وعد بلفور أسوأ ثمرة للعلمانية الغربية (الحلقة السابعة)
مصطفى إنشاصي
بمناسبة ذكرى وعد بلفور المشئوم أقدم الحلقة الأخيرة لتكون قبل الأخيرة،
كما أنشرها اليوم بدل يوم الأحد الذي سيوافق يوم عيد الأضحى المبارك
أعاده الله علينا وعلى الأمة الإسلامية بالخير واليمن والبركات. وهذه
الحلقة والحلقة التالية هما ردي على المداخلات على المحاضرة أنشرها لأنها
تستكمل نقاط ومراحل مهمة جداً وردت في المحاضرة ولم تأخذ حقها في
التفصيل:
عندما قبلت الحديث حول الموضوع وبدأت بتوضيح معنى ومفهوم مصطلح
(العلمانية) في اللغات الغربية التي نشأ فيها ذلك المصطلح لم يكن عبثاً،
ولكن لأن لكل مصطلح بيئته التاريخية التي نشأ فيها وأكسبته معنى ودلالة
خاصة لا يمكن فهمها إلا بالرجوع إلى تاريخ نشأة المصطلح في بيئته وترجمته
ترجمة دقيقة، لذلك مصطلح العلمانية ليس بتلك البساطة أو السهولة عند
تناوله لمجرد أن البعض ترجمه سواء ترجمة صحيحة أو خطأ، ببراءة أو خبث إلى
أن مصدره في اللغة العربية (العلم) أو (العالم)، ولكنه مصطلح خطير جداً
لأنه سبب الأزمة التي تعيشها أمتنا ومجتمعاتنا منذ نحو قرنين من الزمن!
لذلك أنا لم أقل رأي ولا رأي الإسلام في المصطلح في محاضرتي، أنا آثرت أن
أبدأ بداية أكاديمية لأن المصطلح في الأصل مصطلح غربي ولا أصل له في
اللغة العربية كما زعم البعض، ولكن كل ما في اللغة العربية هي ترجمة
للمصطلح بعيدة كل البعد عن معناه ومدلوله الحقيقي في اللغات الأوروبية،
وفي الغالب هي ترجمة خاطئة مثل كثير من المصطلحات الغربية التي تم
ترجمتها ترجمة خاطئة، وتسببت ومازالت تتسبب في الأزمة الفكرية
والاختلافات الحادة في الرأي بين أبناء الأمة والاتهامات المتبادلة، هذا
يتهم ذاك بأنه علماني والبعض قد يكفر بعض العلمانيين أو كلهم، وذاك يتهم
الإسلاميين بالماضوية والرجعية والتخلف وأنهم يريدون الرجوع بالأمة إلى
عصر الجمل والخيمة والعصور الحجرية، كل ذلك نتيجة الترجمة الخاطئة لمصطلح
العلمانية وغيره من المصطلحات.
وفي الحقيقة أني أوقات كثيرة أجلس مع نفسي وأحدثها: أن إخواننا الذين
يحملون الفكر العلماني لهم عقود طويلة من الزمن وهم ينتقدون ويتهمون دعاة
الفكر الإسلامي أو العروبة الذين يحترمون دين وتاريخ الأمة وتراثها بأنهم
متخلفون ويرفضون التجديد والتطور بما يواكب العصر، في الوقت الذي هم فيه
جامدون على نفس الفهم الخاطئ لمفهوم العلمانية والحداثة وغيرها من
المفاهيم ولم يتوقفوا مع أنفسهم ويقولوا تعالوا بنا نقيم تجربتنا بعد أن
مضى عليها زمن طويل، ونرى أين أصبنا وأين أخطأنا؟! وأسأل نفسي: أليس
الأولى بهم أن ينتقدون أنفسهم ويطالبونها بنفس ما يطالبون به الآخرين؟
وأنه مطلوب منهم بعد نحو مائتي سنة من الدعوة للعلمانية واستبعاد الدين
عن إدارة شئون وحياة الناس وحصره في العلاقة الوجدانية بين الإنسان وربه
وداخل جدران دور العبادة فقط أن يعيدوا النظر في مفاهيمهم ومقولاتهم
لتصحيحها وتصحيح مسار تاريخ ومستقبل الأمة؟ هذا السؤال يجب أن يطرحه دعاة
الفكر العلماني على أنفسهم بجدية كما يطرحونه على غيرهم، أم أنهم يُحلون
لأنفسهم فقط أن يبقَ فكرهم وطروحاتهم جامدة لا تتغير إلى ما شاء الله بغض
النظر عما ألحقه بالأمة من نكبات وكوارث وتخلف وتبعية ...إلخ، ويُحرمون
على غيرهم ذلك ولا يسمحوا لهم بنقدهم أو اتهامهم بالجمود وأن فكرهم هو
سبب نكبة وتخلف الأمة؟! متجاهلين بأنه في الوقت الذي كنا فيه كمسلمين في
صدارة العالم فكرياً وعلمياً وحضارياً كان ذلك بفضل تمسكنا بديننا
وتنفيذنا لتعاليمه واحترام حق الإنسان في التعبير عن رأيه، واستخدام
العقل في البحث والمعرفة وتحقيق الاكتشافات العلمية المتعددة، وتحقيق
معاني كثير من الآيات القرآنية التي حثت المسلم على العلم والبحث العلمي،
وكان يتم ذلك بإشراف ورعاية الدولة وعلى رأسها الخلفاء والأمراء ورجال
الحكم على الرغم من فساد واستبداد كثير منهم، وذلك ما لم يفعله دعاة
العلمانية وقيم العصرنة وأنصارها!.
منذ أن تُرجم مصطلح العلمانية وأنصارها يزعمون أنها سبب تقدم الغرب
ورفاهيته، وكما قدمت من البداية أني لا أريد أن أتحدث عن موقف الإسلام من
العلمانية ولا ما أحدثته العلمانية المسنتسحة في وطننا من أزمات، وما
جلبته علينا من خراب في كثير من نواحي الحياة التي هي مشاهدة ومعاشة ولا
تحتاج للحديث عنها، ولكن الأخ (...) الذي تحدث عن الإسلام ووصفه بالتخلف
وعدم صلاحيته للعصر وإدارة شئون الحياة متجاهلاً أن الإسلام هم السبب
المباشر في حركة النهضة الأوروبية سواء الدينية أو الفكرية أو العلمية،
ولنأخذ مثال على ذلك حركة مارتن لوثر التي يزعمون أنها أهم حركات
(الإصلاح الديني) في الغرب، وأنها هي السبب المباشر لتلك النهضة
الأوروبية وتلك الطفرة العلمية والفكرية التي حدثت في الغرب.
ثورة لوثر التخريبية أضاعت فلسطيننا
كما تعلمون أنه قبل تلك الحركة كانت الكنيسة تضطهد الناس بناء على
احتكارها الحق في تفسير الدين، وحقها في قراءة الأناجيل، وحق رجل الدين
فقط في الاحتفاظ بنسخة من الأناجيل، ويمنعون على عامة المواطنين قراءتها
أو الاحتفاظ بنسخة أو جزء منها، ويمنعون ترجمتها إلى اللغات المحلية،
وممنوع... وممنوع ... وممنوع ...! من أين أتى مارتن لوثر بفكرة أنه من حق
كل الناس أن تقرأ الأناجيل وتفسرها وتحتفظ بنسخة منها في منازلها؟ من
الإسلام، نعم من الإسلام! لأن القرآن الكريم جميع المسلمين من حقهم أن
يقرءوه، ومن حق أي مسلم أوتي قدر من العلم في أمور الدين أن يفسره أو
يعترض على تفسير أو رأي أحد العلماء إذا رأى أن هناك رأي أرجح منه. ذلك
الحق في قراءة وتفسير الأناجيل والحرية في التعبير عن الرأي الذي نادى به
لوثر أخذه عن الإسلام.
أضف إلى ذلك أنه ترجم الأناجيل إلى اللغات المحلية الأوروبية بعد أن كانت
اللغة الوحيدة التي يُكتب بها هي اللغة اللاتينية ويُحرم ترجمته إلى
اللغات المحلية، تلك الترجمة للغات المحلية ساعدت على نشوء القوميات
العرقية في الغرب، وبدأت تؤسس لِما عُرف في الغرب بالفكر القومي، من خلال
أن كل مَنْ تكلموا لغة واحدة إذن هم قومية عرقية ذات أصل واحد، وعليهم أن
يؤسسوا دولة خاصة بهم مستقلة عن سيطرة الكنيسة ورجال الدين، وقد ساعدهم
على ذلك تحالف رجال المال والبرجوازية الأوروبية الناشئة مع فكر لوثر
ودعمها لأنصاره، لتحقيق طموحاتها المالية التي تطورت إلى فكرة الاستقلال
الوطني عن الكنيسة، فاستغلوا بالتعاون مع الفلاسفة والمفكرين والعلماء
الذين أيضاً هم في شوق للتحرر من سطوة وجمود وتخلف الكنيسة ما تراكم عبر
عشرات السنين من تراث شعبي وأدبي وتاريخي وفكري كُتب بتلك اللغات المحلية
بعد أن ترجم لوثر الأناجيل للألمانية وغيرها من اللغات الأوروبية، أصبح
تاريخ مشترك لهم جميعاً يجعلهم يشعرون كأنهم ينتمون إلى بعضهم منذ آلاف
السنين، وبلور لديهم شعور وطني يميز كل مجموعة عرقية عن غيرها من
المجموعات العرقية الأوروبية الأخرى ...إلخ.
كما أن ما نادى به مارتن لوثر من تحريم التماثيل والصور لمريم العذراء
وللمسيح وللقديسين وغيرها مما كان شائع في عُرف الكنيسة وأصبح عندها من
الدين، تُنفق عليها من جيوب الفقراء والمحتاجين والجوعى بدل أن تساعدهم
به على تحسين ظروف معيشتهم، واعتبارها وسيلة ابتزاز من الكنيسة ورجال
الدين للفقراء من أتباع الكنيسة، من أين أخذها؟ من الإسلام بكل تأكيد؛
وقد سبقه للمطالبة بذلك أمراء الأندلس وبرروا طلبهم بأنهم يستحون من وفود
المسلمين عندما يأتون إلى كنائسهم في زيارات رسمية، وقد استطاعوا أن
يحصلوا على قرار من البابا بعد جهود مضنية أن يتم فقط رسم الصور
والتماثيل داخل الكنائس وليس خارجها!.
ولا أعلم لماذا الذين يمجدون مارتن لوثر ويرفعون من شأن ما قام به من عمل
ويعتبرونه (ثورة إصلاحية دينية) ... لا يقولون لنا أن ما قام به مارتن
لوثر وما أحدثه في الغرب هو ثورة تخريبية في الدين النصراني وليس
إصلاحية، وأنه تسبب في نكبة وتدمير العالم بصفة ونكبة أمتنا في هذا العصر
وضياع فلسطيننا بصفة خاصة؟! نعم لا تندهشوا! قبل مارتن لوثر كانت التوراة
تعتبر مقدمة تاريخية للنصرانية، وكان جميع ما فيها من أفكار عن (أرض
الميعاد والعودة إليها) وعن (مملكة أورشليم) تفسر على أن مكانها السماء
وليس الأرض، أن فكرة أن اليهود هم (شعب الله المختار) قد سقطت في عقيدة
الكنيسة بعدم إيمان اليهود بعيسى عليه السلام وإيذائهم له والتآمر عليه
وقتلهم إياه بحسب العقيدة النصرانية، لذلك كان اليهود قبل مارتن لوثر في
الغرب منبوذون ومحتقرون ومضطهدون، وقد طردوا من كثير من الأقطار
الأوروبية أيضاً بسبب جشعهم وحبهم للذهب وسرقة أموال الناس من خلال
إقراضهم بالربا. وقد جاء مارتن لوثر ليعيد لليهود اعتبارهم وقداستهم
باعتبارهم (شعب الله المختار) وأبناء الله وأحباؤه، إلى درجة أن قال:
"علينا أن نلتقط فُتات موائدهم لنقتات به"! في إشارة إلى درجة القداسة
التي رفعهم إليها في العقيدة النصرانية الجديد (البروتستانتية)، وجعل
الاعتقاد بصحة ما جاء في التوراة شرط من شروط الإيمان البروتستانتي،
وأعاد الاعتبار إلى فكرة أن فلسطين هي (أرض الميعاد)، وأنه على جميع
النصارى أن يبذلوا كل ما يستطيعون من أجل إعادة (شعب الله المختار) إلى
(أرضه الموعودة)، وبعد أن كانت (مملكة أورشليم) اليهودية ترمز إلى مملكة
في السماء، وأن (مملكة أورشليم الأرضية) هي للنصارى المؤمنين بالمسيح،
أصبحت هي لليهود ...إلخ، لذلك يسمى المذهب البروتستانتي بـ(المسيحية
الصهيونية)، كإشارة إلى أنه مذهب يهودي أكثر منه نصراني! لم يقل لنا أحد
أن ما قام به مارتن لوثر من تخريب للعقيدة النصرانية كان هو السبب الأول
في نكبتنا وضياع فلسطيننا، وتهديد قدسنا وأقصانا اليوم، لأنه بتلك
الأفكار فتحت أوروبا أبوابها على مصارعها لعودة اليهود إليها سادة
مكرمين، ليفعلوا بها ما يشاءون بزعم أنهم (شعب الله المختار)، ويطالبوا
الغرب بمساعدتهم بشتى الوسائل للعودة إلى (أرضهم الموعودة) تنفيذاً لأمر
الرب، إلى أن أصبح اليهود اليوم يحكمون العالم ويتحكمون في مصائر شعوبه،
ونجد أن الجمعيات الدينية البروتستانتية وأتباع الدين البروتستانتي هم
الأشد تعصباً والأكثر إنفاقاً ودعماً لإعادة بناء (الهيكل الثالث)
المزعوم، والأسرع والأكثر دعماً لهدم المسجد الأقصى. كل ذلك بسبب أفكار
مارتن لوثر الدينية!.
كما أننا نتساءل: لماذا يحق لمارتن لوثر أن يُخرب -لا يُصلح- الدين
بالدين، لأنه حركته التي صوروها لنا على أنها كانت ثورة ضد الدين لم تكن
كذلك؛ ولكنها كانت في حقيقتها ثورة ضد الكنيسة والبابا ورجال الدين تحت
ذريعة إصلاح الدين من فساد وانحراف الكنيسة ورجال الدين عن الأصول
الصحيحة للدين! في الوقت الذي لم يجدد فيه الدين ولم يطوره بما يتناسب
ومقتضيات العصر عقائدياً ولكنه انتكس به إلى رجعية وظلامية أسوأ مما كانت
عليه، وإلى عقائد وأفكار دينية أقدم من عصره بأكثر من ألف سنة، وجمع فيها
بين متناقضات لا يقبلها العقل، عندما جمع بين الإيمان والاعتقاد بأوامر
إله اليهود (يهوه) الخاص بهم من دون كل البشر ومنهم النصارى بالطبع، وبين
الإيمان بالمسيح الذي هو (ابن الله) و(الإله) الذي قتله أتباع (يهوه)
بحسب العقيدة النصرانية؟ لماذا نُطالب بأن نمجد عمله ونعتبره عمل مشروع
ومن أعظم الأعمال التي ساعدت على حدوث النهضة الأوروبية والتحرر من هيمنة
الكنيسة ورجال الدين وعلينا أن نقتدي به ضد الإسلام، في الوقت الذي كل
الأمور الإيجابية في ثورته التخريبية أخذها من الإسلام وعن المسلمين؟!
وعندما أتحدث كمسلم عن الدين وأطالب بالتمسك به والالتزام بتعاليمه على
الرغم من أن النهضة الأوروبية كانت بفضل ما أخذوه عن الإسلام وعلوم
المسلمين، اتهم بالماضوية والتخلف والرجعية والعودة إلى عصور الظلام
والتغني بأمجاد الماضي وليس توضيح أن الإسلام هو الذي كان أهم أسباب
نهضتنا ـ ...إلخ؟! لماذا يحق لمارتن لوثر أن يُخرب الدين بالدين وأنا
أطالب بنبذ الدين والحفاظ عليه علاقة وجدانية بيني وبين الله فقط؟!.
كما أن التحالف الذي حدث بين مارتن لوثر وبعض الأمراء ورجال المال ضد
الكنيسة كان تحالف مصلحة على حساب الدين كما حدث من الإمبراطور قسطنطين
عندما تحالف مع الكنيسة النصرانية للحفاظ على إمبراطوريته، وكان التحالف
من رجال الكنيسة على حساب الدين النصراني وتزييفه وإدخال كثير من العقائد
الوثنية التي أخرجته عن أصله السماوي عليه! فالذين دعموا مارتن لوثر من
الأمراء هم الذين شعروا بالخطر على سلطانهم وتهددت عروشهم وأصبحوا تحت
رحمة البابا بعد خرافة (صكوك الغفران) التي أطلقتها الكنيسة لتحكم
سيطرتها على أتباعها، لذلك أرادوا أن يتحرروا من هيمنة الكنيسة
واستعبادها لهم. أما البرجوازيين ورجال المال الذين دعموا لوثر وحركته لم
يكن حباً في الدين ولا دفاعاً عنه ولكن حرصاً على مصالحهم وطمعاً في
القضاء على النظام الإقطاعي المتحالف مع الكنيسة، الذي يحرمهم من الأيدي
العاملة الرخيصة التي يحتاجونها لتشغيل آلاتهم الصناعية الجديدة ويحرمهم
من استغلالهم أصحاب المهن المختلفة، لأن حاجتهم إلى الأيدي العاملة
وأصحاب المهن المهرة متوفرة في الريف، والإقطاعي كان يملك الأرض ومن
عليها من البشر ولا يسمح لهم أن يذهبوا للعمل مع منافسيه بل أعدائه آنذاك
البرجوازية الجديدة.
تلك المصلحة التي جمعت بين الأمير الإقطاعي الذي يريد التحرر من سطوة
الكنيسة وبين البرجوازي الذي يريد تحرير الأيدي العاملة التي يحتاجها من
قبضة رجال الإقطاع، جعلتهم يغضون الطرف عما أحدثه مارتن لوثر من تغيير
جذري على العقيدة النصرانية من أفكار وعقائد دينية وصلت إلى درجة هدمها
لصالح عقيدة دينية أقدم وأشد تخلفاً ووثنية، هي اليهودية! بمعنى أن ذلك
التحالف كان نتيجة أو استجابة للظرف التاريخ والتطور الاجتماعي الذي حدث
في الغرب، والذي اقتضى التخلي عن عقيدة الكنيسة الكاثوليكية إلى عقيدة
الكنيسة البروتستانتية وانتهى إلى العلمانية السافرة (الميكافيللية
الداروينية) القائمة على المصلحة الشخصية، وتسخير السياسة لخدمة
الاقتصاد، ولا أخلاق في السياسة، والغاية تبرر الوسيلة، والبقاء للأقوى
الذي في فلسفتهم هو الأصلح ...إلخ، تلك العقيدة التي جمعت بين المصلحة
والدين وأنتجت لنا أسوأ كارثة وجريمة إنسانية في تاريخ البشرية وهي نكبة
الأمة الكبرى بزرع العصابات الصهيونية في قلب الأمة والوطن –فلسطين- من
أجل نهب ثرواتنا وتمزيق وحدتنا، ساعدها في ذلك دعاة العلمانية من العرب
والمسلمين الذين تزعموا ومازالوا القيادة السياسية والفكرية للأمة ولم
يضيع فلسطين لا الدولة العثمانية ولا الحركات الإسلامية التي كان يضيق
عليها العلمانيين كل الأرض في كل أقطار الوطن!.
فقد جاء التحالف بين اليهودية العالمية والغرب لتحقيق حلم ديني توراتي
زرعه اليهود في قلوب الغرب الصليبي عبر أجيال وقرون طويلة، حتى أصبح
جزءاً من مورثهم الثقافي الغربي، لقد جاء هذا التحالف ليحقق الخرافة
والأسطورة التوراتية الكاذبة عن (شعب الله المختار) و(أرض الميعاد)
و(خرافة العودة) إليها وإعادة (بناء الهيكل الثالث المزعوم). ولقد تجلى
في هذا التحالف قمة الحقد والعداء الغربي الصليبي للإسلام والمسلمين،
عندما امتزجت فيه الغايات الدينية والسياسية والاقتصادية معاً. وأجمع
الغرب على التنكر لوعده للعرب أثناء الحرب العالمية الأولى بتحقيق
الاستقلال لهم عن الدولة العثماني، وعزم أمره على القيام بارتكاب أبشع
جريمة في التاريخ الإنساني، وهي جريمة إخراج شعب من وطنه وتشريده خارجه
وإعطائه لعصابات إجرامية تدعي أنها (شعب واحد) وهي لا تستحقه. هذا
الإجماع الغربي الصليبي بين جميع الطوائف والمذاهب الدينية والسياسية
النصرانية على عمق خلافاتها وصراعاتها دفع باحثاً ومفكراً يهودياً
صهيونياً إلى وصف (وعد بلفور)، وصفا بالغ الدقة، فقال: "لقد كان (وعد
بلفور)، بمعنى بالغ العمق، وثيقة (مسيحية) أو لنقل قول العابر المتعجل.
(وثيقة بروتستانتية)".
ولا يسعنا إلا أن نختم بقول المجاهد الجزائري أحد أعضاء "جمعية العلماء
المسلمين" الشيخ البشير الإبراهيمي" :وهل يلام العرب بعد هذا – والمسلمون
من ورائهم- إذا اعتقدوا أنها حرب صليبية بعض أسلحتها اليهود وأنها ممالأة
مكشوفة من الدينين الصالب والمصلوب على الإسلام. وكلمة أللنبي في القدس
رنينها مجلجلاً في الآذان وصداها متجاوباً في الأذهان"؟!.
.