من كتاب الشيخ مرسى إلى جامعة أكسفورد
إبراهيم عوض
وكنا فى الوقت المذكور نستذكر على سطح بيت محمود نحلة بين أكداس القش والحطب، كما فى كل بيوت القرية آنذاك، استعدادا لامتحان السنة الثالثة الإعدادية بالمعهد الدينى بطنطا، وكان اليوم يوم الثلاثاء الذى يسبق يوم الامتحان بثلاثة أيام لا غير، فوجدت ذلك الصندوق هناك، فأخذتُ بفضول صبى صغير أفتش فى محتوياته، فخرجت يدى بكتاب منزوع الصفحات الأولى والأخيرة، فأمسكته أنظر فيه فشدنى، فتركت الاستذكار وانهمكت فى مطالعة الكتاب لا أستطيع أن أحول عنه عينى إلى أن انتهيت من صفحاته المتاحة عند المغرب تقريبا، مضيعا هكذا يوما كاملا دون استذكار، تاركا الامتحان لربٍّ اسمه الكريم كما نقول فى قريتنا تعبيرا عن الثقة فى الله والتوكل عليه. ولم يخيب الرب الكريم ظنى. أما بقية حكايتى مع "غادة كربلاء" فهى أننى ظللت متشوقا لمعرفة مصير أبطالها، إلى أن كنت بعد ذلك بأكثر من عام فى دكاننا ذات ضحى، فرأيت شابا مارا أمامى فى الشارع كان معنا فى الكُتَّاب، هو الأخ أحمد الصعيدى، وكنت أحبه لظرفه وهدوء طبعه، وكان قد ترك الكُتَّاب منذ وقت طويل واشتغل حلاقا كأبيه وإخوته، فأبصرت فى يده كتابا دفعنى فضولى القاتل إلى سؤاله عنه، إذ كان من الواضح أنه رواية من روايات الهلال، فإذا به "غادة كربلاء". ترى ماذا كان ذلك الشاب يفعل به؟ بل أَنَّى له به أصلا؟ لا أدرى. لكنى أدرى أننى استعرته منه وأكملت قراءة الرواية بعد أكثر من عام. ما رأيك أيها القارئ فى هذه الفوضى الشاملة التى كنا نتحرك بها فى دنيا المطالعة؟ لكن لا تنس من فضلك أن الغزَّالة تَغْزِل برجل حمار! ولا تنس قبل ذلك ما قاله رسولنا الكريم من أن "التدبير نصف المعيشة". ومن الكتب التى قرأتها فى بيت صديق الصبا محمود نحلة أو استعرتها منه عدد من سلسلة "المكتبة الخضراء"، ومنها قصة "البجعات السبع"، التى تألمت وأنا أقرؤها بسبب ما وقع على بطلاتها الطيبات من سحر غشوم ظالم.
وأذكر هنا أننى كنت مفتونا بروايات جرجى زيدان عن تاريخ الإسلام وأصدّق ما يرد فيها من وقائع تصديقا مطلقا غير دار أن الرجل، كما لاحظ نقاده، كان يدس السم فى العسل. وبلغ من تأثرى الشامل بما تقوله رواياته أننى مثلا، حين فرغت من رواية "العباسة أخت الرشيد"، وكانت تدور حول تزوج العباسة سرا بأحد البرامكة وإنجابها منه ولدين دون علم أخيها الخليفة، الذى ما إن عرف بالأمر حتى قتل الزوج والطفلين جميعا، قد كتبت على ظهر إحدى الصور الداخلية بالرواية كلاما غاية فى القسوة فى حق الرشيد وَسَمْتُه فيها بالتوحش وانعدام الإنسانية. ثم انصرمت الأعوام، وتخصصت فى النقد الأدبى، وفى القصصى منه بالذات، فكتبت فى الرسالة التى حصلت بها على درجة الدكتورية من أكسفورد أنتقد صنيع زيدان وأفند مزاعمه الكاذبة فى أن رواياته هذه لا تختلف فى شىء عن كتب التاريخ الموثوقة سوى أنها تحتوى على قصة غرامية لا دخل لها فى أحداث القصة ولا فى صور شخصياتها، مبينا أن ما يقوله لا يمكن أن يكون صحيحا لا نظريا ولا واقعيا.
أيضا من مصادر الحصول على الكتب فى تلك الأيام الفقيرة مكتبة الوحدة المجمعة، وكان يشرف عليها الأستاذ محمد صالح، رحمه الله، وهو جار لنا، ونعرفه جيدا، وكنت أتردد على بيتهم، بل كان يعطينا بعض الدروس الخصوصية قبيل وفاة والدى، الذى كان يجهزنى أنا وأخى لإرسالنا إلى طنطا: أنا إلى المدارس، وهو إلى الأزهر أيام كان الأستاذ صالح طالبا فى كلية دار العلوم. وأذكر من الكلمات التى تعلمتها ودخلت معجمى اللغوى أثناء تلقينا تلك الدروس الخصوصية كلمة "يُدْعَى" بمعنى "يُسَمَّى"، التى قرأتها فى موضوع من موضوعات القراءة عن ولد إنجليزى يدعى: جون. لقد كانت معرفتى بهذه الكلمة بمثابة فتح. وقد ظننتُ أن الأستاذ محمد صالح سيكون سهلا فى إعارتنا ما نشاء من الكتب، إذ لم نكن نعرف أن هناك لوائح وقوانين تنظم المسألة وتحدد عدد الكتب التى يجوز أن يستعيرها الشخص فى كل مرة. لكنه كان يخيب ظنى دائما بإصراره على أن أنتهى من الكتاب الذى أستعيره وأعيده أولا حتى يمكنه إمدادى بكتاب آخر. وهأنذا الآن أضحك وأنا أكتب هذا الكلام. لقد كنت أستغرب من تصرفه غير المفهوم لى فى ذلك الوقت، إذ ما الذى يضيره لو أعطانى المكتبة كلها دفعة واحدة؟ ولا حاجة على الإطلاق. لقد كنت أرى أنه يحبِّكها دون داع.
وقد تعرضت أنا أيضا لموقف مثل هذا حين كنت معارا إلى جامعة قطر منذ عدة سنوات، إذ كانت الطالبات يردن، ككل طلاب الخليج وطالباته، الحصول على الأَلِف، أى على تقدير "الامتياز" بأية طريقة. وكن يبدين استغرابهن لأننا لا نستجيب لرغبتهن فيقلن: ما الذى يضيركم فى أن تريحونا؟ فكنت أقول لهن ضاحكا: لو فعلنا ذلك لرفتتنا الجامعة وعُدْنا بفضيحة إلى بلادنا. إلا أن البنات البجحات الظريفات كن يقمن بهجوم مضاد قائلات إن الجامعة لن تفعل هذا أبدا. وما عليكم إلا أن تحققوا لنا ما نريد، ولسوف تَرَوْن أنه لن يحدث أى شىء. فكنت أقوم بدورى بهجوم مضاد على هذا الهجوم المضاد قائلا: طبعا بعد أن تكون بصرة قد خربت، فحصلتن أنتن على الألف، ورحنا نحن فى أبو نكلة. وأرجو، أيها القارئ العزيز، ألا تسألنى عن "أبو نكلة" هذا، فقد حفظتها هكذا بمعنى أننا سنروح فى داهية، والسلام.
المهم أننى قرأت من مكتبة الوحدة المجمعة بالقرية بعض مسرحيات محمود تيمور، وكتاب "هارون الرشيد" لأحمد أمين (طبعة كتاب الهلال الأخضر الذهبى)، وكتاب "دور القرآن فى بناء المجتمع" للشيخ محمود شلتوت، الذى أطلعنى فى تلك الفترة الباكرة من حياتى على الجانب الاجتماعى والحضارى من الإسلام، ذلك الذى لا يعرف عنه معظم المسلمين الآن إلا أنه صلاة وصيام ولحية وحجاب وتقصير جلباب، ودمتم، حتى إننى، حين أصدرت منذ نحو سنتين كتابى: "الحضارة الإسلامية- نصوص من القرآن والحديث ولمحات من التاريخ"، وألححت فيه على الجوانب الحضارية فى ديننا العظيم من علم وعمل وإتقان ولياقة وجمال ونظام وإبداع وحرص على الوقت والتدبير، قد فوجئت بطالبة تأتينى إلى مكتبى وتقول لى تعبيرا عن دهشتها وفرحتها إنها قرأت الكتاب وقرأه معها أخوها وأختها وأمها، فكان تعليقهم جميعا أن أحدا لم يخبرهم من قبل بأن الإسلام هو هذا. وأتصور أن تأليفى ذلك الكتاب قد جاء، ضمن أسباب أخرى، تأثرا غير واع بكتاب الشيخ شلتوت الصغير الجميل الذى وقع فى يدى وأنا لا أزال طالبا فى المرحلة الإعدادية.
أما المرحلة الثانوية فقد قضيتها فى المدرسة الأحمدية بطنطا. وجَدَّتْ فى حياتى أشياءُ ينبغى التوقف إزاءها قليلا: من ذلك أننى ألفيت نفسى زميلا لطلاب آتين من مدرسة القديس لويس حيث تعلموا مقرراتهم المدرسية باللغة الفرنسية، ولم تكن مجرد مادة كبقية المواد كما هو الأمر فى حالتى. أى أن فرنستيهم أحسن من فرنسيتى بمسافة واسعة جدا. فإذا أضفنا إلى هذا أننى لم أدرس كل مقرر الفرنسية الذى درسه نظرائى فى المدرسة الإعدادية، بل درست فقط نصف هذا المقرر اتضح لنا كيف كان وضعى الحرج بين هؤلاء الزملاء. ذلك أن الأزهر، حين أَدْخَلَ اللغات الأجنبية فى المرحلة الإعدادية، كنت أنا فى الفرقة الثالثة. ولما كانت سنوات الدراسة بالأزهر فى تلك المرحلة أربعا فقد قسموا المقرر بحيث تأخذ كل سنة ثلثى ما يأخذه طالب المدرسة فى العام الواحد. ولما كانت هذه أول سنة ندرس فيها الفرنسية كان نصيبى أنا وزملائى طلاب الفرقة الثالثة ثلثى مقرر السنة الأولى الإعدادية بالمدارس، وحين انتقلنا إلى الفرقة الرابعة درسنا الثلث الباقى من مقرر الفرقة الأولى مع الثلث الأول من مقرر الفرقة الثانية بالمدارس. ولا تنس، أيها القارئ الكريم، ما قلته لك من أنه كانت هناك خمسة دروس لم يكن الأستاذ قد شرحها لنا فى الفرقة الرابعة واستذكرتها أنا وحدى دون الاستعانة بأى شخص أو شىء آخر.
من هذا كله يتبين الموقف الصعب الذى وجدت نفسى فيه بالنسبة لمادة اللغة الفرنسية عندما انتقلت إلى الأحمدية الثانوية. إلا أن الله كان لطيفا بى، فلم أحس أننى أقل من زملائى المشار إليهم، بل كنت إلى حد ما من الطلاب المتميزين. والبركة فى الثقة التى زرعها فىَّ والدى وأنا طفل صغير، والتى قواها ثناء بعض زملائى على نزعتى الأدبية وكتاباتى الأولى الساذجة التى كانوا، كرما منهم وعطفا، يَرَوْن فيها موهبة عظيمة تستحق الإشادة، بارك الله فيهم. على أننى، حين ظهرت نتيجة الامتحان آخر العام، كان ترتيبى السابع على المدرسة. وهذا أسوأ ترتيب حصلت عليه طوال حياتى الدراسية. لكن فى العامين التاليين كنت الأول على الشعبة الأدبية، بل إننى فى امتحان الثانوية العامة كنت الأول على محافظة الغربية، وهو ما آلمنى أشد الألم، إذ كنت أتطلع إلى أن أكون بين أوائل الجمهورية.
وقد تبين لى السبب فى تأخرى عما كنت أطمح إليه، إذ كنت أكتب موضوع الإنشاء الفرنسى من عقلى لا أحفظ له شيئا. وبطبيعة الحال كنت أكتب الفرنسية على طريقة "إنجليزى يا مرسى؟" أو بالأحرى: "فرنساوى يا خِلّ؟". زد على هذا أننى أهملت التراجم القصيرة التى كانت توجد قبل كل نص من نصوص الأدب الفرنسى للتعريف بكاتبه، ظنا منى أنه أمر غير مهم. فلما سألونا فى الامتحان أن نعرِّف بألفونس دوديه صاحب النص الذى امتحنونا فيه لم أستطع أن أقول شيئا، مع أن الأمر لم يكن يتطلب أكثر من حفظ ثلاثة أسطر تقريبا عن كل مؤلف، واكتفيت بتلخيص ما كنت قرأته فى رواية له درسناها ذلك العام باعتبارها ترجمة له بمعنى من المعانى. وبهذا نقصت درجتى فى الفرنسية، وكان هذا هو السبب فى عدم حصولى على أى مقعد بين العشرة الأوائل، وإن كنت أظن أن لى واحدا بين العشرة الثوانى. ولعل مجىء ترتيبى الأول على طلاب الجمهورية فى مادة اللغة العربية فى ذلك العام قد عوضنى بعض التعويض عن عدم حصولى على ما كنت أطمح إليه.
إلا أننى لم أعلم بذلك إلا فى منتصف العام حين ذهب، لمقابلة الرئيس جمال عبدالناصر فى احتفال عيد العلم فى تلك السنة والحصول على جوائز التفوق، أصدقائى من أوائل الجمهورية الذين كنت أزاملهم فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية قبل أن أتركها بعد ثلاثة أيام ليس إلا إلى قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، قسم المشايخ، وهو ما كان مثار لغط بين طلاب المدينة الجامعية عرفت به يوما حين كنت فى مطعم المدينة أتناول طعامى وجلست كالعادة على مائدة مع طالب آخر. وكالعادة أيضا أخذنا نتحادث، وجرنا الكلام إلى تحويلى لأوراقى من كلية الاقتصاد إلى كلية الآداب، فصاح رفيق المائدة: إذن فأنت الطالب الذى ترك الاقتصاد إلى اللغة العربية؟ يريد أن يقول: إذن فأنت الطالب المجنون الذى ترك كلية السفراء إلى كلية التُّرَبِيّة؟ وبلعتها ضاحكا وأنا أقول: نعم أنا هو!
ما علينا من هذا الاستطراد الذى لا أدرى كيف أتخلص منه، وبالذات فى ذكريات كهذه لم أستعدَّ لها كما ينبغى، بل أترك نفسى تسجل ما يَعِنّ لها دون ترتيب أو تَعَمُّل. والبركة فى الأستاذ طارق منينة أحد المشرفين على موقع "ملتقى أهل التفسير"، الذى طَقَّتْ فى دماغه أن يحاورنى فى بعض الشؤون المتعلقة بمسيرتى الفكرية، وبخاصة خلال إقامتى فى بريطانيا أدرس للحصول على درجة الدكتورية، فطَقَّتْ فى دماغى أنا أيضا أن أكتب ما تقرؤه الآن أيها القارئ العزيز بعُجَره وبُجَره من غير أية صنفرة. المهم أن زملائى، حين عادوا من مقابلة الرئيس وتسلم الجوائز، أخذوا يهنئوننى على نحوٍ خِلْتُ معه أن المسؤولين اكتشفوا فجأة، وبعد فوات الأوان، أننى واحد من العشرة الأوائل. إلا أنهم شرحوا لى الوضع، وهو أنهم قرأوا فى الكتاب التذكارى الذى أعطَوْه لهم فى الحفل أننى الأول فى مادة اللغة العربية على الجمهورية، وهو ما كان موضع دهشتنا جميعا: أنا وهم على السواء، لأننى كنت حاصلا فى تلك المادة على 46 درجة من 50، بينما كانت زميلة لهم قد أخبرتهم من قبل أنها حاصلة على 58 درجة فى تلك المادة، فلم يكن متوقعا قط من ثم أن أكون أنا الأول. ومعنى ذلك، حسبما فسروا لى الأمر، أنها لم تذكر الحقيقة فى موضوع درجتها.
والطريف العجيب أن الزميلة كانت متفوقة على الجميع فى ذلك العام تفوقا مطلقا لأنها كانت الأولى على مستوى الجمهورية بين طلبة القسم الأدبى. ومع هذا فقد انتهى بها الأمر أنْ تركت كلية الاقتصاد مثلى، ومثلى أيضا حولت أوراقها إلى كلية الآداب، لا إلى قسم المشايخ بل إلى قسم الصحافة، ولكن بعد ضياع سنة من عمرها لم تحرز فيها شيئا. كما أنها، فيما أذكر، لم تكن بين المتفوقين فى كليتها الجديدة، إذ حصلت فى أول عام على تقدير "جيد"، ولا أذكر الآن شيئا آخر عنها بعد ذلك. وقد غبطنى بعض زملائى على ما سَمَّوْه: "جرأتى" فى انتقالى إلى الكلية التى أحبها، بخلافهم هم، إذ لم يجدوا أنفسهم فى كلية الاقتصاد، لكنهم كانوا يَخْشَوْن كلام الناس إنْ هم تركوها إلى كلية أخرى هابطين بذلك من كلية القمة إلى إحدى الكليات التى ترقد فى القاع.
ومن اللطائف التى أضحكتنا فى تلك الليلة ما حَكَوْه عن زميل لنا أصبح أستاذا فى الجامعة، واشتغل بعد ذلك مستشارا ثقافيا فى أهم بلد فى العالم، من أنه أخرج أثناء الاحتفال بعيد العلم خطابا من جيبه سلمه للرئيس جمال عبد الناصر كان أخوه قد كتبه طلبا لشىء من الرئيس أو شكوى من شىء، فما كان من الأمن بعدما انتهى من تسلم جائزته وعودته إلى مكانه بين جمهور الحاضرين إلا أن أخذوه وسألوه، فى سياق استنكارهم لفعلته، عن المكان الذى يسكنه، فما كان منه إلا أن أجابهم وملء قلبه الفزع والرعب: "أنا؟ أنا؟ أنا مش ساكن"! فكانت نكتة الليلة.
على أن هناك أسبابا أخرى لنفورى من كلية الاقتصاد، فلم أكن مهتما بالفكر السياسى اهتماما خاصا، بل كان اهتمامى فى المقام الأول بالأدب والنقد والفكر الإسلامى، وهو ما لاءمه قسم اللغة العربية أعظم الملاءمة، وإن كنت فى البداية قد ترددت بين الالتحاق بقسم اللغة الفرنسية أو الصحافة أو اللغة العربية، فحسمها أننى، فى أول يوم ذهبت فيه إلى كلية الآداب، وهو اليوم الرابع من أيام العام الدراسى 66- 1967م، قد وجدت نفسى عند اجتيازى بوابتها فى مواجهة سلم، فصعدته دون تفكير، ولما بلغت الطابق الثانى انحرفت يمينا لأجد بعضا من الطلاب سألتهم: أى قسم هذا؟ فقالوا: قسم اللغة العربية، وهذا هو جدول المحاضرات خلفك. فاستدرت أنظر فى الجدول، فوجدت التفسير والحديث والأدب والنحو والصرف والنقد، فقلت فى نفسى: على بركة الله. سوف أدخل قسم اللغة العربية.
أما لماذا اخترت فى استمارة الرغبات، أثناء تقديمى لأوراقى إلى مكتب التنسيق الجامعى، كلية الاقتصاد فكان بإلحاح من صديق والدى بالقرية (العم أحمد جبريل رحمه الله، الذى كان متحمسا لى بعد وفاة والدى، ويشجعنى ويثنى علىَّ كثيرا، ووقف إلى جانبى فى بعض المواقف وقفات كريمة) ظنا منه أننى سوف أكون سفيرا. فقلت فى نفسى ساعتئذ: ولم لا أجمع بين دراسة الاقتصاد والسياسة رسميا ودراسة الأدب والنقد هوايةً؟ ألم يفعلها إبراهيم ناجى، الذى تخصص فى الطب رغم أنه كان شاعرا أديبا؟ ألم يفعلها صالح جودت بجمعه بين شهادة كلية التجارة وإبداعاته الشعرية والنثرية؟ لكن المحاضرات الأولى بكلية الاقتصاد لم تشدنى، وبخاصة محاضرة د. رفعت المحجوب، الذى ما إن يقف أى طالب ليناقشه فيما عرضه من آراء حتى يعاجله دون تريث قائلا: اجلس! لا تخلط! وكان هذا هو الرد الذى تلقاه زميل لى بالمدينة الجامعية واستفزنى إلى المناقشة توضيحا لفكرة هذا الزميل. ولكن ما إن بدأت أشرح وجهة نظرى حتى سدد إلىَّ لكمة خطافية سمجة: اجلس! لا تخلط! فكان هذا سببا آخر لكراهيتى الاستمرار فى الكلية. وعندما كبرتُ وتولى د. المحجوب رئاسة مجلس الشعب ووجدتُه يصادر آراء المعارضين بنفس الطريقة تذكرتُ أسلوبه المنفِّر فى قمع عقول الطلاب، وقلت فى نفسى: واضح أن الرجل لم يتغير، ولن! الطريف أن بعض الناس فى قريتى كانوا يفتخرون، فيما بلغنى، بأننى أجلس فى الجامعة بجوار بنت الرئيس جمال عبد الناصر، وأن عبد الناصر نفسه هو الذى يقوم بالإنفاق علىَّ لتفوقى. يا ليت! ما كانت العين قد بكت، ولا كنت قد تعبت أو شعرت بالغربة والوحشة فى القاهرة، على الأقل: فى بداية انتقالى إليها. ومع ذلك فهأنذا أضحك هذه المرة ولا تغلبنى الدموع، فالموقف كله موقف ضاحك مضحك بامتياز!
وكنت فى المدينة الجامعية أسكن نفس المبنى الذى يسكنه زملائى فى كلية الاقتصاد (وهو المبنى الخامس، وكان فراشه رجلا لطيفا طيبا هادئا يحبنا) بناء على أننى فى الأصل واحد منهم رغم تحويلى لأوراقى إلى كلية الآداب (قسم المشايخ والفَتَّة)، فتكونت بينى وبين بعضهم صداقات استمرت لوقت طويل، وبعضها لا يزال قائما، وإن خَفَّتْ لقاءاتنا بطبيعة الحال لافتراق الطرق وانشغالات الحياة. وكانوا حريصين فى ذلك الوقت على شراء "أهرام" الجمعة ليقرأوا "بصراحة" للأستاذ هيكل، الذى كنت أستغرب حرصهم على قراءة ما يكتب رغم وضوح انحرافه عن قول كلمة الحق وتفانيه بالحق والباطل فى الدفاع عن جمال عبد الناصر، الذى شرعت أبتعد عنه ولا أطمئن إليه ولا أطيق استبداده.
وذات جمعة قلت لهم: انظروا إلى "بصراحة" اليوم: كيف يقيم هيكل مقاله كله من أوله إلى آخره على الرقم 3: فالعوامل التى أدت إلى وقوع الأمر الذى يتحدث عنه ثلاثة، والموانع التى كانت تقف فى طريقه ثلاثة، والأسباب التى أبطلت فعل هذه الموانع ثلاثة، والنتائج التى تحققت جراء تلك العوامل ثلاثة... وهكذا. هل يعقل أن تكون الحياة بهذا التناسق والتناغم، وبخاصة فى أمر معقد كهذا؟ ألا يدلكم هذا على أن الرجل لا يكتب من واقع الحياة، بل من تصنعات خياله وأنه يدلف إلى مقاله بفكرة أعدها مسبقا؟ لكن على من تنشد مزاميرك يا داود؟ ورغم ذلك فقد اقترحت، منذ نحو سنة، على أحد طلابى، وهو صحفى بـ"الأهرام"، أن يتخذ من هيكل ومقالاته وأسلوبه موضوعا لدراسة الدكتورية، وخططنا معا المنهج والطريقة اللذين سيتبعهما فى كتابة أطروحته. وهو ما قد يدل، إذا أردت أيها القارئ الغالى، على أننى لست سيئا تماما، إذ لا أزال أتمتع ببعض الموضوعية التى تجعلنى أتجاهل موقفى من واحد كهيكل وأقترحه موضوعا للدكتوراه لواحد من طلابى فى قسم اللغة العربية وآدابها.
ويقتضينى الحق أن أقول إننى تمتعت مع هؤلاء الزملاء بصحبة ممتازة، إذ كانوا من خيرة شباب مصر علما وانفتاح أفق وكثرة قراءة وعمق تفكير وشعورا وطنيا، مضافا إلى ذلك لدن بعض منهم الاستقامة الأخلاقية، والتدين المستنير. وقد استفدت أيما استفادة من هذه الصحبة، وكانت لنا مناقشات لا تنتهى: فى مطعم المدينة، وفى الغرفة التى نسكنها منها، وفى الشارع حيث كنا نتمشى فى كثير من الأحيان بعد العصر من حى بين السرايات حيث تقوم المدينة الجامعية إلى التحرير، وأحيانا إلى العتبة، ومرة إلى حى الحسين ذاته. كل هذا ونحن منهمكون فى الكلام فى السياسة والدين والفلسفة والمشاكل العاطفية.
ومما لا أزال أذكره حتى الآن تلك المناقشة التى دارت بينى وبين زميلى صلاح أبو النجا، الذى أحيل بُعَيْد ثورة يناير المجيدة إلى المعاش، وكان موظفا مرموقا فى رئاسة الوزراء، وكنا فى ذلك الوقت مارَّيْن أمام حديقة الأورمان فى جولتنا المعتادة إلى التحرير، حول كتاب "سيرتى الذاتية" لبرتراند راسل، الذى كانت ترجمته طازجة فى ذلك الحين. وكان محور المناقشة هو: ما مصير راسل يوم القيامة؟ هل سيدخل النار بوصفه غير مسلم أم ماذا؟ وكان رأيى، بناء على ما كنت أجهله عنه فى ذلك الوقت، أنه لا يعرف الإسلام، أو على الأقل: لا يعرفه كما ينبغى، إذ هو بريطانى، فلن يعرفه إلا من المستشرقين المعادين له، فكيف يعاقبه الله تلك العقوبة على أمر خارج عن نطاق وسعه؟ هل كنت قرأت آنذاك ما كتبه الشيخ شلتوت فى تفسيره للآية 115 من سورة "النساء": "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"، التى تقول كما هو واضح إن من يعاقَب على الكفر برسالة محمد عليه الصلاة والسلام هو من تبين له الحق من الباطل ثم أصر على العناد وإنكار الحق والكفر برسالته عليه السلام رغم ذلك، وهو ما يفهم منه أنه إن لم يتبين له الحق فعذره قائم، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها كما تردد مرارا فى القرآن المجيد؟ ربما. فإذا كان الأمر كذلك فأغلب الظن أننى كنت أَصْدُر فى رأيى هذا عن الآية الكريمة. أما زميلى فكان رأيه أن الله لا بد أن يهدى من أراد بلوغ الحق، لا محالة. لكننى رددت عليه بأنه ليس شرطا أن كل من طلب الحق أدركه. وأستطيع فى هذا السياق الآن أن أشير إلى حديث الرسول الرحيم الذى يقول إن الإنسان قد يجتهد ويخطئ فى اجتهاده، بما يعنى أن طلب الحق لا يبلِّغ صاحبه إياه بالضرورة.
وبعد عدة عقود تصادف أن عثرتُ على المشباك (الإنترنت) بمقال راسل: "لماذا لست مسيحيا؟" مترجما إلى العربية، فبحثت عن أصله الإنجليزى حتى وجدته، ثم كتبت دراسة طويلة عنه أناقش مبرراته فى الإلحاد وأفندها واحدا واحدا، ولكن باحترام تام، إذ كان الرجل مناصرا للقضية الفلسطينية، وهو ما شفع له عندى. وكنت قد اشتريت من لندن أواخر سبعينات القرن الماضى كتابه: "تاريخ الفلسفة الغربية"، ومنه يتبين أنه كان على علم بالإسلام خَوَّله كتابة فصلٍ ضافٍ عنه. كما علمت، حين كنت أستعد لوضع دراستى عنه، أنه كان له خال مسلم. عجيبة! وهكذا ترى، يا قارئى الكريم، كيف تترابط خيوط حياتى ترابطا وثيقا، إذ ما من قضية شغلتنى فى صباى أو شبابى إلا كان لى عودة إليها، وأحيانا دراسة عنها، فى كهولتى وشيخوختى.
وكنت فى المرحلة الثانوية أستعير ما أقرؤه من كتب من مكتبة المدرسة، وكانت مكتبة غنية وأنيقة. وما زلت أذكر الأستاذ الذى كان يتولى الإشراف عليها، وكان اسمه مختار، وكان يرحب بى كلما رآنى بعدما سلمته المقال الذى اشتركت به فى مسابقة من مسابقات المدرسة الثقافية، إذ أبدى دهشته من قدرتى على استخدام ألفاظ مثل "الأسفار"، وعدها إنجازا كبيرا، وصار يحدث بها المدرسين أمامى. وأعترف الآن أن معنى الكلمة لم يكن محددا فى ذهنى تمام التحديد. والطريف أن أخبار المسابقة قد توقفت، ولم يعلنوا نتيجتها ولا أَعْطَوْا أحدا ممن تقدموا إليها جائزة. كما أذكر أنهم كانوا يعطوننا فى المكتبة كراسة نجيب فيها على بعض الأسئلة عقب قراءتنا أى كتاب عن الأسلوب الذى صيغ به والأفكار التى يتضمنها ورَأْينا فيه وما إلى ذلك. وبصراحة كانت مثل تلك الأسئلة تربكنى. وما زلت حتى الآن أجد ضيقا وصعوبة إذا ما سئلت مثل تلك الأسئلة المحددة التى يراد من الواحد أن يجيب على كل منها فى سطر أو سطرين.
ومما قرأته من كتبٍ آنذاك "سارة" للعقاد وبعض عبقرياته وعدد من الروايات المترجمة. ومن الروايات المصرية القليلة التى قرأتها وقتئذ رواية "فديتكِ يا ليلى أو آثار على الرمال" ليوسف السباعى. ولا أدرى السبب فى أن بطلها قد أوحى لى أنه فريد الأطرش. وقد رأيت أحد زملائى يقرأ روايات محمد عبد الحليم عبد الله، التى لم تشدنى فى ذلك الحين، إذ لم أبدأ قراءته إلا فى الجامعة، وأظن أن أول عمل قرأته له هو "شمس الخريف"، الذى طالعته فى شقة أسرة صديقى المرحوم أحمد الزاهد بشارع النحاس بطنطا، والذى نزل بلسما على جراح نفسى فى تلك الفترة، فقد تقمصتُ شخصية الشاب البطل وأخذت أهيم معه فى عزبة خورشيد القريبة من الإسكندرية بين الحقول والنباتات والطيور والفلاحين البسطاء، الذين ذكّرونى بأهل قريتى. وقد صار هذا الزميل، واسمه أحمد، فنانا تشكيليا، وكانت موهبته واضحة للعيان منذ كان معنا فى الأحمدية الثانوية، وأظنه من مركز السنطة. ولعلى قابلته مرة فى شارع رمسيس قريبا من العباسية أيام كنت معيدا، وفهمت أنه يعرض لوحاته فى مرسم هناك. ثم لم أسمع به ولم أره بعد ذلك قط.
كذلك كنت أشترى فى المرحلة الثانوية ما يتيسر لى شراؤه من كتب، وغالبا ما كانت كتبا مستعملة مما يباع على الأرصفة، ومنها كتاب "فن الأدب" لتوفيق الحكيم، الذى اشتريته بعشرة قروش من تاجرٍ رصيفىٍّ عند مسجد السيد البدوى. ومن تلك الكتب أيضا معجم فرنسى عربى طلابى استخدمته كثيرا فى ذلك الحين، وإن لم أتنبه إلى أنه معجم صغير لا يصلح إلا فى نطاق محدود. ولهذا كنت أستغرب كلما بحثت عن معنى كلمة فيه ولم أجدها، غير دار أنه قاموس فقير. وقد استعنت به مع ذلك فى قراءة بعض الروايات الفرنسية، وأهمها رواية هكتور مالو (Hector Malot): "Sans Famille"، وهى رواية حزينة عن صبى يتيم يتنقل من مكان إلى مكان مع موسيقار متجول، وينام فى العراء ويقاسى مصاعب الحياة مقاساة شنيعة، مما كان يحز فى قلبى ويكاد يبكينى. وظلت مكتبة فافا مع ذلك موئلا هاما أقصده للحصول على الكتب والروايات بثمن زهيد. وبطبيعة الحال لا ينبغى أن ننسى الكتب التى كنت أستعيرها من زملائى.
ومن غرامى بالقراءة أننى كنت إذا ما قصدت دار الخيالة وحدى اصطحبت كتابا معى أقرأ فيه قبل بدء العرض وفى الاستراحة بين الفلمين، فإذا ما بدأ الفلم أغلقتُ الكتاب وبدأ لون آخر من المتعة هو متعة العيش مع أحداث الفلم وأبطاله على الشاشة. وهو نفسه ما كنت أصنعه أحيانا حين أذهب إلى ملعب الكرة فى سوق القرية قبل زملائى، إذ كنت آوِى إلى حقل من حقول الذرة على حدود السوق أقرأ فى الكتاب الذى معى. حتى إذا حضر زملائى وبدأت التقسيمة وضعت الكتاب فى سيّالتى، وهى الجيب الجانبى الكبير، وخلعت جلبابى ونزلت أجرى مع الجارِين. وكنت من اللاعبين البارعين فى فريق القرية، وإن لم أستمر طويلا نظرا إلى وقوع هزيمة 1967م، التى خيمت بظلالها السود على لاعبى قريتنا، فهجرنا كلنا تقريبا اللعب رغم أنه كانت هناك قرى كثيرة ظلت تمارس الكرة بعد الهزيمة.
ومما أذكره من التطورات اللغوية التى حدثت لى فى المدرسة الأحمدية أننى استعملت فى أحد مواضيع الإنشاء بالسنة الثانية الثانوية عبارة "بالعافية"، أى بالقوة والإكراه، وهو ما لم يعجب أستاذ اللغة العربية، وكان رجلا فاضلا هادئا لا يرتفع له صوت ولا ينفعل إلا فى النادر، فصححها لى إلى "بالقوة". إلا أننى لم أقتنع بالتصحيح، إذ بدا لى أن الكلمتين شىء واحد، فضلا عن أن عبارة "بالعافية" عبارة مشهورة ترددها الناس جميعا. لكنى عندما كبرت اقتنعت بما قاله الأستاذ الفاضل. بيد أننى عدت فى الأيام الأخيرة أفكر فى الأمر من جديد قائلا لنفسى: فعلا لا يوجد فرق بين "بالقوة" و"بالعافية". نعم، العافية هى الصحة الجيدة، ولكن أليست الصحة الجيدة هى القوة، أو لونا منها على الأقل، أو أن القوة تستلزم الصحة الجيدة؟ فلم إذن لا يصح أن نقول: "بالعافية" فى معنى"بالقوة"، على الأقل: مجازا مرسلا؟ صحيح: لم لا؟
كما وقع لى شىء غريب فى آخر السنة الثانية الثانوية، إذ صرت، كلما قرأت كتابا، أجد صعوبة بالغة فى ربط كلمات أية جملة فيه كى أخرج منها بمعنى. لم تكن المشكلة فى الكلمات، بل فى الربط بينها، فكأن عقلى مسبحة فقدت خيطها فتبعثرت حباتها شَذَرَ مَذَر. وحاولت كثيرا أن أتغلب على هذا العَرَض الـمَرَضِىّ المزعج، ولكن دون جدوى. فماذا فعلت؟ فأما بالنسبة للكتب غير المقررة فقد صبرت وتحملت رغم الضيق الشنيع الذى كان يسببه هذا الأمر لى، وأما بالنسبة للكتب المقررة فقد لجأت إلى الكتب الخارجية وأخذت أحفظ التلخيصات التى توردها فى آخر كل درس. وبهذه الطريقة نجحت وكنت أول القسم الأدبى بالمدرسة. وقد ظلت هذه المشكلة معى وقتا طويلا خلال العام الدراسى التالى، فكنت أعانى من تتبع ما يريد العقاد أن يقوله فى "عبقرية الصديق" التى كانت مقررة علينا ذلك العام، وأنا الذى أقرأ العقاد وآلفه منذ عدة سنين ولا أجد فى فهم ما يكتبه صعوبة. لقد كانت محنة، لكن الله كعادته معى قد سَلَّم، وكان رءوفا بالصبى المسكين، فلم يدعه يرسب، بل وضعه على رأس المدرسة.
وفى الإجازة الفاصلة بين السنة الثانية والسنة الثالثة الثانوية وقع تطور كبير فى شخصيتى، إذ كنت مع زميلى المرحوم أحمد الزاهد وسائر أفراد أسرته فى عزبتهم التابعة لقرية سيدى غازى شمال كفر الشيخ حيث قضينا وقتا هانئا، ثم عاد بعضنا إلى شقة الأسرة فى شارع الشيخة صباح عند تقاطعه مع شارع النحاس بطنطا. وفتح أحدنا التلفاز ليلا، وكانت هناك مسرحية لا أتذكر اسمها الآن، وفيها ينام بطلها فيرى نفسه وقد وقع فى مأزق اجتماعى جراء غلطة أخلاقية ارتكبها، وهو يظن نفسه يقظان، فلما قام من النوم تنفس الصُّعَداء أن الأمر ليس إلا مناما لا حقيقة له، لكنه رغم ذلك قد أخذ على نفسه عهدا ألا يحيد عن سواء الصراط. ولم أكد أنتهى من مشاهدة المسرحية حتى قمت وتوضأت وصليت وعاهدت نفسى ألا أؤجل من الآن فصاعدا أية صلاة لما بعد وقتها. ولم أكن، بحمد الله، أقترف شيئا مما يصنعه بعض الشباب، بل كان الأمر يتعلق بتأدية الصلاة فى وقتها ليس غير. وهو ما حرصت ولا أزال أحرص عليه حتى الآن لدرجة أننى فى العالم التالى كنت أكون مثلا مستغرقا مع زملائى هؤلاء فى كرة القدم تحت بيت زميلى هذا رحمه الله رحمة واسعة، فأسمع الأذان فأستأذن من زملائى الذين يلعبون معى، وآخذ نَفْسِى إلى مسجد الشيخة صباح القريب لأصلى ثم أعود وأستأنف اللعب. كما أننى منذ ذلك اليوم لم يحدث قط أن أَجَّلْتُ بإرادتى صلاة الصبح لما بعد الشروق، اللهم إلا إذا راحت علىَّ نومة. وحتى فى هذه الحالة كنت أشعر بالتأثم الشديد لعدة أيام رغم معرفتى بما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم من أن القلم قد رُفِع عن ثلاثةٍ منهم النائم حتى يستيقظ. لقد كنت أَعُدّ القيام من أحلاها نومةً لصلاة الصبح قبل الشروق ولو بدقائق ضربا من التحدى لم أكن أسمح لنفسى بالفشل فيه. أما إذا استيقظت قبيل الشمس بما لا يسمح لى بالوضوء واللحاق بالصلاة فى وقتها فكنت أجتزئ بالتيمم وأصلى فى موضعى كيلا يفوتنى الوقت.
وحين تزوجتُ سارت زوجتى معى على الالتزام بالصلاة أداءً لا تتركها أبدا وهى تقدر على ذلك، رغم أننا لا نسارع دائما إلى الصلاة فى أول الوقت، بل المهم هو ألا نؤخرها إلى وقت الصلاة التالية بالنسبة للظهر والعصر والمغرب والعشاء، فيما عدا حالات السفر كما هو معروف، أو إلى ما بعد شروق الشمس فى حالة صلاة الصبح كما قلت آنفا. وبالمناسبة فإننى أَقْصِر الصلاة وأجمعها الآن فى أى سفر طال أم قَصُرَ طبقا لما كان يفعله الصحابة متى ما غادروا المدينة المشرفة دون الالتزام بشرط الثمانين كيلومترا الذى يقول به بعض الفقهاء. ومن رأيى الأخذ بالرخص متى كانت متاحة، إذ من شأن ذلك تشجيع الناس على دوام تأدية الفرائض وعدم الكسل عنها. ذلك أنه من الأهمية بمكان أن تبقى علاقة الناس بربهم قائمة على أى وضع حتى لو كانت مجرد شعرة نحيلة، فهى خير من انقطاعها تماما والانصراف إلى إبليس واللجاج فى المعصية. ومن دَيْدَنى التذكير دائما برحمة الله سبحانه وتعالى ردا على من يصورونه عز وجل باطشا لا يرحم المقصِّرين والمخطئين مما يترتب عليه تنفير الناس من الدين وتيئيسهم من صلاح الأحوال وتشجيع الشيطان على الوسوسة لهم بأن الأمور ما دامت سيئة على هذا النحو ولا أمل فى رحمة الله فما الداعى للعنت ووجع الدماغ الذى لن يؤدى إلى خير؟
ومن الأمور التى ينبغى أن أسوقها هنا فى السنة الأخيرة لى بالمرحلة الثانوية تلك الأيام الثلاثة التى قضيتها فى هم مقيم، إذ كنت أسير فى شوارع طنطا فى عز النهار فتبدو الدنيا لى وهى تقطر سوادا وكآبة. لقد نبتت فى ذهنى بعض الخواطر الرديئة التى لا تليق بجلال الله، ولم أستطع لقلة حيلتى وضعف فهمى للدين فى ذلك الوقت مواجهة تلك الحالة الغريبة التى لو حدثت لى الآن ما وقفت أمامها ولا باليت بها بالة ولضحكت على سخف الأمر كله. لكن ماذا تقول فى صبى عمره ثمانية عشر عاما لم يتعمق التعمق الكافى فى الدين؟ بيد أن الأمر قد انعطف انعطافة حادة وبهيجة عندما كنت أسير فى فناء المدرسة فرأيت أستاذ اللغة العربية الذى كنا جميعا نحبه ونكبره ونقبل على حصته بلهفة وفرحة، الأستاذ سيد أحمد أبو رية، فأقبلت عليه وترددت وأنا أفض له مغاليق قلبى متصورا أنه سوف ينهرنى على هذه الخواطر التى لا تليق. لكنى بُوغِتُّ حين رأيته، بعد انتهائى من رواية محنتى، يبتسم لى ويأخذنى فى كنفه ويمشى معى وهو يطمئننى بأن هذا دليل على قوة إيمانى. معقولة؟ معقولة ونصف! لقد مر الإمام الغزالى بحالة أشد من هذه حين انتابه الشك فى الدين، لكن كان هذا الشك هو سبيله إلى تمحيص عقيدته وإرسائها على صخرة صلبة لا تتزعزع أبدا. يعنى أنا يا أستاذ لست آثما؟ أبدا يا عم إبراهيم لستَ آثما ولا حاجة. اطمئن إلى دينك، فليس عليه غبار. رحم الله أستاذى العظيم الذى لم يمر علىَّ أستاذٌ مثلُه علمًا وفهمًا واتساعَ أفقٍ ورحمةً وعطفًا.
لقد توثقت علاقتى بالرجل الكريم بعد ذلك وصرت أتردد على بيته فيستقبلنى أحسن استقبال، بل كنت أنام عنده بعد تركى طنطا إلى الجامعة وأقوم صباحا فأجده يحضر لى أحيانا الفَطُور فى السرير، أنا الذى لم أتعود على هذا التدليل، أو نأكل جميعا معا. رحم الله أستاذى الرحمة كلها وألحقنى به فى الجنة كى أستمتع بصحبته هناك كما استمتعت بها هنا على الأرض حيث كنا نتناقش فى كل شىء فى غرفة مكتبه بالمنزل أو فى شرفة شقته الرحيبة المطلة على حديقة المنزل التى تتخذها المدرسة الموجودة بالشقق الباقية فى البيت فناء لتلاميذها، أو نجوب شوارع طنطا معا أحدّثه عن كل ما يتعلق بى، وبخاصة أمورى فى الجامعة وشؤونى العاطفية، فألقى منه دائما ما يخفف عنى ويمتعنى ويوسع أفقى. وكان فوق ذلك ذا أسلوب أدبى جميل، فقد أذكر أنه بعث لى برسالتين ردا على خطابين منى أبثه فيهما من القاهرة آلامى وأتراحى، فكتب يرفه عنى بلغة تشبه لغة طه حسين. ولشديد الأسف ضاع الخطابان مع ما ضاع من أشيائى الكثيرة على مدار حياتى.
ولا تزال ترن فى ذاكرتى حتى الآن سؤالى إياه عن الصورة العجيبة التى أوردها نزار قبانى فى قصيدة "أَلْف أَهْوَاه"، التى كانت تغنيها كثيرا فى تلك الأيام نجاة الصغيرة:
ماذا أقول إذا راحت أصابعه تلملم الليل عن شعرى وترعاه؟
أى ماذا تقول لحبيبها؟ ذلك أن الصورة، على حلاوتها، غير واضحة المعنى، فكان جوابه أن المقصود: "تلملم شعرى الذى هو كالليل". ورغم أنى لم أقتنع بهذا التوجيه تماما فقد سكتُّ، لا لخجل من أستاذى العظيم، فلم يكن بيننا أى تحرج، فضلا عن أننى كنت طويل اللسان، لا أقصد بذلك السفاهة، بل أقصد الجرأة فى التعبير عن رأيى، وإنما لأنى لم أجد توجيها آخر أشد وجاهة. ومع الأيام ظننت أنه قد يصح أن نقول إن الفتاة تقصد أن يد حبيبها تشع أضواء وأفراحا وتقشع عن شعرها الظلام وترعاه حبا وحنانا. أما إذا لم يعجبكم، أيها القراء، هذا التوجيه أيضا بعد أن لم يعجبكم قبلا توجيه أستاذى، فاخبطوا، لا رأسكم أنتم، بل رأسى أنا فى أقرب جدار، وفداكم رأسى وحياتى كلها. المهم ألا تغضبوا، ولا يكن ذلك "الفلتان" المسمى: "نزارًا القبانى" سببا فى تعكير صفو العلاقات بيننا، والميت أبقى من الحى كما تعرفون. ويا لله لهذا الإعجاز الإلهى المتمثل فى كلام، مجرد كلام، نسمعه فيرتد إلينا الماضى حيا نابضا بل متوترا، وكأننى ذلك الصبى الذى كان يدور فى شوارع طنطا فى منتصف ستينات القرن المنصرم، فيأيته صوت نجاة من كل المقاهى والدكاكين حوله تشدو بهذه الأغنية البديعة، التى كان يقول لنا زميلنا محمد الجروانى، رحمة الله عليه، إن اسمها: "أَلِفَ هَوَاه"، ويصر على أنها لا يمكن أن تكون "أَلْفُ أهواه". غفر الله له!
وسامحونى على ما سأقوله الآن وأنا أستمع إلى نجاة الصغيرة أمامى فى الكاتوب تغنى القصيدة وتعيد وتزيد فى قولها: "هنا جريدته فى الركن مهملةٌ"، إذ لا أملك نفسى من الرد عليها ضاحكا حتى تسرع فتنتقل إلى البيت التالى: "بسيطة! نظفى بها لمبة الجاز. خلِّصينا، هداك الله، وهاتى البيت الذى بعده"! كذلك اكشتفت اليوم السبت 18/ 5/ 2013م اكتشافا مضحكا لم أملك نفسى إزاءه من القهقهة رغم سماعى فى نفس الوقت نجاة الصغيرة وهى تشدو بأغنية "ع الحلوة والمرة"، التى غناها من قبلها عبد الغنى السيد. والواقع أن غناء نجاة لها هو الألم والمعاناة مجسدين، إلا اليوم، فما إن اكتشفت أنها إنما تغنى هذه الأغنية فى فلم "بنت البلد" (1954م)، واسمها فيه بدرية، وكانت تغنيها لحبيبها وابن عمها إسماعيل يس، الشاب الصعيدى المعمم بشال مفتول كرِوَاسة الجاموسة عندنا بالقرية، والذى تزوج فتاة فرنسية وتركها هى لشماتة الشامتين، حتى هرب ما كنت أشعر به من آلام فى كل مرة أسمعها فيها. لقد كانت الألم يعتصر قلب نجاة، وهى تشدو بالأغنية الرائعة، ممسكة بصورة حبيبها ذى الفم الواسع الذى يمكن أن يبلع الدنيا كلها ويفيض منه جزء كبير، وهى تعاتبه وتبكى بكاء ملتهبا لعل قلبه يحن ويرجع إليها، ثم تغافل المخرج أحيانا وتنظر إلىَّ وكأنها تستنجد بى للتدخل بينها وبين حبيبها والشفاعة عنده وإصلاح ذات بينهما، غير عالمة أننى لا أصلح لهذه المهمة بالذات لأن القهقهة تغلبنى على نفسى، ولا يصح أن أذهب فى مثل هذه المهمة العاطفية الاجتماعية الحساسة وأنا أضحك وأقهقه، وبخاصة وأنا أرى أمامى بعض النسوة الصعيديات الخنشورات قد وقفن خلفها يساندنها عاطفيا وغنائيا قائمات بدور الكورس، وإن كن فى الحقيقة شامتات بها، إذ لا أظن أن ثمة فتاة يمكن أن تتعاطف فى مثل هذا الموقف مع فتاة مثلها. والحق أن هؤلاء الفتيات لا يصلحن إلا للَّطْم والتعديد والصُّوات وتلطيخ وجوههن ورؤوسهن بالطين والنيلة، أما الكورس فكلا وألف كلا! يا نجاة، حرام عليك! ألم تجدى إلا "سُمْعَة" كى تقعى فى غرامه، ثم تزيدى على هذا بأن تمسكى بصورته وتنزلى عياطا وبكاء وغناء ملتاعا؟
ومما يفد على ذهنى الآن بشأن موضوع الغناء ما دار بينى، ذات مساء بين المغرب والعشاء فى مسجد السيد البدوى بطنطا حيث كنت أستذكر وأنا فى السنة الثالثة الثانوية، وبين الشيخ الديب أحد وعاظ المحافظة عن حكم الغناء، فقد كنت وما زلت أحب الاستماع إليه وإلى قارئى القرآن، فكان جوابه بسيطا وعبقريا فى آن: أن الأغانى كلام. فإذا كان كلام الأغنية سيئا فهى سيئة، وإلا فلا. وأتصور أنها فتوى بسيطة وواقعية وتصيب المحَزَّ كما يقولون، وإن كنت أعى أن فى الغناء عنصرا آخر إلى جانب الكلمات ينبغى التحرز فيه، وهو الطريقة التى تؤدى بها المغنيات أغانيهن، فالمفروض أن يبتعدن عن التكسر السخيف المثير. وبطبيعة الحال هناك من يرى أن الاستماع إلى الغناء حرام. وهؤلاء أحرار فيما يَرَوْن، ولهم مطلق الحق فى ألا يستمعوا إليه ما داموا يستحرمونه، على ألا يصل الحال إلى الصدام مع مخالفيهم فى الرأى دون داع، فالأمر أمر فهوم وأذواق مختلفة.
وبعض من ينفرون من الغناء ويحرّمونه يتصورون أنه مظنة إثارة الشهوة، وهذه تقود إلى ارتكاب الزنا، غير دارين أن الأغانى بوجه عام لا علاقة لها بالإثارة الجنسية، بل قد يبكى مستمعها فى بعض الحالات شجنا ووجدا، لا مع الأغانى العاطفية وحدها، التى لا تحتوى فى الغالب إلا على ألفاظ الحرمان والألم دون أى لفظ موقظ للشهوة، بل لدى استماعه إلى الأغانى الوطنية أيضا، إذ تثير وجده وتهيج أشواقه نحو الماضى والطفولة والشباب أيام كان كل شىء بكرا طازجا لم يتلوث بعد كل هذا التلوث، وأيام كانت الآمال الوطنية والقومية تحلق فى الفضاء وتصل إلى السماء السابعة قبل أن ينكشف الأمر عن زيف كل شىء فى ذلك الحين وأن الأمر لم يكن يتعدى الكلام الكبير الفاضى والخطب الرنانة التى لا تقدم ولا تؤخر. وإذا ما دخل الإنسان اليوتيوب ورأى تعليقات المشاهدين على الأغانى العاطفية لوجد أنها كلها تعليقات حزينة مفعمة بالأسى، وبخاصة على الصبا والشباب وأيامهما التى انصرمت ولم يعد إلى عودتها من سبيل.
ومعلوم أن هناك أغانى اجتماعية للزوج وللولد وللأخ والأخت والأم، وعن النجاح فى الامتحان، وعن دخول الجامعة، وعن تطلع الصغار إلى ما يطمعون فى أن يكونوا عليه حينما يكبرون، وعن السعى على المعاش والرزق الحلال، فضلا عن الأغانى الدينية، إلى جانب أغانى التسلية والأغانى الفكاهية والأغانى الأخلاقية وأغانى الطبيعة وأغانى الأطفال. وهذا كله لا علاقة له بالمرأة والتعلق بها، وهذا إن كان التعلق بالنساء فى حد ذاته حراما، وما هو بحرام، وكيف يكون حراما وقد أكد القرآن أنه أمر فطرى مركوز بل مغروز فى القلب غرزًا لا فكاك لأى إنسان منه؟ بل الحرام هو
الزنا وما يقود إليه، وإلا فالعواطف ليست فى أيدينا حتى نحاسَب عليها ونعاقَب بسببها، وهو ما لا يمكن أن يكون، فإن الله لا يكلف، دعك من أن يعاقب، نفسا إلا بناء على وسعها.
وتصوير الأمر وكأن الإنسان مجرد شهوة جنسية، فما إن يسمع أغنية من الأغانى حتى ينهض مسعورا وينتهك عِرْض أية امرأة تقابله فى الطريق، هو تصوير ساذج. نعم هناك غناء فاجر فى الكباريهات وبعض الأفراح وما أشبه، والمغنية فى هذه الحالة لا تغنى بل تشعل الغرائز بتأودها وتراقصها وعريها وغنجها حسبما نرى فى الأفلام والتلفاز، لكنْ ليس هذا هو الغناء الذى نحبه، بل ليس هو الغناء مجردا. إنما هو غناء وإثارة شهوات، بل قل إنه إثارة شهوات أولا وقبل كل شىء، وما مصاحبة الغناء له إلا ذَرٌّ للرماد فى العيون. وهذا اللون من الغناء هو الذى يخطر على بال من يَرَوْنَ الغناء حراما. أما الغناء ذاته فهو استجابة فطرية لما يشعر به الإنسان فى قلبه وخياله وعقله من مشاعر وأفكار وتصورات يريد أن يعبر عنها أو يسمع من يعبر عنها ويغنيها بصوته الجميل على إيقاع آلة موسيقية تزيد الصوت الجميل جمالا على جماله. وهل نحن أقل من الطيور التى تغنى على أغصانها وفى أوكارها وفى أجواز الفضاء استجابة لجمال الطبيعة من حولها، وبخاصة فى فصل الربيع؟ أم يريد بعض المتنطعين أن يحيلوا حياتنا جحيما لا يطاق، وكأننا قطع من الجماد، الذى لا يشعر ولا يفكر ولا يخال؟
من حق من يرى الغناء حراما أن يحرمه على نفسه، أما أن يفرض ذلك على سواه فليس له الحق فى ذلك. وبهذا يتعايش المحبون والكارهون للغناء فى سلام وتفاهم واحترام متبادل، وتدور عجلة الحياة فى انسجام. وكم وقفتُ إزاء هذه المغنية أو تلك وهى تشدو بقصيدة دينية تستجيش منا كل إحساس نبيل نقى، متسائلا: أيمكن أن يكون قلب تلك المغنية قد خلا تماما من كل أثر للإيمان؟ إن كثيرات منهن يشتهرن بما هو بعيد كل البعد عن التدين بل بما يناقضه، لكن هل يعقل أن مثلها، وقد تربت فى بيئة مسلمة وكثيرا ما سمعت القرآن وأنصتت فى بعض الأحيان إلى بعض المواعظ والدروس الدينية، لا يمكن أن تشعر بأى شعور دينى؟ إننى كثيرا ما تغلبنى الدموع وأنا أنصت مثلا إلى قصيدة "قل: ادع الله"، التى تغنيها نجاة، وأستغرب كيف قد يظن الواحد منا أن نجاة إنما تغنى فقط بدافع الشهرة الفنية ليس إلا دون أن يكون فى فؤادها أى خشوع أو رغبة فى رضا الله، ولو فى ركن من أركان قلبها. والله أعلم!
وهناك كتاب أغان ومطربون وملحنون معروف عنهم التدين وحب الإسلام، منهم أحمد صدقى، الذى حج بيت الله الحرام وعمل عمرة مرات متعددة، وكان يصلى ويصوم كثيرا، ومحمد قنديل، الذى ذكر الأستاذ ميكى ماوس فى حديث تلفازى له أنه كان يصلى مع لا أدرى مَنْ مِنَ الملحنين حين يذهب إلى بيته ليحفِّظه اللحن. ورأيت ذات مرة الملحن حلمى بكر فى حلقة من حلقات التلفاز التى يحلل فيها الأغانى والألحان للمستمعين يمسح دموعه، التى خانته ونزلت رغما عنه وهو يستمع إلى أغنية أسمهان الشاهقة الجمال والجلال عن المحمل النبوى. ذلك أن الأغنية فعلا مشجية مبكية رغم أن الرجل لم يشتهر بتدين. وأنا لا أذكر أننى سمعتها إلا وجاشت نفسى وأرادت دموعى أن تفر من مآقىَّ لولا مغالبتى لها. وبالمناسبة فقد كانت أسمهان معروفة بسلوكياتها المثيرة للأقاويل، علاوة على ما اتُّهِمَتْ به من عمالتها لبعض القوى الأجنبية مما انتهى بها فى آخر المطاف إلى اغتيالها إغراقا فى البحر حسبما تقول بعض الروايات. لكن هذا شىء، وكون الأغنية بصوتها العبقرى مشجية مبكية شىء آخر. كما قرأت عن عبد اللطيف التلبانى، فيما كُتِب عنه من مقالات عقب ميتته المأساوية عام 1989م، أنه رحمه الله كان دائما ما يمد يد المساعدة للطلاب المحتاجين. ولدينا كذلك المرحوم عبد الفتاح مصطفى، الذى كتب لنا طائفة من الأغانى والقصائد المبدعة، ولحنها وغناها كبار الملحنين والمطربين، وكان متدينا وأطلق لحيته فى أواخر عمره أيام لم تكن اللحية قد انتشرت انتشارها هذه الأيام حتى إن ضباط الشرطة وأمناءها يتظاهرون ويرفعون على وزير الداخلية الدعاوى كى يتركهم يربون لحاهم، فى الوقت الذى يتقاعس فيه رجال الشرطة عن تأدية واجباتهم التى يأخذون عليها مرتباتهم، وقد ضِرْتُ أنا شخصيا ضيرا كبيرا، وما زلتُ، جراء هذا التقاعس.
وكانت هدى سلطان قد عادت فى آخر حياتها بعدما تحجبت بوقت طويل إلى تأدية بعض أغانيها بصوتها الذى كان لا يزال يحتفظ بشىء كثير من نضارته رغم السن العالية. وكانت تشعر بالبهجة العارمة وهى تتلقى تحية المستمعين وتستعيد ذكريات شبابها فى الحفل الذى شدت فيه بأغنية "إن كنت ناسى أفكّرك" حتى لقد ظننتُ أنها تبكى أو توشك أن تبكى. وآه لو عاد الشباب! لكنه للأسف لا يعود! وقد علق شخص اسمه رضا بدير على تسجيل الأغنية فى اليوتيوب قائلا: "الله يرحمك يا هدى زميلة العمر! عزفت معاها كتير على آلة الناى فى أعمال كتيرة". وبمناسبة هدى سلطان كنت فى طفولتى، حين أسمعها، فى أغنية "أول ما عْنِيه جات ف عيونى"، وهى تقول: "قتلونى يا بوى قتلونى"، أتصور أنها تغنيها من القبر بعد أن قتلها الجناة، وبخاصة أن فى الأغنية لوعة حارقة وشجنا باهظا، غير دارٍ أن القتلة هم عيون حبيبها. ولكن أنى لى فهم ذلك فى طفولتى الساذجة؟ وبالمثل هناك نجاح سلام، التى تحجبت هى أيضا، ولا تزال تغنى بحجابها بين الحين والحين. وغَنِيَّةٌ عن الذكر إفراج الحصرى (ياسمين الخيام)، التى ظلت تغنى رغم عودتها إلى الحجاب، الذى كانت قد خلعته زمنا، وذلك قبل أن تهجر الغناء كلية. والمعروف أن د. عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر الأسبق كان يشجعها على الغناء: النظيف منه طبعا، وناله هجوم شديد من بعض المجلات الدينية وقتئذ فيما أذكر. وقد اختتمت شادية حياتها الغنائية بأغنية تتضرع فيها من أعماق الفؤاد رغم أنها كانت قد عزمتْ قبلا على مغادرة الساحة الفنية: غناءً ومسرحًا وأفلامًا. وكان الشيخ محمد الغزالى يستمع أحيانا إلى الغناء فى المذياع، وذكر ذلك فى بعض كتبه مستشهدا ببعض الأغانى الخالية مما يعاب ويُذَمّ... إلخ. بل إنه، فى كتابه: "من معالم الحق فى كفاحنا الإسلامى الحديث"، ليرى أن حب الاستماع إلى الغناء هو جزء من الفطرة التى لا ينبغى ولا يمكن أن تحارَب، بل يحسن الاستفادة منه فى تجديد النشاط الهامد ومحاربة الإحساس بالملل وإيقاظ المشاعر الغافية ودعم الأخلاق القويمة واستنهاض همم العاملين ومساعدتهم على مواجهة الإرهاق والتعب وتحميس الناس للدفاع عن أوطانهم ودينهم بدلا من ترك الشباب يصغون إلى الأغانى الهابطة المستفزة للشهوات وأمثالها. مرة أخرى أنا أتحدث عن الغناء وحده، أما ما قد يصاحب الغناء من أمور خارجة عن الذوق واللياقة أو الخلق والدين فلا يدخل فى كلامى، ولست مسؤولا عنه.
ثم هأنذا أستمع إلى أغنية "فستان العيد"، التى يغنيها الثلاثى المرح مع جماعة من البنات الصغيرات، والتى لا أسمعها أبدا إلا وعدت من فورى على أجنحة الفن البديع إلى صباى حين كنت أسمع هذه الأغنية الرائعة دائما يوم العيد، فأتخيل سلوى حين كانت صغيرة تلبس فستان العيد الجديد والدنيا لا تسعها من الفرحة، ولا تريد أن تغادر موقفها أمام المرآة تتطلع فيها إلى فستانها الجميل، وكذلك حفيدتى لالة، التى لا أكف عن إطراء جمال فستانها الذى اشترته لها ماما بفلوس بابا، وأرى على وجهها علائم السعادة. فهل هناك "بنى أدوم" يمكن أن يرى فى تلك الأغنية إثما يردى صاحبه (مؤلفا وملحنا ومطربات، ومستمعا منحرفا فاسدا مثلى فوق البيعة) فى جهنم الحمراء؟ كل واحد حر، وقد خلقنا الله مختلفين، وخلق من البشر من لا يرتاح ولا يقرّ له قرار إلا إذا نكد على عباد الله المساكين، بينما ترى كثيرا من هؤلاء المنكّدين على غيرهم يعيشون دنياهم بالطول والعرض والتهافت المقيت والتدنى الذليل، وبالمخالفة التامة لما ينادون ويتفيقهون ويتنطعون به أمام الناس، وهو ما يجعلهم محط السخرية والتهكم والتشنيع والتصوير الكاريكاتيرى فى الأفلام والأغانى والمونولوجات والمسرحيات والروايات، وآخرها رواية "مولانا"، بغض النظر عن نية المهاجمين، وهل هم يحبون دينهم فعلا أو يهتبلونها فرصة لتسوية حساباتهم مع الدين نفسه متظاهرين بأنهم إنما يبغضون التنطع ويسخرون من التفيهق. أما نحن، عباد الله المساكين، فنؤمن برب كريم رحيم خلق عباده وسخَّر لهم الدنيا وخلق لهم أفراحا ومسرات حلالا زلالا ليس عليهم حرج فى هُفُوِّ أرواحهم إليها، وشرع لهم دينا يقوم على التيسير، ويكره التنكيد. آمنت بالله ربا، وبمحمد نبيا ورسولا ليس هناك نبى ولا رسول فى قامته السامقة، وبالإسلام دينا عبقريا ليس كمثله دين.
هذا، ولم أقل شيئا عما تحويه تلك الأغنية من القيم الإنسانية الجميلة كالفرحة التى أمرنا الرسول أن ندخلها على قلوب أهلينا فى العيد، وبخاصة الأطفال، الذين كان صلى الله عليه وسلم، يحبهم ويحنو عليهم ويعمل بكل سبيل على إبهاجهم وإسعادهم، وكالدعاء الذى تبتهل به الصغيرة لربها كى يطيل عمر بابا، الذى اشترى لها فستانها الجميل من خيره، وكالذوق البديع المتمثل فى الفستان الفاتن الذى تباهى به البنت لداتها حتى إن الدنيا لا تسعها من الفرحة. ثم هناك الكلمات الرائعة واللحن الساحر والغناء الفريد، وهذه كلها حسنات سوف يجزى بها الله كل واحد منهم جزاء حسنا بعشرة أمثال ما عملوا إلى سبعمائة ضعف، بل إلى ما شاء الله بغير حساب. إن الأغنية لتطفح بالمرح والبهجة بدءا من كلماتها التى تجسد سعادة البنات بفساتينهن تجسيدا، ومرورا باللحن الراقص المرح بإيقاعه السريع، وانتهاء بصوت الثلاثى المرح والبنات الصغيرات اللاتى لقنهن الملحن كلمات وأصواتا يرددنها لم يكن لها موضع فى الأغنية، فزادتها رغم ذلك فتنة فوق فتنتها الأولى. ولو كان الجاحظ حيا بيننا الآن وسمعها وسمع قول البنت الصغيرة السعيدة فيها عن فستانها الجديد: "ما بتشبعشى منُّه عنَيَّه" لقال عن الأغنية المرحة التى تكاد تطير فى الجو من شدة ما فيها من البهجة وحلاوة اللحن الراقص على دقات قلوب الصبايا الفرحات ما قاله أبو شعيب القَلاَّل عن قصيدة النواسى: "لو نُقِرَ هذا الشِّعْر لَطَنَّ". لكنْ للأسف قد مات الجاحظ منذ قرون. فوا خسارتاه ألا تجد تلك الأغنية البديعة من يقدِّر لطفها وروعتها بعد أن فقدنا عمنا الكبير أبا عثمان!
وبالمناسبة ففى هذه الأغنية عبارة لم أسمع بها من قبل، وهى عبارة "شَبُّوا ولَبُّوا من فستانى"، التى تقولها البنت الصغيرة صاحبة الفستان عن بنات الحارة واشتعال غيرتهن حين أبصرن عليها الفستان الجميل الذى تزين صدره ركامة، وفَصَّلَتْه ماما. ولو سمعها زكى مبارك لقال عنها، بعبارته المشهورة عنه، إنها "وثبة من وثبات الخيال"، لكن زكى مبارك كان قد مات قبلها ببضعة عشر عاما. وثم شىء آخر طريف فى الأمر، وهو أن الفتاة تبدى غبطتها بغيرة البنات الأخريات من فستانها رغم اعتقاد المصريين عموما، الذين منهم أم الفتاة بكل تأكيد، بأن عين الحسد والغيرة تضر أى شىء تقع عليه. أفلم تخش أم البنت أن تجىء الطوبة فى المعطوبة فتظهر لابنتها بنت ذات عين شريرة تندبّ فيها رصاصة تنظر إلى فستانها فينشقّ حتتين، ومن ثم تفسد فرحة ابنتها؟ فلماذا تركتها إذن تخرج به متعرضة للعيون؟ نعم لماذا لم تحبس ابنتها فى البيت طوال يوم العيد وتنكد عليها بإمساكها عندها وحرمانها من اللعب مع لِدَاتها، أو على الأقل: لماذا لم تلبسها فستانا قديما مرقعا حائل اللون لا يستفز عيون الحاسدات؟ والله فكرة! ويمكنها أن تفعل ذلك فى العيد القادم، وعليكم خير!
إن الأغانى، كما قلت، ليست فقط الصوت الذى نسمعه ولا الكلام الذى يغنيه هذا الصوت، بل هى أيضا الماضى الذى ينتفض حينئذ ويتجسد رَأْىَ العين ومِلْءَ الكيان فى أسى جياش وحنين غلاب كثيرا ما يثير الدمع فى المآقى. وهو بلسم للقلب المتعب والبال الحيران. وهو، للجند فى القتال، بطولة وعزيمة مضافة إلى بطولتهم وعزيمتهم، وليس عبثا ولعبا كما قد يظن بعض الناس. والنبى عليه الصلاة والسلام قد سمح لجارية بالغناء فى بيت عائشة، وطلب من زوجته أن ترسل مع عروس من عرائس المسلمين من تغنى لها ليلة الدّخْلَة على زوجها... وعلى كل حال فأقصى ما يمكن قوله فى الغناء أنه موضوع خلافى بين الفقهاء. ولابن حزم مثلا والإمام الغزالى وعبد الغنى النابلسى وشلتوت والقرضاوى بحوث فى هذا الموضوع لا ترى فيه مذمة أو معابة أو مأثما، بل متعة حلالا ما دامت لا تخرج عن الدين.
وأنا أزيد على ذلك أن الأغانى قد تكتب، كما يكتب أى عمل بشرى آخر، فى صحائف حسنات الشعراء والملحنين والمغنين الذين تعاونوا فى إبداعها على هذا النحو. ألم يتقنوا عملهم، والإتقان قيمة حضارية وإسلامية ألح عليها سيدنا النبى عليه الصلاة والسلام؟ ألم يتيحوا لنا أسباب البهجة والرضا بما أبدعوه وعرضوه علينا وأدخلوا به السعادة على نفوسنا؟ إن هناك من عباد الله "الصالحين" من يريدون أن يظل الناس طول الوقت مقطبة لا تنفرج شفاهها عن بسمة ولا أفواهها عن كلمة سرور وابتهاج، وكأنهم أَعْطَوْا من أنفسهم عهدا لله ألا يَدَعُوا أحدا سعيدا وأن يعملوا كل ما فى طاقتهم للتنكيد على البشر. ترى كيف كان لنا أن نقطع طريق الحياة الطويل المرهق لو أنها خلت من هذه المسرات الجميلة البريئة من أغان عاطفية ودينية ووطنية واجتماعية وعائلية وفكاهية ووصفية وأطفالية؟ إن الحياة، فى جانب منها غير صغير، مملة وحزينة وقلقة وتدعو إلى الرثاء والبكاء، وكثير من أحداثها يعصر القلب عصرا، فماذا نفعل إزاء ذلك؟ هل نطقُّ من أجنابنا حتى ينبسط بعض عباد الله النَّكَدِيّين أم نسمع الأغانى، التى تربِّتُ على الكتف المرهق، وتبتسم للعيون الحزينة، وتبث الطمأنينة فى القلوب المرتجفة، وتدهن بالبلسم الشافى الأكباد المقروحة، وترسم الفرحة على الشفاه المكتئبة المزمومة؟ لا يا عم، نسمع الأغانى أفضل، فالحياة لا تنقصها الكآبة والتعاسة حتى نزيدها شقاء وإحباطا.
ثم ما دمنا نتحدث عن موقف الدين من الأغانى فلا يصح أن ننسى الأغانى الدينية، فمن شأنها تعميق الشعور الدينى فى نفس المسلم. وإنى أتساءل مرة أخرى: هل يعقل أن المطرب أو المطربة التى تغنى شيئا دينيا تخلو نفسها تماما من العاطفة الدينية، ويكون كل اهتمامها منصبا على تقديم أغنية تفرقع فى الساحة الفنية فقط؟ أنا لا أظن ذلك، إذ المغنى أو المغنية إنما هو شخص مسلم قبل كل شىء، ولا يمكن أن يخلو قلب كل مغن أو مغنية من النبض الدينى مهما كان فى حياته الشخصية بعيدا عن أداء العبادات ويعيش على حَلّ شَعْره كما نقول فى مصر. بل إن كثيرا منهم ومنهن آتون من بيئات متواضعة ليس فيها تمرد على الخلق الكريم ولا تعرف الفجور منهجا حياتيا، بل ترتبط بالدين الارتباط العادى فى أقل تقدير. كما أن منهم متدينين متمسكين تمسكا قويا بدينهم. وكثيرا ما يتردد فى نفسى هذا التساؤل وأنا أستمع مثلا إلى قصيدة "قُلِ: ادْعُ اللهَ إن يَمْسَسْكَ ضُرٌّ"، التى تغنيها كل من نجاة الصغيرة وشادية، وما من مرة سمعتها فيها إلا وشبت أحاسيسى الدينية والتهبت وشعرت أنى ألامس النجوم، وآخذ فى التساؤل: أيعقل أن يكون كل هذا الشجن مرده إلى الرغبة فى تجويد العمل الفنى ليس إلا؟ أمن المعقول أن نجاة وشادية، وهما تغنيان تلك القصيدة الرائعة على أنغام اللحن البديع لكمال الطويل، كان قلباهما خاليين تماما من أية حماسة دينية؟ أما أنا فلا أستطيع أن أمضى مع هذا الافتراض الغريب. وعلى أية حال لا أظن أن عاقلا يظن أن غناء نجاة أو شادية لهذه القصيدة يثير شهوات المستمعين.
وقد تناول الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر الأسبق هذا الموضوع فى كتابه: "الفتاوى" فقال ما نصه: "الأصل الذي أرجو أن يُتَنَبَّه إليه في هذا الشأن وأمثاله مما يختلفون في حِلِّهِ وحُرمته هو أن الله خلَق الإنسان بغريزة يَميل بها إلى المستلذات والطيبات التي يَجِدُ لها أثرًا طيبًا في نفسه، به يهدأ، وبه يرتاح، وبه ينشط، وبه تسكن جوارحه. فتراه ينشرح بالمناظر الجميلة، كالخُضرة المُنَسَّقَة والماء الصافي الذي تلعب أمواجه والوجه الحسَن الذي تنْبسط أساريرُه، وينشرح صدرُه بالروائح الزكيَّة التي تُحْدِث خِفَّةً في الجسم والروح، وينشرح صدره بلَمْسِ النُّعومة التي لا خشونة فيها، وينشرح صدره بلذَّة المعرفة في الكشف عن مجهول مَخْبُوءٍ، وتراه بعد هذا مطبوعًا على غريزة الحب لمشتهيات الحياة وزينتها من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرْث.
الشرائع لا تَقضي على الغرائز بل تنظمها: ولعلَّ قيام الإنسان بمُهِمّته في هذه الحياة ما كانت لِتَتِمَّ على الوجه الذي لأجله خلَقه الله إلا إذا كان ذا عاطفة غريزية تُوجهه نحو المشتهيات وتلك المُتَع التي خلقها الله معه في الحياة، فيأخذ منها القدْر الذي يحتاجه وينفعه. ومن هنا قضت الحِكمة الإلهية أن يُخْلَق الإنسان بتلك العاطفة، وصار من غير المعقول أن يطلب الله منه، بعد أن خلَقه هذا الخلْق وأودع فيه لحِكمته السامية هذه العاطفة، نزْعها أو إِمَاتتها أو مُكافحتها في أصلها. وبذلك لا يُمكن أن يكون من أهداف الشرائع السماوية في أيِّ مرحلة من مراحل الإنسانية طلبُ القضاء على هذه الغريزة الطبيعية التي لابد منها في هذه الحياة. نعم للشرائع السماوية بإِزاءِ هذه العاطفة مطلب آخر يتلخص في كَبْح الجِمَاح، ومعناه مكافحة الغريزة عن الحدِّ الذي ينسى به الإنسان واجباتِه، أو يُفسد عليه أخلاقه، أو يحول بينه وبين أعمال هي له في الحياة ألزم، وعليه أوجب.
التوسُّط أصلٌ عظيم في الإسلام: ذلك هو موقفُ الشرائع السماوية مِن الغريزة، وهو موقف الاعتدال والقَصْد لا موقف الإفْراط ولا مَوقف التفريط، هو موقف التنظيم لا موقف الإماتة والانتزاع. هذا أصلٌ يجب أن يُفهم، ويجب أن تُوزَن به أهداف الشريعة السماوية. وقد أشار إليه القرآن في كثير من الجُزئيات: "ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ". "يا بَنِي آدمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا"، "واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ واغْضُضْ مِن صَوْتِكَ".
وإذنْ فالشريعة تُوجِّه الإنسان في مُقتضيات الغريزة إلى الحدِّ الوسَط: فهي لم تنزل لانتزاع غريزة حُبِّ المال، إنما نزلت بتَعديلها على الوجه الذي لا جشَع فيه ولا إسراف. وهي لم تنزل لانتزاع الغريزة في حُبِّ المناظر الطيبة ولا المسموعات المستلذة، وإنما نزلت بتهذيبها وتعديلها على ما لا ضرر فيه ولا شر. وهي لم تنزل لانتزاع غريزة الحُزْن، وإنما نزلت بتعديلها على الوجه الذي لا هلَع فيه ولا جزَع. وهكذا وقفت الشريعة السماوية بالنسبة لسائر الغرائز. وقد كلَّف الله العقل، الذي هو حُجته على عباده، بتنظيمها على الوجه الذي جاء به شرعه ودينه. فإذا مال الإنسان إلى سماع الصوت الحسن أو النغم المستلذ من حيوان أو إنسان أو آلة كيفما كانت، أو مالَ إلى تعلُّم شيء من ذلك، فقد أدَّى للعاطفة حقَّها. وإذا ما وقف بها مع هذا عند الحدِّ الذي لا يصرفه عن الواجبات الدينية أو الأخلاق الكريمة أو المكانة التي تتَّفِق ومركزه كان بذلك مُنظمًا لغريزته، سائرًا بها في الطريق السوي، وكان مَرْضِيًّا عند الله وعند الناس. بهذا البيان يتَّضِح أن موقف الشاب في تعلُّم الموسيقى مع حرصه الشديد على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها وعلى أعماله المكلف بها موقف، كما قلنا، نابعٌ من الغريزة التي حكَمها العقل بشرع الله وحكمه، فنزلت على إرادته. وهذا هو أسمى ما تطلبه الشرائع السماوية من الناس في هذه الحياة.
رأْي الفقهاء في السماع: ولقد كنتُ أرى أن هذا القدْر كافٍ في معرفة حكم الشرع في الموسيقى وفي سائر ما يحب الإنسان ويهوَى بمقتضى غريزته لولا أن كثيرًا من الناس لا يكتفون، بل ربما لا يؤمنون، بهذا النوع من التوجيه في معرفة الحلال والحرام، وإنما يقنعهم عرض ما قيل في الكتب وأُثِر عن الفقهاء. وإذا كان ولا بد فليعلموا أن الفقهاء اتفقوا على إباحة السماع في إثارة الشوق إلى الحج، وفي تحريض الغُزاة على القتال، وفي مناسبات السرور المألوفة كالعيد والعُرس وقُدوم الغائب وما إليها. ورأيناهم، فيما وراء ذلك، على رأيينِ: يُقرر أحدهما الحُرْمة، ويستند إلى أحاديث وآثار. ويُقرر الآخر الحِلِّ، ويستند كذلك إلى أحاديث وآثار. وكان من قول القائلين بالحِلِّ: "إنه ليس في كتاب الله ولا سُنّة رسوله ولا في معقولهما من القياس والاستدلال ما يقتضي تحريم مجرد سماع الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات". وقد تعقَّبوا جميع أدلة القائلين بالحُرمة وقالوا: إنه لم يصحَّ منها شيء.
رأْي الشيخ النابلسي: وقد قرأت في هذا الموضوع لأحد فقهاء القرن الحادي عشر المعروفين بالورَع والتقوى رسالة هي: "إيضاح الدلالات في سماع الآلات" للشيخ عبد الغني النابلسي الحنفي قرر فيها أن الأحاديث التي استدل بها القائلون بالتحريم، على فرض صحتها، مُقيدة بذكر الملاهي وبذكر الخمر والقيْنات والفسوق والفجور، ولا يكاد حديث يخلو من ذلك. وعليه كان الحُكْم عنده في سماع الأصوات والآلات المُطرِبة أنه إذا اقترن بشيء من المُحرَّمات أو اتُّخِذ وسيلةً للمُحرَّمات أو أَوقعَ في المحرمات كان حرامًا، وأنه إذا سلِم من كل ذلك كان مباحًا في حضوره وسماعه وتعلُّمه. وقد نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن كثير من الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء، أنهم كانوا يسمعون ويحضرون مجالس السماع البريئة من المجون والمُحرَّم. وذهب إلى مثل هذا كثير من الفقهاء. وهو يُوافق تمامًا، في المغزى والنتيجة، الأصل الذي قرَّرناهُ في موقف الشريعة بالنسبة للغرائز الطبيعية.
الأصل في السماع الحِلُّ والحُرْمة عارضة: وإذن فسماع الآلات ذات النغمات أو الأصوات الجميلة لا يُمكن أن يحرم باعتباره صوت آلة أو صوت إنسان أو صوت حيوان، وإنما يُحَرَّم إذا استُعين به على محرم أو اتُّخِذ وسيلةً إلى محرم أو أَلْهَى عن واجب. وهكذا يجب أن يعلم الناس حُكْم الله في مثل هذه الشئون. ونرجو بعد ذلك ألا نسمع القول يُلْقَى جُزافًا في التحليل والتحريم، فإن تحريم ما لم يُحَرِّمه الله أو تحليل ما حرَّمه الله كلاهما افتراءٌ وقَوْلٌ على الله بغير علم: "قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ والإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأنْ تُشْرِكُوا باللهِ مَا لمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلطَانًا وأنْ تَقُولُوا علَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)" (الأعراف/ 33). والله أعلم". عفارم عليك يا أبا الشلاتيت!
ومع هذا كله لا بد من قول كلمة عما شاهدته لتوى فى اليوتيوب من مشهد تغنى فيه نجاة الصغيرة أغنية أحبها وأجدها رقيقة مشجية وتنفعل نفسى لها انفعالا عظيما، وهى أغنية "حمد الله ع السلامة"، ولم أكن أعرف أنها جزء من فلم. لكنى ما إن رأيت المغنية ذات الصوت الهامس الحالم الرقيق تستعد لاستقبال حبيبها محمود يا سين وقد أخذتها الحيرة فى اختيار الملابس التى ينبغى أن ترتديها فى استقباله رغم أن الملابس التى كانت تضعها على جسمها قد تخطت حدود الروعة والفتنة بأزمان شاسعة، ويدخل عليها بطل الفلم ويعدو نحوها متلهفا ويأخذها فى أحضانه ويحملها ويدور بها فى الغرفة وهى ملتصقة به التصاقا ثم ينزلها ويراقصها وقد تاها عن الوجود ثم يجثو عند قدميها فتنحنى عليه بوجهها فيغرق صدرها بالقبلات (وكفاية لحد هنا حتى لا يرفعا علىَّ قضية ويكسباها ويحبسانى سنة أنا أيضا، وأنا رجل لا قِبَل لى بالسجن ولا بالحبس حتى ولو فى بيتى)، ولم يشعرا بأنى أنظر إليهما وينبغى أن يراعيا وجودى ويستحييا منى، حتى شرعت أضحك وأقول لنفسى بصوت عال وكأننى أخاطب رجلا سواى: ليس لك حق يا عم إبراهيم فيما قلتََه ترد به على كارهى الغناء، فهأنتذا ترى بأم عينيك وأبيهما ما ترى. فهل ترضى بهذا؟
لكن شيطان الجدل والفن سرعان ما التقط أنفاسه، وبدأ فى الهجوم المضاد قائلا فى قوة: ألم نقل قبلا إننا لسنا مع أى شىء إضافى فاسد أو مفسد فى الغناء؟ نحن ما زلنا على موقفنا من رفض أية إضافات غير غنائية! فألفيت نفسى أنظر إليه من تحت لتحت، وأنا أقول له: عَلَى بابا هذا الكلام يا عفريت يا ابن العفريتة؟ يبدو أنك لن تكف عن جدالاتك ووسوساتك حتى تردينى معك فى النار! وبالمناسبة فالأستاذ خالد صالح، وهو مصور للأفلام الوثائقية ويجمع بين حب الفن والدين تعرفت به منذ فترة قريبة، يقول لى مؤكدا إن الفنانين يرون فى هذه الأدوار عملا فنيا بحتا لا حرمة فيه، وهم لهذا يستغربون انتقاد من ينتقدهم فى القيام بها. إلا أننى، رغم أنى لست من المحبكين كما يرى القارئ، لا يمكننى الموافقة على مثل تلك التصرفات: لا فى الحياة ولا على الشاشة. ولكن لكى تكتمل الصورة لا بد من أن أذكر هنا ما سمعته منذ سنوات غير قليلة من فم زوجة ممثلنا المشهور فى حوار لها بإحدى الفضائيات من أنه يختم القرآن: لا أدرى أقالت: كل ثلاثة أيام، أم كل شهر ثلاث مرات! يا شيخة، قولى كلاما غير هذا!
وقبل أن أغادر ساحة الغناء وتعارض الرأى فيه تحريما وتحليلا أعرّج على الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهرى العالم والكاتب السعودى المعروف، الذى كان مغرما بالغناء مولها بنجاة الصغيرة بالذات وَلَهًا لم يكن، فيما يبدو، والله أعلم، ولها فنيا غنائيا فقط، بل عاطفيا أيضا حتى لقد ألف كتابا فى "أم الوليد" كما كان يسمى المطربة ذات الصوت العجيب الذى لم يخلق الله صوتا مثله (تكنية لها بابنها الوحيد: "وليد")، وأتى إلى القاهرة وقابلها بمعرفة بعض المصريين وقابلها وأهداها نسخة منه فى شقتها بالزمالك، فشكرته وأنبأته أنها، لو لم تكن القصائد الهائمة التى فى الكتاب قد نُظِمت فيها، لغنت منها شيئا، وهو ما لم يعجبه إذ ورد على خاطره فى الحال أنها غنت لكامل الشناوى قصيدة "لا تكذبى"، وهى إنما نظمت فيها كما يعرف الناس جميعا، وإن لم يبح لها بما دار فى خاطره، بل مكث حييا مرتبكا يعبث بأصابعه دون أن يدرى. وقد وصفها فى هذا اللقاء وقد ارتدت طرحة شفافة لم تغط رقبتها ولا صدرها. وقد ضحكت وهو يقول هذا وعلقت فيما بينى وبين نفسى: أنت طماع يا أبا عبد الرحمن. أوكنت تريد من نجاة أن تقابلك منتقبة كامرأة سعودية داخل السعودية؟ أقول: "داخل السعودية" لأن كثيرات منهن ما إن يصعدن إلى الطائرة مغادرات بلاد الحرمين حتى يخلعن ملابسهن التقليدية ويلبسن ملابس عادية، وأحيانا أبعد من العادية. أما فى البلاد التى يزرنها، وبخاصة إذا كانت أوربية، فإنهن يذهبن أبعد وأبعد. احمد الله أنها قد وضعت طرحة على رأسها، وإن كانت شفافة ولم تغط كل شعرها ولا جاءت ناحية وجهها أو صدرها. ويبدو أن فشل الشيخ الظاهرى فى أن تغنى له نجاة شيئا من شعره الذى كتبه فيها، وبعد كل الذى تجشمه وتكلفه من أجل هذا اللقاء، إضافة إلى ما كان يلقاه من لوم وعتاب من مشايخه ومعارفه بسبب غرامه بالطرب، قد بغَّضاه فيه، فتاب عنه كما يقول، وغير رأيه وكتب ذلك على رؤوس الأشهاد.
ومما قاله فى ذلك ما صرح به فى حوار أجرته معه صحيفة "الجزيرة" السعودية فى أواخر شعبان وأول رمضان لعام 1428هـ من "أن لإبليس، لعنه الله، حيلة لئيمة بالدفع إلى الصوت الجميل بحجة جمال الأداء، ولكن الممارسة أثبتت أن المستحسَن على الحقيقة الصورة والتكسُّر العاطفي، وأن الأداء شيء ثانوي". ومن رأيه أيضا، كما ورد فى هذا الحوار، أن "الغناء جزء من الفن وليس رديفا له، ومن الغناء بدون آلة ما هو مباح في نطاق ضيق رحمة من الشرع بشرط التجرد من المحظورات كتجديف الكلمة وإثارة الغدد الجنسية. ومناسبات ذلك ضيقة كالأفراح والأعياد. ومع هذا فترك استماعه أفضل، وثبت لي بالتجربة العريضة أنه لا مكان للغناء المميت للقلب إذا حصلت العناية (بالتفرغ الكامل في وقت من الأوقات) لسماع كلام الله بصوت جميل جدا كصوت محمد رفعت وعبدالباسط عبدالصمد، مع التأمل لمعاني التلاوة، والمراجعة السريعة في كتب التفسير والقراءات، أو تسجيل ما ينبغي مراجعته إن ثقل على الإنسان المراجعة. ولهذا بحمد الله لا أضيع من وقتي شيئا".
والرجل حر فى موقفيه: فى موقف المتعلق بالغناء أولا، وفى موقف الرافض له الطاوى كشحه عنه آخرا، سواء كان هذا الطى نابعا من نفور فعلى أو كان عن رغبة فى تجنب النقد والإحراج فى بيئة محافظة، وهو الشيخ الملتحى الذى يتحدث فى وسائل الإعلام فى التفسير وشرح الأحاديث النبوية المشرفة. إلا أن كلامه عن دور إبليس فى مسألة الغناء يحتاج إلى وقفة، إذ لا يعنى إلا شيئا واحدا هو أن الغناء جميعه عمل نسائى لا صلة للرجال به. وهذا طبعا غير صحيح البتة.
كما يفهم، من كلامه عن دور النظر إلى المغنية والاستمتاع بتكسرها العاطفى فى خلق التعلق بالغناء، أن كل الأغانى مرئية، وكلها تقوم على التكسر العاطفى. ولعله يقصد الإثارة الجنسية كما تشير إشارته الخاصة بالغدد الجنسية. فهل الأغانى العاطفية الحزينة تؤدى إلى إثارة الشهوات؟ هل كانت أغانى نجاة الصغيرة تثيره جنسيا؟ إن معظمها، إن لم تكن كلها تقريبا، أغان باكية دامعة كما نعرف كلنا. وقد كتب عنه أحدهم ذات مرة: "مرت بأبي عبد الرحمن فترة كان يسمع فيها هينمات ما فيَخْضَلّ دمعُه ويَغَصّ بِرِيقِه". كما أن كثيرات من المغنيات غير جميلات، بل مقبولات فقط، وبعضهن ينزلن درجة أو أكثر عن تقدير "المقبول". أما أن هناك محتوى: عاطفيا أو وطنيا أو فكاهيا أو اجتماعيا أو تصويريا إلى جانب الأداء فهذا أمر طبيعى، وهو مسؤول مع الأداء عن تعلقنا بذلك الفن لا الأداء وحده. فالأداء بدون مضمون لا يمكن أن يملك علينا حسنا وقلبنا كما تصنع الأغانى بنا، وإلا فلم بالله نسمع الأغانى العاطفية أو الوطنية بهذا التبتل، ويبكى الكثيرون وهم ينصتون إليها، إذا كانت مجرد أداء؟
على أن هذا لا يمنع أن يقع بعض المستمعين، حتى لو كانوا مشايخ ملتحين، فى حب هذه المغنية أو تلك. فهو أمر متوقع، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن. وعلى كل من يمر بهذه التجربة ألا ينساق معها، وليعرف أن المغنية التى يعشقها ليست فاضية له، كما أن هناك من أمثاله المغرمين صبابةً الكثيرين. فلو استجابت المغنية لكل من وقع فى غرامها فلن يكون عندها وقت حتى لدخول الحمام! بل لسوف تموت قبل أن تلبى طلبات الهائمين المنتظرين أمام باب شقتها فى طابور طويل من هنا حتى السعودية فى تبتل وخشوع وبكاء ونهنهة ودموع. ثم إنها ليست بالصورة البراقة التى تبدو عليها لنا.
قال لى أحدهم مرة إن فلانة الممثلة الرقيقة التى كانت متخصصة فى إبكاء المشاهدين لأفلامها من شدة رقتها وملائكيتها وبؤس نفسيتها وما يقع عليها من ظلم ومآس كانت، إذا راجعها المنتجون فى قيمة الأجر الذى تريده تشخر لهم. يا ناس، اشكروا ربنا وتمتعوا بالصوت الجميل الشجى وبَسْ، ودعوا الست المغنية فى حالها كى تظل قادرة على أن ترفدكم بفنها البديع، والحمد لله أنها لا تشخر لكم كفلانة الملاك الطاهر التى تذوب رقة وحياء. وبعد فأنا متعاطف مع الشيخ الظاهرى الظريف الذى لم يتنكر لطبيعته الإنسانية فتعلق زمنا بالغناء الجميل من نوعية صوت نجاة، الذى يستدر الدمع من المآقى، وأعذره فى رجوعه عن حب الغناء حتى لو كان هذا الرجوع من خارج القلب. وكنت، وأنا فى السعودية، منذ نحو عشرين عاما، أسمع عنه الكثير، وإن لم أقرأ له شيئا ذا بال. وهو ما أرجو أن أعوض شيئا منه الليلة بقراءة كتيِّبه عن عبد الله القصيمى بلديّه المتمرد.
أما الكتاب الذى ألفه الشيخ ابن عقيل الظاهرى عن نجاة فإليك، يا عزيزى القارئ، قصته من فمه ذاته حسبما رواها لصحفى بجريدة "المدينة" السعودية بتاريخ 20/ 11/ 2009م: "وأما سؤالك عن الكتاب الذي ألفته عن نجاة فهو مختارات من ديواني: "النغم الذي أحببته". وأظن أن ذلك قبل طبعه مع صورة مهيِّجة وترجمة ضافية وسرد لأغانيها وتواريخها وملحنيها وأصحاب الكلمات. وقد نُشِر بمجلة جمعية الثقافة والفنون، وقال لي سعادة الأستاذ محمد الشدي إنه عرض الموضوع على عالم نفسي، فقال: "إن أبا عبدالرحمن عاشقٌ بجدٍّ لمن كتب لها الكتاب". ولما شككتُ في أن أخي الأستاذ حمد القاضي، حرسه الله، وصَّله إليها أرسلته لها مع متأدِّب مصري اسمه علي الفقي، مضيفا إليه بعض مقالاتي الخاسئة عنها، ثم زرتها بصحبته في الزمالك أو أبو المعاطي أو العجوزة (نسيتُ لطول العهد، والحمد لله على هذا النسيان)، فجاءتنا بعد طول انتظار ولم يبد منها غير وجهها، وعلى بعض رأسها طرحة قماش بيضاء شفافة، وقد بدتْ رقبتها وبعض صدرها، وهذا غاية الستر عند فنانات العصر. ورحَّبتْ، وصرفتني إلى الحديث عن السعودية وأدبائها، وقالت : لولا أنني المعنيَّة لغنَّيت بعض الكلمات. ولم أقل: أنتِ غنيتِ "لا تكذبي" لِلْمُدَحْدَح العاشق عن سذاجةٍ: الشناوي، وأنت المعنيَّة بذلك. وكان، رحمه الله، دميما كبير البطن قصير الرقبة. فلما بلغ به الشوق مبلغه صرحت له بأنها تحبه لأدبه الجميل، فصُدِم بعدها. لم أقل لها ذلك لأنه عُجِم عَلَى لساني، وضاق نَفَسي، وغصصتُ بريقي، وعَرِقْتُ، وصرتُ أثني أطراف أصابعي من غير وعي لشدة الخجل، فاستغربت هي ذلك. فلما خرجنا قال لي الفقي: يخرب بيتك! خجَّلتنا معها! وسرُّ هذه الانغماسة طلاقٌ تكرَّر اضطرارا لأول زوجة لي أُحِبّها حبا شديدا، وعوضني الله بما هو خير في أواسط الكهولة، فَوَلَّد لي هذا هياما وحبا وهميا، وتسلياتٍ بالتأوهات الساقطة في ألحان المغنين" .
وبعد، فمما لا ينبغى أن أمر عليه مرور الكرام، وأنا أتكلم عن المرحلة الثانوية من تعليمى، أننى عرفت فى مدرسة الأحمدية بطنطا طلابا نصارى لأول مرة. لقد كانت قريتى التى أتيت منها قرية مسلمة خالصة الإسلامية، إذ ليس فيها كنيسة كما هو الحال فى بعض القرى الأخرى، بل لم يكن فيها سكان نصارى على عكس قرية شفا المجاورة لقريتنا مثلا، إذ كانت فيها أسرة نصرانية فى الخمسينات والستينات من القرن الماضى هى أسرة عوض الله، وإن لم توجد فيها كنيسة. ومع خلو قريتى من أى ساكن نصرانى لأنها قد بنيت فى العصر الفاطمى فيما يبدو، استنتاجا من اسمها المطابق لاسم قبيلة كتامة المغربية، التى آزرت الفاطميين وأرست حكمهم فى مصر، فقد كنت أرى الكنائس فى طنطا وأمرّ بجوارها وأتعامل هنا وهناك مع النصارى، الذين لم يكونوا يشكلون نسبة تذكر فى تلك المدينة. وقد حضرت عرسا ذات مرة فى إحدى الكنائس، وعمرى خمسة عشر عاما تقريبا، وكنت لا أزال طالبا فى الأزهر، وشاهدت بعض النصارى فى عيد السعف وهم يحملون فى أيديهم سعف النخيل فى شارع السكة الجديدة خارجين من شارع الصاغة حيث كانوا يتركزون. كما كانت هناك خنازير فى شارع الصاغة والمنطقة المحيطة به، ورأيت بعض الشبان ليلا يطاردونها ويضربونها بالنعال وهى ترعى القمامة فى مقلب من مقالبها هناك، وأنا فى الفرقة الثانية الإعدادية الأزهرية. وبالمثل شاهدت فى شارع القنطرة عصر يومٍ جنازةً خارجة من الكنيسة يمشى فيها القُسُوس، وتُضْرَب فيها الصنوج وتُعْزَف الموسيقى، ويتقدمها حصانان يجران عربة عليها نعش الميت متجهة ناحية ميدان الساعة وشارع المديرية فى طريقها إلى المقابر.
والآن أصبحت أجلس فى فصل واحد مع طلاب نصارى، وأذكر منهم الآن أديب، وكان لَسِنًا رغم أنه كان بلسانه ما نسميه فى مصر: "لَتَّة"، وكان يحب أن يتحدث فى الدين ويجادل فيه، ولا أستطيع أن أتذكر موقفى من ذلك اللَّسِن. بيد أننى أذكر جيدا أننا قد أخذنا فى مقرر التربية الدينية فى ذلك العام الحديثَ النبوىَّ الشريفَ الذى يقول: "من ظلم معاهَدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طِيبِ نفسه فأنا حَجِيجُه يوم القيامة". ولا ريب أن هذا الحديث قد ترك أثره الشديد على نفسى وعقلى، فكنت ألتزم ولا أزال ألتزم به حتى الآن فى صرامة ما دام صاحبى النصرانى يتصرف باحترام وكياسة. وقد كان النصارى فى ذلك الوقت، والحق يقال، يحترمون أنفسهم، وكان المسلمون يحترمونهم أيضا.
وأذكر منهم أيضا سعد، الذى ارتبطتُ به بعض الوقت حين كنت فى السنة الأولى الثانوية، وذهبت معه مرة إلى شقتهم فى حارة تصل بين شارعى القاضى وأحمد ماهر من جهة البحر، واستقبلتنى أمه استقبالا طيبا. وقد طلبت منهم فى تلك الزيارة نسخة من الأناجيل، فأَعْطَوْنى نسخة صغيرة كنت أقرأ فيها فأجد أشياء تذكّرنى بالقرآن المجيد، بيد أن الأسلوب الذى صيغ به الكتاب كان مختلف الطعم والنكهة عما أعرفه من الأساليب العربية. كما كان هناك غموض فى بعض الأسفار لعُسْر الصياغة وركاكة العبارة، التى صرتُ أعزوها الآن، بعدما تعرفت إلى طبيعة فن الترجمة، إلى ركاكتها فى لغتها الأصلية. ولا أستطيع أن أتذكر شيئا آخر يتعلق بذلك الموضوع. ومنهم أيضا قصدى، الذى كان يسكن شقة فى الدور الثانى من أحد المنازل فى طه الحكيم قريبا من شارع الويشى، وكنت أراه أحيانا جالسا فى شرفتهم الصغيرة الرشيقة وأنا مار من هناك. وقد اقترح علىَّ فى آخر ذلك العام قبيل الامتحان أن أدخل معه القسم العلمى كى أكون طبيبا، وبخاصة أننى، كما لاحظ، كنت قويا فى المواد العلمية، فقلت فى نفسى: أُفَكِّر. بيد أننى ما إن دخلت الامتحان الشفوى، وكان السؤال الموجه لى فى مادة "الأحياء" يتعلق بكبد أرنب محفوظة فى مادة كيمائية لعلها الفورمالين ورأيتها وهى على وشك التحلل وشممت رائحتها النفاذة، حتى انقلبت بطنى، وصرفت النظر تماما عن فكرة القسم العلمى. وذهب قصدى بعيدا عنى فى زحمة الحياة بعدما انفصلنا فى تخصصنا، ولم أعد أعرف أى شىء عنه.
وكان من بين أساتذتنا النصارى فى المدرسة أستاذ كان يدرس لنا فى السنة الأولى مادة "الرياضيات". وكان أوربى الملامح إلى حد ما. وكان الطلاب الأشقياء الضخام يطلقون عليه: "فَلْتَس"، فكان ذلك يزعجه ويعصِّبه إلى درجة شديدة. وأذكر الآن ما قاله لنا أحد هؤلاء الشياطين من أنه أخرج لهم بطاقته العائلية وأراها لهم مقسما فى انفعال أن اسمه ليس فلتس. وكان منهم أيضا فى تلك السنة الأستاذ كمال مدرس الجيولوجيا، الذى كان يلبس بدلة سكرية اللون لامعة من قماش الشاركسكين ("الشركستين" كما كنا ننطقها فى ذلك الوقت)، وكان وسيما يفرق شعره اللامع فرقا أنيقا، كما كان صارما يسيطر على الفصل سيطرة تامة رغم أنه لم يكن جسيما ولا طويلا. وكان يتفاصح إذا لفظ كلمتى "صُلْب" و"صَلْد"، اللتين كان ينطقهما: "صَلْب" و"صَلِد" معطشا دال الكلمة الأخيرة تعطيشا قويا كى يُفْهِمنا نطقها "الصحيح"! وكنت فى دخيلة نفسى أبتسم لمعرفتى أن نطقه للكلمتين خطأٌ بَوَاح. وكان أستاذ الأحياء نصرانيا أيضا، ولكن لم يترك فىَّ أثرا لا طيبا ولا سيئا، إذ كان رجلا هادئا لا يهتم بالاقتراب من طلابه ولا تشجيعهم، بل يكتفى بالشرح فقط. وكذلك الأستاذ رمزى، وكان يعطينا جغرافيا فى الثانوية العامة، وكان طيبا لطيفا، وكنا نضحك فى حصته ونداعبه، ولكن لا أظن أننا كنا نستهين به. وكان ينطق الواو مفخمة فتبدو لى غريبة جدا أنا الآتى من قريةٍ تُرَقِّقُها.
وكان منهم كذلك الأستاذ فكرى روفائيل، أستاذ التاريخ فى السنة الأخيرة لنا بالمدرسة، وكان فصيحا يحب استعمال العبارات المتميزة كقوله مثلا عن العثمانيين إنهم "دقوا أبواب فيينا فلم تُفْتَح لهم". يقول ذلك وهو يدق على السبورة أمامه بقبضة يده ويضغط على مخارج الحروف، وكأن فيينا تقف فعلا وراء السبورة وترفض أن تفتح للعثمانيين. وكانت هذه العبارة مثار تندر من جانب ابن قريتى وجارى فى التَّخْتَة المرحوم محمد عاشور، إذ كان يرددها مقلدا الأستاذ فكرى على نحو كاريكاتيرى مبالغ فيه. وأهم شىء يَرِد على ذهنى الآن ما لاحظه بعضنا، ولعلى واحد من هذا البعض، من أن الأستاذ روفائيل قد ذكر، بين البواعث التى دفعت المسلمين الأوائل إلى الخروج من جزيرتهم ونشر الإسلام فى أرجاء الأرض، العامل الاقتصادى. وقد ضايقنا هذا، وأحسب أن بعضنا قد ناقشه فيه، وتمت المناقشة بطريقة هادئة ومحترمة من الجانبين. وكنت أتردد على مدرستى هذه حتى بعدما صرت معيدا فى آداب عين شمس، وأذكر أننى قد قابلت الأستاذ فكرى كالعادة فى إحدى زياراتى لأستاذى سيد أحمد أبو رية هناك، وأنبأته بخِطْبَتى الأولى، فأكرم زيارتى وهنأنى على حسن اختيارى، وتمنى لى زواجا سعيدا، وكان ذلك قبل حرب رمضان المجيد. ولا أظننى قابلته بعد ذلك، فقد ترك أستاذى أبو رية الأحمدية إلى طنطا الثانوية، فلم أعد أذهب إلى مدرستى القديمة.