حكاية الرهان وجدتي
سوسن البرغوتي
تحضرني الذاكرة عندما كنا صغاراً، لهفتنا الشجيّة ونحن بانتظار حكاية الجدة قبل النوم، نادراً ما كانت تتسرّع في الروي، ربما لتعب أصابها، أو همّ كدّر صفوها، ونواصل الإلحاح، وهي تحاول إشغالنا بموضوعات تضعها أمام اختيارنا، بين هذا الحل أو ذاك، ونبدأ في اختيار ما يناسب قناعاتنا الغضة، لا يلبث أن يحتدم النقاش فيما بيننا، ويتعصب كل منا لرأيه، وأن ما اختاره هو الأفضل.
تصمت الجدة، ثم تقول بصوت هادئ
- فكروا بالأمر ملياً، وغداً إن شاء الله سنصل إلى أمر يرضي به الجميع، ثم تخلد إلى الراحة. نظلّ في حيرة من أمرنا، نمضي الوقت بالحوار تارة، وفي الشجار تارة أخرى، حتى تحين ساعة اللقاء.
في تلك الليلة بدت الجدة متألقة، نشيطة ومستعدة لحكاية جديدة، واتجهت الأنظار إليها، والآذان تستعد لسماع ما سترويه الغالية، التي استقطبت إعجابنا وتقديرنا لرأيها، لما تملكه من مصداقية وموضوعية نسبة لمعلوماتنا البسيطة. الجدة لم تكن من حملة الشهادات الجامعية، إلا أن خبرتها في الحياة، وخوضها تجارب عديدة، مكّنتها من النضوج والوعي، بالإضافة إلى قراءاتها الدائمة وحفظها لآيات من الذكر الحكيم أكسبها المزيد من الإيمان وتشكيل قناعات راسخة، بأن الكلمة مسؤولية، وعلى المرء أن يحتكم إلى ضميره اليقظ، كي يكون على قدر كاف لتحمل المسؤولية كأمانة وضعها الله سبحانه في رقاب عباده المؤمنين.
بدأت الجدة حديثها، بمعاودة سؤال الاختيار نفسه، وأضافت، أنه عندما يعرض عليك أحد موضوعاً ما، إياك أن تختار وتراهن على خيارك، فقد تفشل، وتُصاب بخيبة أمل، فماذا عساك أن تفعل بعد ذلك؟. صمتنا، والصمت ملأ نفوسنا الحيرة، ودارت في دواخلنا أسئلة عديدة، لكن الجدة الوقورة، لم ترد تركنا فرائس الهواجس والشكوك، فغيرت من جلستها، وعادت لتستطرد حديثها بهدوء:
- يا أحبائي، الحياة ليست لعبة سهلة، والناجي منها، من يذكر الله في أقواله وأعماله، وعندما تتعصبوا لخياراتكم، هذا يعني أنكم ترفضون خيارات الآخرين، فكيف تقبلونه لأنفسكم، وتنكروه على غيركم؟. وهنا لا بد أن يضع كل منا نفسه في موضع الآخر، وأن يجيب وكأنه يفكر بطريقته، حتى يستطيع الطرفان الوصول إلى مراد الكل وليس فئة على حساب أخرى.
بدا على وجوهنا الوجوم، وقد صعبّت الجدة الأمر علينا، سرعان ما تداركت الأمر، وأكملت حديثها:
- بالأمس سألتكم سؤالاً، لأرى كيف ستكون ردة فعلكم، وما الذي سيختاره كل منكم، وها قد علمت منكم ما تريدون، فهل تسمحون لي بأن أقول كيف أفكر؟...
رحبنا جميعاً وتنفسنا الصعداء، لأن رأيها سديد ونثق به، وبالتالي سنقتدي به.
ابتسمت ونظرت إلى وجوهنا تدعونا للابتسام، وشربت من كوب الشاي رشفة، ثم أردفت قائلة:
- لو عُرض علي السؤال، لما اخترت، إنما أعطي نفسي فترة للتفكير، ليحصد الجميع ثمار طيبة، فالرهان عادة ما يخسره صاحبه إذا كان خاصاً، وما تراه اليوم مناسباً وسليماً، قد يتغير بالغد، وهكذا..، إلا أن أي منا عندما يفكر بالمصلحة العامة، سيربح الجميع، وعندما يضع كتاب الله بين يديه، ويحتكم له، سيمنحه الله القوة ليكتمل به إيمانه، ويعطيه الحكمة والإحسان.
والآن، كيف نبدأ بموضوع الحوار، وما الأسس التي يجب أن لا تخضع لتطويع العقل وفق مستجدات تتغير، فنصبح أسرى لها، لا أسياد مواقف، ليجد كل منا نفسه بنهاية المطاف، كالشجرة بلا جذور، وأغصانه عارية أمام عواصف تنزعه من مكانه إلى أماكن وأجواء لا تمت لكينونته بصلة، فليتصور أي منا، كيف يكون التأثير السيء على أفكارنا ومعتقداتنا وحياتنا، وصبغها بثقافة ليست منا، فأن نطور ونبني على قواعد راسخة للبناء، جماليات تضيف البهجة والسعادة بالنجاح، أمر، وأن نلغيها ونتبع رياحاً تسلبنا هويتنا وإرادتنا، أمر محزن ونحن الخاسرون.
تشجع أحدنا ووقف متسائلاً:
- وكيف لا نختار، كأننا لا نريد المشاركة؟.
صفقت الجدة، وأشارت له أن يقترب منها، قبلت وجنتيه، وربتت على كتفيه، وأجابته:
- أحسنت يا صغيري، إذاً أنت تفكر بأن تشارك ولا تريد أن تقرر عن البقية..
هز رأسه بالإيجاب وعاد إلى مكانه.
أرادت الحاجة المسنة أن تختم حديثها ليفرح الأطفال ويعملون بما اتفقوا عليه ، فقالت:
- لدينا ما نعرفه.. أما ما لا نعرفه فلا نراهن عليه، والرهان على حصان واحد بساحة السباق، خطأ نقع فيه، فقد يهرم وقد يكبو وقد يصيبه الوهن مبكراً، لذا علينا أن نعمل على ربح السباق لا فوز حصان ما. فالساحات كثيرة والفرسان كثر والأحصنة ليست كلها معدة بكفاءة للفوز، والأكثر أن جميع الاحتمالات مفتوحة، فعلى من نراهن ولماذا؟..
هل أدلكم على طريق ينجيكم من الحيرة والارتباك؟، فهز الجميع رؤوسهم، واعتدلنا في جلستنا، وبحماسة انتظرنا معرفة ما سيلي من حديثها. سعدت الجدة لاهتمامنا وتحفزنا، وأسعدها أكثر، أننا سنأخذ كلامها محمل الجد، فقالت:
- كونوا مع خير الله لا مع شر أنفسكم، واعملوا ليشيع النور أنحاء الأمكنة، لا تظلموا الآخرين، فتُظلمون، ودعوا الخلق للخالق. افعلوا ما تجدونه صالحاً للجميع، وانبذوا ما يفرقكم ويذهب ريحكم، كونوا قوة يخافكم عدوكم، ولا تضعفوا فينقض عليكم، لا تلتفتوا إلى توافه الأمور، وتحدثوا عن أفكار بناءة ذكية لا مدمرة شيطانية، واعملوا كحصى صغيرة لتعبدوا طريقاً طويلاً بعرقكم وجهدكم بإخلاص، فإن قضى أحد منكم فهو شهيد يرتقي للعلا، ولا تعتمدوا على الأعداء، فلهم طريقهم ولنا طريقنا، ولا تعطوهم الأمان لينالوا منا..
شاركوا بالساحات وتسلحوا بالمبادئ والإيمان، ولا تخشوا الفرقة، إن جمعكم هدف الفوز، وإياكم أن يشقوا صفوفكم بالإغراءات والمكاسب الشخصية، فيستفردوا بكم فرادى، وكل دوره آتٍ، ولا تعمي بصيرتكم الأحقاد والمكانة العالية لمرحلة مؤقتة، فإنها كالخنجر تطعنكم وأنتم مدبرون.
اعملوا لقضايا عادلة ولا تغرقوا في الانتصار لأي اصطفافات من أي نوع. صحيح، أنه لا يوجد أبرياء في ساحة الصراع، إلا أنه يوجد من يريد إنهاءه بشرف متسلحاً بمبادىء نبيلة وغايات عظيمة، والأهم كيف ينهيه، وماذا يعد للحسم، وآخر يحصد مكاسبه على موائد اللئام، وغيرهما ارتضى بالذل والخنوع، فهانت عليه كرامته وضاع بمتاهات الفرقة والتعصب، وبات يصارع الرياح كي يصل، ولكن إلى أين؟!.