شمّة زعــوط..
قصّة لعدنان كنفانييعقوب جديد يدبّ على الأرض.؟ أم هو ذاك العجوز القديم.؟ ما زال يضرب في صحراءَ جرداءَ ليس فيها إلا جبُّ عتيقُ، ينظر فيه ولا يرى شيئاً، يبحث عن نور عينيه، يشتهي قميصاً يهطل على وجهه.. أراه الآن أمامي، يشقّ بعصاهُ الهرمةِ غبار السنين، ويطفو فوق الركام.. يحمل في تغاضين وجهه لمسة الأنبياء..
طويلُ كشهاب، منكبان عريضان، وبشرةُ بيضاءَ لوّحتها سمرةُ أليفة.. إذا وقف أمامك سدّ الفضاء، وطفحت حطّته الحريرية قوسَ قزحِ يخترق هشاشةَ السحب، وعقاله الأسود العريض، ينضح قرناً من الزمن.. ينشر على مساحة الأفق طيبَ ريحِ القسّام، والشيخ فرحان السعدي.. تحملهُ عصاهُ الخيزرانية رفيقةَ عمره، ويحملها، يطعن بها جهةً لا تتبدّل..
- هناك ،هناك.. بيتنا..
خرجت من صندوقي الحديدي، ونظرت إلى الأفق الذي يشير إليه..
مئةُ سنة ونيّف، تدبّ معه على الأرض، وأي أرض.! سفوحُ تتهادى حول قمم عملاقة، وتشمخ بجذالةِ ما تحمل، طوى للوصول إليها ألفَ واد، ثم وصل..
هكذا يفعل منذ سنوات..
ينظر وراءه، ينتظر جحافَل أولادِه العشرةِ، ولا يأتون..
مسّد شاربهُ الأبيضَ المعقوف كمنقارِ صقر، وعصر جفنيه فقفزت من عينيه الصغيرتين، دمعتان..
- الأرض متل العرض، والعرض غالي.. ما بينحماش إلا بالسيف..!
ينتبه إلى وجودي جانبه، فيبتسم..
كنت صغيراً عندما حملتني أمّي، دموعَها تبلل جبهتي، رأيت من فوق كتفها ناسً سعداء، معفّرين بثياب سوداء، يدخلون بيتنا، ويضحكون.. يرمون أغراضنا من النوافذ.. رأيت لعبتي الخشبيةَ التي صنعها أبي، تموت تحت حجر كبير..
بعد صباحات كثيرة، تعّلمت قراءة الرقم 46 الذي تحملهُ خيمتُنا.. بيتُنا الجديد.. عندما كبرت أكثر تعلّمت تهجئةَ حروفِ أخرى كُتبت بدهان أحمر تحت الرقم..
"مخيم شعفاط" وتَحتَها بخط أصغر "مخيم الصمود"..
- شو يعني مخيم صمود عمي أبو يوسف...؟
كان أبي ينقل اخوتي واحداً بعد الآخر، مثلما تحمل القططُ جراءَها، ترك وراءه كلَّ شيء.. أوراقَ ميلادنا، ملابسَنا، ألعابَنا.. لا شيء يثبت أننا مخلوقاتُ بشرية..
- رايح أجيب وراق لولاد يا عايدة..
قبل أن يقترب من باب الدار، أطلقوا عليه النار، وقتلوه.. قالوا:
- إرهابي..
تسعة أطفال في خيمة.. بلا مدارس ولا أحلام.. نراقب من وراء ستارٍ مشبّكٍ مرتفعٍ، عالماً غريباً يتحرك قبالَتَنا.. بيوتُ كبيرة وحدائقُ، سياراتُ ومدارسُ، وملاعبُ مفروشةً برمالٍ حمراءَ وصفراءَ..
في يومٍ، وصلتنا كرةُ طاشت من أقدام ساكنيها الجدد، حملناها كأثمن شيء يمكن الحصول عليه، واختبأنا في الخيام أياماً كثيرة، ثم صرنا نلعب بها حول مقالب القمامةِ الملاصقةِ لخيمة أبو عايد.. ويوم فقدناها كان أكثرَ أيامنا حزناً..
كنا نركض .. ننزل تلاًّ قريباً، ونصعد آخر، نصل إلى دار أبو يوسف، نجلس أمام البوابة.. بيته من حجارةٍ سوداءَ متراكمةٍ فوق بعضها بفوضى. وكتلُ طينيةُ تسّد الشقوق، يخرجُ إلينا بوجهه المضيء، يتوكأُ على عكّازه..
منذ قرون وهو يحمل العكّازَ ذاتَه، ونخاف أن نسألَهُ عن تلك الندوب التي تحيط برسغيه، يأخذنا إلى طرف الدار الغربي، يرتقي مكاناً مرتفعاً، يرفع العكّاز ويشقّ به لجّة السماء.. يقول:
- هناك بيتنا..
في ذلك الوقت، بدأت أسمع عن البواريد، وكنت أحسب لعمر طويل أن عصا العم أبو يوسف هي البارودة.. كان يصوّبُها بدقّة، يذخّرُها بكلماته، ثم يطلقُها..
أسأله:
- وهذا..
يبتسم، وتتورّد وجنتاه.. يحاول أن يزيح القذى العالق على طرفي عينيه، يعيد العكّاز إلى جرابه، ويجلس متربّعاً على التراب..
يحكى أنه في قديم الزمان كان الحجر، تعلّم الإنسان كيف يكتب عليه، ويرسم، ويصوّر، وينحت على صفحته تاريخَهُ وتراثَهُ وحضارَتَهُ، وكيف يصنع منه الأواني لطعامه وشرابه، وكيف يدافع به عن نفسه ضدّ الوحوش.. واكتشف أن الشرارة لا تنطلق إلا من قدحِ حجرين ببعضهما..
كانت أمّي تدفع حرابَ الجرّافات بيديها، قالوا:
رائحةُ المخيم، ومنظرُ المشرّدين المقرف، يؤذي أذواق سكان المستعمرات..
جرفوا خيامنا، وأبعدونا إلى مكان آخر..
في اليوم التالي أحضر لنا "يوسف" صندوقَ باصٍ قديم، نزَع مقاعدَهُ، وثبّت أبوابه، فصار بيتَنا الجديد..
لست أنسى كم كان سعيداً وهو يصف لنا ترف هذه الكتلةِ الحديدية، قال:
- أكبر من الخيمة..
ورأيته يكتب على جانبه الأملس الحروف ذاتها التي تعلّمت تهجئَتَها على قماش الخيمة 46
عصر قبضتيه، فظهرت الندباتُ أكثرَ وضوحاً على معصميه..
- هادا الباص صار بيتكم، وعلى أرضكم، بس أنتو من هناك.. من حارة الشرف..
كان أبو يوسف أبُ لأولادٍ كُثر، وجدُّ لأحفادٍ أكثر.. ينظر إلى صورته المعلّقةِ على حجر بارز، يمتطي حصاناً أشهب، وعلى صدره جنادان من الفشك، وعلى كتفه بارودة، ويبتسم.. لا، لم يكن يبتسم.. كان شاربه يبتسم، وعيناه تعتصر دمعتين..
قبضت عليه دوريةُ من عسكر الإنكليز، وأودعوه سجن عكا..
نفضَ القاضي البدين يديه بعصبية، وصفقَ على أوراق منثورة بين يديه. بدا لونُ شعرِه الأشقر، وازداد وجهه احتقاناً، وتبدل بياضُ بشرته إلى حمرة قانية، تمتم بكلمات مكسّرة من بين أسنانه:
- موسى الخالص الشهير بأبي يوسف.. حكمت عليك المحكمة بالسجن سبع سنوات، لثبوت مشاركتك بالقتال مع الخارجين على القانون..
قيدّوا أطرافُه الأربعة بأساورَ من حديد، وحبسوه..
في مساء يوم ربيعي، دخلوا ضيوفاً إلى مضافته المشرعة، ثلاثةُ رجال، يعرف أحدَهم، يقولون إنه "سمسار أراضي"، حاولوا إغراءه وشراء بيته، فردوا أمامه أوراقاً خضراءَ جديدة..
نثر السمسار المال على حضنه، وهمس بلطف بالغ، كأنه يزفّ إليه بشرى:
- ميتين ألف أردني..
رفع حاجبيه الثقيلين، وهو يرسم ابتسامة باهتة.. قال الآخر وهو يلقي بجديلتيه على كتفيه:
- كمان ميتين ألف..
ضحك أبو يوسف هذه المرة، أخرج علبةً زاهيةً صغيرةً من جيب قنبازه، نقر عليها نقرتين:
- هدول، ومال الدنيا، ما يسّوش عندي شمّة زعوط..
- يعني ما بدّك تبيع.؟
- بشرط واحد.. ورقة ممضيّة من كل مسلمين العالم، صغيرهم وكبيرهم، وتعالوا خدوا البيت ببلاش.!
بعد أيام تقدّمت حرابُ الجرّافات، حاربها بيديه العاريتين، حتى احتقنت الندبُ السوداء المتعربشة على معصميه وصارت بلون الورد.. جرت الأحداث بعد ذلك بسرعة.. أحد المتهيئين للسكن سحبَ حطتّهُ عن رأسه، ثم اغتنم فرصة سنحت، وصفعه.. كان يوسف محاصراً بين ثلّة من الجنود يتخبّط في قهره، وتمنعه عشرات الحراب من التحرّك، لكنه استطاع أن يتعرّف جيداً على صاحب الجدائل السوداء الملتفّة حول أذنيه.. يحمل سلاحاً يخفيه تحت ثوبه الأسود الطويل..
أزاحوا البيت.. وأقاموا مكانهُ بناءً جديداً من طبقات كثيرة، استقبلت بفرح وزينة، أفواجاً من القادمين مع قططهم، وكلابهم، وشعورِهم الشقراء..
يومها تفرق أولاده العشرة في البلاد.. وبقي يوسف..
كنا نقترب من الشريط المرتفع، ونراقب الناس.. نتغامزُ خلسةً، ونحلُم. هل نستطيعُ تسلّقه.؟ وحين يعيى السؤال، نركض إلى الساحات الخلفية نمارس لعبة "عسكر وحرامية".. لعبتَنا المفضّلة، فريقُ يختفي وراء جبالِ القمامة، وآخرُ يحاول استعادة مواقعه..
كانت الحجارة تقفز إلى أيادينا، تعصر نفسها شوقاً لتطير، وكنا نطيّرُها..
كبرنا وكبرت حكايات أمّي..
- في بيتنا هناك يمّا.. كان في إلكم فراش، ولعب، وصور.. وحنفيات مي.. وباب يتسكّر..
تشير بيدها النحيفة إلى المكان ذاته المطعون بعكّاز أبو يوسف..
- أبوكم كان يحب ريحة الحبأ.. أفرك ورق الحبأ، ويشّمه عن إيديّ، يقوللي: الله يرضى عليك يا عايدة.. الله يرحمه، قديش كان يحب ريحة الحبأ..
يوسف يأخذُنا.. ندور حول المستعمرة، نمشي وراءَ بعضنا، مدججين بالحجارة، ونصل إلى المدينة.. أولَ ما نذهب إلى الجامع.. فتعلّمنا الصلاة.. نتجوّل في الزواريب، والحارات.. يلمسُ الحجارةَ الكبيرةَ، يقبّل البوّابات، يشمّ مقابضَها، ويغيب.. سألته قال:
- ألمس أيديهم، أشمّ روائحَ عرقهم.. إنهم تحتَ كل حجر، وفوقَ كل مئذنة.. تغلِبُهم حسرة.. أحدهم شاهد كيف يقلعون شجرةَ زيتون زرعها بيديه، وتسلقَ عليها أولادُه وأحفادُة.. أصلها ثابت، وفرعُها في السماء.. يسلخون جذورَها ويسلّونَها، فتستلقي كصبيةٍ فضّت بكارتُها غصباً، تذوي وتذوي ثم تموت..
بعد لحظات، تستصرخنا حجارتُنا، فنلبّي نداءها.. تطير إلى خوذات وجنازير، وتستقبل صدورُنا الرصاص..
زعيق سيارات، ودماء، وأصوات رصاصٍ وقنابل، جثثُ على الأكتاف، وحجارةُ تغطي مساحة القهر..
أرى في الجانب الآخر من الزقاق القديم جارَنا "جمال"، يداه مثقّبتان، يلوح رأسُهُ بين كتفيه كطائر مذبوحٍ ينتظر خلاصَ الروح، يصرخ بذعرٍ ما سمعت مثلُهُ كلَ حياتي:
- نقتل "محمد" على حضني.. وما غدرت أحميه..
على حاجز طرخونيا، كان يقف مع مجموعة من الجنود، يفتشون جيوبنا، ويفحصون أكفَّنا..
جدائله السوداء تلتّف حول أذنيه، وفمهُ الصغير يضيع بين فوضى شعرهِ القبيح.. يخفي تحت ثوبه الطويل قطعةً فولاذية مصقولة.. ويمسك كتاباً صغيراً، ويتمرجح مثل وطواط تتعلقُ أرجلُهُ الصغيرة على غصن شجرة رفيع..
ينتفض يوسف.. يشير بإصبعه المهروس إلى شيء يعرفه جيداً، ما يزال محفوراً في ذاكرته:
- هذه الكفّ، صفعت وجه أبي..
اقترب منه بهدوء وتحفّز، وهوى على رأسه بحجر، أوقعَهُ مضرّجاً بدمه.. بعد لحظات انطلقت رصاصات كثيرة، وقتلته..
حملناه، ونسجنا من لحمه الممزق ألوانَ العلم.. ورفعناه إلى أعلى نقطة يمكن أن يراها إخوتُهُ في أصقاعهم البعيدة والقريبة، وحين دثّرناه في التراب، أدركنا أن أحداً سوانا لم يره..
حين وصلت الأخبار إلى مسامع أبو يوسف.. لم يصدّق..
جلس متربّعاً على مشارف التل.. ورنا إلى البعيد.. كان صوته أشبهَ بصوت شفرة محراث، تشقّ أثلاماً في التراب..
سجن عكا بيدّي بنيته
وبحر عكا بدمعي جريته
إجاني مكتوب من يوسف لسّه ما قريته
عسا الله يكونوا بخير الحباب..
تنبّه إلى وجودي إلى جانبه فابتسم..
أخرج من جيب قنبازه الأبيض علبةً زاهيةً صغيرةً، نقر عليها نقرتين، ولم يفتحها..
كان يتحدث إلى مجموعة من الأطفال، رأيت في وجوههم صورتي، وصورُ أخوتي:
- الأرض متل العرض، والعرض غالي، ما بينحماش إلا بالسيف.. هناك بيتنا..
وتشقّ عكازه الخيزرانية لجّة السماء.. يحسبونها كما كنّا نحسبها بارودة، يذخّرُها بكلمات ما زلنا نسمعها منه منذ سنوات، ويطلقها كما نطلق الحجارة، نحيك منها أثواب أمهاتنا المزركشة.. يقول:
- مال الدنيا كلها.. ما يسوّيش شمّة زعوط..
عيناه الصغيرتان، تفتّشان في صحراءَ قاحلةٍ عن جبِّ يلفظُ قميصَ يوسف، فيعيد إلى عينيه ضياءَهما.. ينتظر أولاده العشرة ولا يأتون..
يستند إلى ذراعي وينهض.. يحمل على كتفيه العريضين مئة سنة ونيف..
ينظر إلى الأفق البعيد.. ويتمتم:
ـ ترى متى يأتون.؟
ـ ـ ـ