاص يئز في كل مكان لا يقتل إلا من يقف على الحياد ).
هكذا قال الأب وهو يرى الفزع بعيون أبناءه .
أكلوا خبزا معجونا برائحة الخوف والبارود، وناموا على زبد الوعود بغد أحسن .
توعدهم الأب بالأمن والأمان ، أحس بخدر يسري في أقدامه ، وألم يحد من حركته ،
لكنه تظاهر بالثبات على أرض رخوة بدت تميد به ،
لينا أحست بدفء يدي فارس وهما تحيطان بخصرها النحيل ، وتطوقه هي بيديها وتسند رأسها على كتفه ،
حرارة قبلة خطفها بغتة من خدها المتورد ، لازالت تشعر بطعمها
قال لها: لا تذهبي سأحرسك بعيوني ...!
قالت لأبيها :سأبقى مع فارس لن أذهب معكم ،
انتظرت حتى الصباح ، لكنه لم يعد أوهموها بأنه سيلحق بهم ،
أقترب كلب منهم ، توجسوا خيفة منه، تطلع إلى الوجوه المعفرة بتراب الطريق ، والمدنفة بأرق حمى المسير الطويل ، والحرقة على من ذبح بأيدي إخوانه ، تفقد وجوههم ، تطلع بعيون زيد وهو يلعب بسيارة صغيره يحركها (بالري موت ) على الطريق الإسفلتي ، لم يجد من يبحث عنه ، ثم مضى ، الأب يحمل بندقيته ،يترقب البعيد ، الظلام دامس . عواء الذئاب ، ونباح متواصل للكلاب ، وبكاء طفل صغير
لا يملكون حليبا لإرضاعه ، امتزجت كلها في ليل بهيم وصدور موغلة بحزن كظيم
ضحكت لينا ضحكا هستيريا ، الجميع يتطلع إليها دونما استغراب ،
_ أريد العودة لفارس ، أريد البقاء معه ، إنني أسمع صوته يناديني ..!
ثم بكت بحرقة (لا أستطيع العيش بدونه ) احتضنها أبوها بحنان راح يداعب خصلات شعرها المجنون ،
وجدت حضن أمها أكثر دفئا فأجهشت ببكاء مر
(فارس يبعد عنهم أكثر من مئة كيلو متر ) بضعة كيلومترات وسيصلون الحدود
عند الغبش، الكل نيام ، حتى الأب احتضن بندقيته ونام بعد أن هده التعب ، الأم احتضنت وليدها الذي لم يعد بحاجة للحليب أو الماء ، فارس صوته يخترق كوة رأسها الصغير ، لينا تنظر إلى ذلك الطريق الممتد حتى الأفق ، شعاع من خيوط الرغبة بالعودة إلى فارس بنت لها قصورا من الأمل
كونت لها أشرعة ، سفينة أقدامها ، قد تمخر بها عباب هذه الصحراء ، أو أجنحة من آمال صنعتها من ثوب زفافها الذي لازال معلقا في دولابها ينتظر عودة العروس إليه ، ربطت هذه الأشرعة بحبال عقدتها بإحكام إلى جسدها الغض، وأغمضت عينيها
فإن لم تستطع الإبحار في هذا البحر اللجي فأنها ستطير إليه حتما
،(هكذا قالت في قرارة نفسها )
بلا طقوس ، ولا بكاء ، ولا كلمات تأبين ، دفن الصغير
جلس الأب يحلم بكأس من الشاي ، بعد أن ترك كل شيء في سيارتهم ،التي
تعطلت في الطريق ، أحس بأن رشفة من الشاي تعيد لهذا الكون توازنه ، و تقلب كراسي العروش كلها ، تلك الكراسي التي أحالت الإنسان إلى وحش كاسر ، يتغذى على لحم أخيه (ودراكولا ) يعيش على نجيع الدماء , البعض يقتل البعض ، والعروش باقية ، وإن تغيرت الوجوه ، فالكرسي ظالم ، ولا عدالة مطلقة فيه ،كسروا الكراسي لأنها هي سبب مأساتنا ،
وقفت زوجته قربه تنظر للبعيد ، لازال الأفق يحمل نذر شؤم
_ هل أنت جائع
زيد ذهب ليقضي حاجته ،
كل هذه الساعات التي مرت ولم ينتبها إلى أن لينا غير موجودة في دثارها ، قام الأب فزعا من مكانه ركن بندقيته خرج إلى الشارع نظر إلى البعيد لم يلمح غير خط أسود ممتد وامتداد البصر ، وأعشاب متيبسة من الأشواك، تدفع بها الريح ،
توجه إلى القبلة ،صلى . وثمة غصة في نفسه ، لا يخرجها إلا البكاء ، وليس أي بكاء ، بكاء عبد غارق بذنوبه ويريد التوبة ، وأي ذنب هو الذي ارتكبه لكي يكون هذا مصيره ،
زيد يلعب بسيارته التي فقدت الشحن ،
حشود من البشر ، فارين من الموت ، يسعون باتجاه الحدود الآمنة والتي كانت بالأمس حدودا ملتهبة ، صرخ بأعلى صوته (ماما ، بابا فارس جاء )
_ أين لينا ..؟
عشرة أيام ولم تعد لينا ولم يعد فارس ،
علامة مكتوب عليها هنا حدود الجمهورية العراقية
سجل أبو لينا اسمه مع مئات النازحين كلاجئين ..... ينتظرون وكالات الإغاثة ، لتعطيهم بطانية .... أو حليبا لم يعودوا بحاجة إليه