كوميديا العالم السفلي
ذات يوم، بل كلّ يوم، أقف على هامش المكان، مسكوناً بالقلق، يلازمني غراب أسود، يلتصق بي كالظلّ، يرسمني غريباً كما يشاء، يرشدني إلى مدافن سوءات التأريخ، استمع إلى خفقة الموت، أرى أشلاء القتلى تطوف حول ظلّ لوحاته، تنزّ من بين ثناياها قوافل من قطيع الأحلام، يشيّعها عويل من نساء محنّات بالوحل، مكحّلات بالدمع، شيخ يبرق الدمع في عينيه، يبحث عن كسرة خبز، جنائز لجثث مجهولة، مستغرباً لما يجري، أتساءلُ، لِمَ يحدث كلّ ذلك؟ حتى رأيت الأشياء تعدو قبلي وبعدي، وأنا أبحث عن رائحة وجودي التي لا أعرف لها أثراً في أنف الليالي، تلك الرائحة الممزوجة بالعبث والضياع، أظنّ أنّها تعرّقت؛ فسالت على جدران محراب ريشته وألوانه، محراب خبّأ فيه ملامح الذكريات، وكلّ الطقوس الممنوعة، حين تلج مرسمه المعتّق بالغبار، والمسوّر بخيوط العناكب، عليك أن تعيش الخطر؛ لا تستغرب ذلك، اقرأ ما خطّه (نيتشه) على عتبة المرسم:
"إذا أردت أن تجني من الوجود أسمى ما فيه فعش في خطر"
أرتدي معطف كوابيسه، أنفض رماد ذاكرته، أعانق شبح رجل أتعبته الدروب، انسلّ بهدوء شديد من ركن صغير، تسكنه الفوضى، يعانق صراخه العنيف، يرتّل سيرة أمسه:
- كنت أعيش هنا لمّا حُظرت الأحلام، أمارس ترميم شيبي، لعلّي أرتطم بقلب مترع بالحنين، أو أرى ضوءاً ولو من ثقب صغير، مدرك تماماً أنّه يحاصرني بعيونه الذئبية، ينفث دخان سيكاره الكوبي في وجهي، يخنقني بضحكته العاهرة، يشرب قهوته كلّ حين على مشارف فزعي، وحتى أهرب من عيونه التي نجحت في محاصرتي في دوائره الضيقة؛ تراني أرقص على الطريقة المولوية، أدور حول نفسي دورات سريعة كما الخذروف، وحين أقف لا أجد نفسي، في الصباح أخرج من لوحتي عارياً، قاضماً شفاه اللون، مرتدياً حلماً جديداً، كانت حقيقتي حلماً لا غير، تلك طقوسي - يا صاحبي- في زمن التيه، كأس من الخمر تكفي لسكري، و لك الصحو لتحلّق في عوالم مخلوقاتي الراقدة حزناً في سجونها المؤطّرة بالفزع، ستسمع أنينها المعتّق، تفضل معي، كلّ هذه اللوحات أردتها أن تكون ملحمة على غرار الكوميديا الإلهية، لكنّها هنا، على الأرض، إنّها كوميديا العالم المنسي؛ فنحن نملك من العذاب وأهوال الجحيم ما لا يتصوره دانتي في جحيمه، لم يكن أمامي سوى تجسيد صراع تلك الآلهة التي نزلت على كوكبنا؛ لتخطّ لنا سفر العبودية، انظرْ جيداً إلى الجدار، عُلّقت فوقه لوحات غير مؤطّرة، رسمت بلا ألوان، لا شيء غير الهواء والماء، وإله راعٍ لشؤون الأرض، برفقته زوجة جميلة وكهنة معبده ووزير حاذق وحاشية تمجّده؛ في البدء كان صراعاً مريراً يحمل بذرة الكون، النماء والخصوبة؛ فكانت مدينة نفّر و أريدو وأوروك وتلك معابدهم في العالم السفلي، إلّا أنّ شهواتهم، ملذاتهم، جعلتني أخطّ سفر الفجيعة.
لوحات تتدفق أسى، ملأى بالمواجع، صور موشّاة بلون الأرض، لعشّاق أضناهم البين، طائر مكسور الجناح، نساء عاريات، نايات حزينة تنشد أنينها...
تستوقفني إحدى لوحاته، معلّقة على الجدار الأول، أرض جرداء، محاطة بخراب شاسع، يملأ فضاءها نواح وغناء امرأة جميلة، سألته مدهوشاً:
- من هذه؟
- إنّها (إينانا) تبكي زوجها الملك (ديموزي)، المنفي إلى العالم السفلي بدلاً منها. انظر إلى هذه اللوحة (المضاجعة والعقاب)، البستاني شوكليتودا يضاجع ملكة السماء الحزينة قرب شجرة الـ(سربتو) وهي نائمة ولم تشعر من شدة تعبها، فرّ شوكليتودا إلى مكان مجهول؛ فدفعنا ثمن تلك الخطيئة، صبت علينا أنواع العذاب، قتل ولعنات وحرق مزارعنا، حتى الحيوانات لم تسلم من الموت، لم يكتف مجمع الآلهة بذلك؛ قرر أن يفنى البشر ويذهبوا إلى الجحيم، لا لشيء إلا لأنّ البستاني منّا- نحن البشر- وتلك السيدة من صنف الآلهة؛ منذ ذلك اليوم ونحن نعتلي سفينة مثقوبة، نبحث عن مرفأ؛ أما هذه اللوحات المعلّقة على الجدار الثاني، ليست لي، إنّها سفر صديقٍ سومري، تعرّفت عليه في ظلّ الأمس المنخور أسفاً، في ظلّ الحرب، التقيته هناك بعد حين من الوجع، كنّا نتعكز على حشرجة الموت قرب أشجار البلوط الدامعة الملقاة على ظهر جبل كونت، كلّ ذلك الموت، الخراب، الفزع، قيامات الليل والنهار، لم تجدِ نفعاً، كنّا نرتكب غفلة في عزّ الخريف المرعب، كلّ تلك السنين كانت فصلاً واحداً، لم تترك لنا غير أن نحمل جنوننا على كتف العبث، نختبّئ في صرة اللذائذ، في جرحٍ يهتف بالأرق والألم الدائم؛ لنمضي صوب اللاشيء، غير مبالين بعصفٍ يشتهي أرواحنا، يصفعنا الأين، تصفعنا الليالي ببردها، بثلجها؛ بيد أنّ القطاف لم يبلغنا، خرجنا من الجحيم كما الهياكل العظمية، نضحك ملئ أشداقنا على تماثيل برونزية لآلهة عفنة، تسوّر ساحات المدن، يدور الناس حولها سكارى، يطمرهم العمى، ينازعنا ذات الخريف ما تبقّى من العمر، ينسجنا الطريق خطى تائهة في وطنٍ يتكئ على موتاه، فما كان منّه إلّا أن يرسم حلماً ويمضي وحيداً إلى عوالم مجهولة؛ ما يعجبني في لوحاته (التكوين) ورسم التكتلات البشرية والأعشاب والنوارس، في تنويعات غاية في التميز، كلّ عنصر له شخصيته المتفردة التي تعزف جملة لونية وتعبيرية، انظر إلى هذه اللوحة، رجل أصلع، طاعن بالسن، يخرج من بين غيوم رمادية، يلّفه ضباب كثيف، يحمل عصاً، لم يتوكأ عليها، يلوح بها في الفراغ، وهذه زهرة برية نمت في بسطال جندي، وتلك خوذة مثقوبة، علاها الصدأ، وهذا شاعر يحن إلى ضفة نهر، وهذه امرأة من شنكَال، لها نكهة الصباح، عُلّقت من ضفائرها، وتلك شجرة عارية، وقف على أحد أغصانها اليابسة غراب أبيض، أبتسمُ:
- لم أرَ من قبل غراباً أبيض.
- ستراه يوماً ما.
- إنّها عوالم غريبة.
- لم تكن غريبة، لكنّها مكتنزة بالأسرار.
_ وهذه، ما اسمها؟
- الوداع الأبدي، هذا شبح أنكيدو ملوحاً لصديقه جلجامش لحظة نزوله إلى العالم السفلي.
يرسو مركبي تحت سماء لوحة غريبة لمدينة خربة، أحدّق فيها ملياً، أغيب في ثنايا زمنها، أناملي تمتدّ، تمسح الغبار عن وجه امرأة لاطمة خدّها، شاقة ثوبها، يهمس في أذني:
- إنّها ننكال.
- وما ننكال؟
- زوجة إله القمر، تندب حظها العاثر لحظة سقوط أور آخر معاقل سومر.
ومنذ سقوط المدينة ورحيل صاحبي، تراني أمضي حزيناً، ملتحفاً وحشتي، هارباً من حرب لا ناقة لي فيها ولا جمل، سنين عجاف وأنا مسجون بين هذه الجدران، يرافقني ظلّ امرأة، وسط الأصباغ والفرشاة وقلم الرصاص ولون الطين، أرتّب ضجري، أعاقر قلقي، أشرب خمرتي، أغيب في حلم؛ لم يكن هناك كوكب، كنت أنا الذي يدور حول نفسه، أمتطي رغبات شاحبة، تائهاً وسط غيوم داكنة، لم يكن لي حذاء لأبحث عن طريق، كلّ ما أعرفه إنّي على قيد الحياة، أحتفي بأحلام العصافير، أستنشق دخان التبغ بلهفة شديدة، ألتهم سطور الكتب الطاعنة بالصراخ، ألهو بمعصم الكأس انتشاء، لا يهمني أن أتعثّر بجثة متفسخة أو عبوة ناسفة، كنت غارقاً بالجنون، ما دمت أرسم فأنا موجود.
- أ لا تعد ما تفعله هراءً؟
- هذا رماد ذاكرتي، وآثار وجودي.
- أراك مجنوناً.
- ربما، فأنا ما زلت مسكوناً بليلي الطويل، أمضغ حلكته، أركض من الصباح حتى الفجر في ظلّ أصنام من شمع، ترتدي ثياب الخنوع.
أتأمل آخر لوحاته، امرأة في ريعان الشيخوخة، تلتحف النحول لكنّها مبتسمة، ساخرة من الذين رحلوا، تطلّ من نافذة مفتوحة، تمدّ يديها إلى حبات المطر...
أحدّق في رماد ذاكرته، أستلّ رفاته من بين ركام لوحاته المحنّطة بالعزاء، كانت ترانيم حارقة، نثرتها الريح على ضفاف الوجع، لوحةً رسمتها يد الأقدار، ذات لون أحادي، معتّقة بالجحيم، باصقة في وجه آلهة العالم المنسي، تهذي بتفاصيل إعدامه:
- ذات نهار موحش، مفعم بالخوف، مشعّ بالخراب، عُلّقت على عمود الإنارة بتهمة الزندقة والهروب من الحرب، وقبل أن ألطّخ بدمي، وأفقد حواسي، كانت عينا أبي ترنوان إليّ عن بعد، تستظلّان بالدعاء، يبلّلهما صراخ مكتوم، أحدّق في الحضور، وجوه بلا ملامح، رصاصات تخترق جبهتي، لم أستطع عدّها؛ كنت مشغولاً بمعانقة كوني الجديد.
عبدالكريم الساعدي
العراق