ستار اكاديمي من نوع آخر
دينُ أكاديمي القرآن ودنيا تلفزيون الواقع
خمسٌ وخمسون دقيقة مدة برنامج أكاديميّ دينيّ، يُبث عبر القناة الماليزية التاسعة ( TV 9 ) بدءاً من الساعة الثامنة والنصف مساءاً من كل خميس. يُنصت فيه المشاهدون بخشوع وتدبر لأعذب القراءات وأجودها ترتيلاً وترنيماً وتجويداً على غرار ظاهرة برامج ( تلفزيون الواقع ) التي انتشرت مع بداية الألفية الثالثة عندما بثت القنوات الأرضية والفضائية برامج لاقت نجاحاً جماهيرياً كبيراً من نوع ( أكاديمي فانتازي ) و( ماليزيان آيدول ) و( ستار أكاديمي ) و( أبرينتس ) و( تاتشيلر ) و( ون إن مليون ) وغيرها من برامج تلفزيون الواقع، وهي برامج يُدرب فيها الطلاب أو المتسابقون على العيش في مجموعات لاكتشاف مواهبهم وقدراتهم في مجال ما، ويمرون بفترات امتحانات وتجارب تكلل إما بالنجاح أو الفشل
وتزامناً مع تلك النوعية من برامج تلفزيون الواقع، تبنت القناة الماليزية التاسعة فكرة برنامج أسمته بـ ( أكاديمي القرآن ). ومع أن من أهم أغراض مثل هذه البرامج هو استهلاك المجتمع تجاريا، والربح والكسب الهائل بأسهل الطرق وأقصر السبل لإنتاج عوائدها الدنيوية البحتة، إلا أن لبرنامج أكاديمي القرآن عوائد دنيوية ودينية أيضا.
إنها أعظم تجارة مع الله عز وجل، التجارة بالدرجات العلى، والمنزلة الرفيعة من الجنة، تجارة لن تخسر ولن تبور ما دامت السماوات والأرض، يقول رب العزة سبحانه وتعالى: "إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور". كيف لا، ولقارئ القرآن بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ففي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"
وبالرغم من تأثر غالبية المسلمين، عوامهم ومثقفيهم بتلك البرامج الترفيهية والدنيوية البحتة إلا أن هناك أُولو بقيةٍ منهم يسعون لنشر نور هذا الدين بطريقة أو بأخرى، وهم الذين قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم: "يرفع الله بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين". فهنيئاً لقارئي كتاب الله وحفظته، وهنيئاً لمتسابقي هذه الأكاديمية مشاركتهم في إحياء ورفع مكانة كتاب الله، وإن كانت جوائزهم لا تضاهي تلك المسابقات والأكاديميات الغنائية في الحجم والقيمة -لقلة الشركات الداعمة لها- إلا أن حجمها وقيمتها في ميزان يوم الحساب عند رب العزة سبحانه وتعالى
تدور محاور هذه الأكاديمية القرآنية على ثلاث محاور أساسية من علوم القرآن الكريم: التجويد، والترنيم، والقرآت. فعلم التجويد له أهميته في تلاوة القرآن، حفاظاً على سلامة معاني الآيات، وبعداً عن اللبس والوقوع في الأخطاء اللغوية. والترنيم بشتى أنواعه ومقاماته: البيات، والنهاوند، والراست، والسيكا، والحجاز، والصبا، والجاهركا وغيرها، تُعد مهارة من مهارات الترتيل والتغني بالقرآن، وإلا أصبح الصوت ناشزا، وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ). ثم القراءات السبع المتواترة برواياتها المختلفة
ويُمثل الأكاديمية مدرسون أكفاء من جميع أنحاء ماليزيا، يقودهم حُكام الأكاديمية: الأستاذ محمد زمري بن محمد زين الدين، المتخصص في التجويد والفصاحة اللغوية، وصاحب الصوت الشجيّ الأستاذ الحاج راضي بن قمر الهايلان، المتخصص في الترنيم والترتيل، والأستاذ محمد نظري بن عبدالله، المتخصص في القراءات السبع. ويقدّم البرنامج كلاً من المذيعة المتألقة فرح أديبة، والمنشد الرائع نظري جوهاني
قد يتعجب بعض المشاهدين من تتبع برنامج أكاديمي القرآن سَنن غيرها من البرامج الغنائية، لكني أظن أن هذا الإتباع له أغراضه الهادفة، وأهمها التأثير على الرأي العام، بما يسميه الإعلاميون بنظرية الثقافة الجماهيرية، وهي أول ما يسترعي اهتمام القائمين على تلفزيون الواقع. فما المانع من أن نلتقط من تلفزيون الواقع لبّه المفيد، ونرمي بقشره الزائف عرض الحائط، فله فوائد جمة -فيما أرى- تعود لصالح الأمة الإسلامية، نتجت منها فكرة إنشاء مثل هذه الأكاديمية القرآنية للتأثير على الرأي العام من المسلمين وغيرهم، وذلك للتذكير بتعاهد القرآن، ولتعريف غير المسلمين بقرآننا بطريقة عصرية وواقعية، في حين لو أن البرنامج أقيم على الشكل التقليدي لمسابقات القرآن الكريم لماَ كان لها ذلك الأثر القوي على قلوب الرأي العام، وذلك ملاحظ في أحاديث الشعب الماليزي عن هذه الأكاديمية سواءً في مجالسهم أو منتدياتهم.. تماماً مثل الأكاديميات الغنائية
وكم يحزنني أن أقرأ مقالاً في إحدى المنتديات الماليزية يصرح فيه كاتبه المسلم عدم معرفته بوجود قراءات مختلفة في القرآن الكريم، فمثل هذه البرامج التلفزيونية الواقعية تُعرّف الجاهل عمّا يجهله وتنوّر له طريق البصيرة والهداية بإذن الله. وكم أثلج صدري مقالاً قرأته للأستاذ خالد بن جمال الدين -المنشور في العدد التاسع من هذه الجريدة الغراء- عن ختم الطفل الماليزي للقرآن الكريم، وكيف يحتفل القوم بمأدبة الشكر لهذه المناسبة العظيمة، وما ذاك إلا دليل واضح في أن المسلمين الماليزيين ما زالوا ينهلون من ذلك النبع الثرّ الزُلال الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فلم لا نعكس سياسة الغرب في محاولتهم لتخريب الأرواح والعقول في توسيع ونشر ما يسمونه بالثقافة الجماهيرة الغربية للتأثير على المجتمعات الإسلامية ودول العالم الثالث، لتكون محاولتنا في تهذيب الأرواح والعقول بنشر ثقافةٍ جماهيريةٍ مسلمة للتأثير على مجتمعاتنا الإسلامية وغيرها من المجتمعات
هذه الأكاديمية أشبه بالمسابقات التقليدية للقرآن الكريم، والتي تقام في شتى بقاع العالم الإسلامي، بيْد أن هذه الأكاديمية اتخذت منهجاً جديداً في تاريخ مسابقات القرآن الكريم. وإنه لشرف لنا أن نخدم كتاب الله بأية وسيلة كانت، مادامت لا تتعارض مع تعاليم ديننا الحنيف، وخاصة في الوسائل الإعلامية لما لها من أثرٍ ووقعٍ بالغٍ في حياتنا المعاصرة. وما فكرة هذا البرنامج ( أكاديمي القرآن ) المستقاة من أفكار غربية إلا وسيلة من الوسائل الدعوية والإعلامية للتأثير على الرأي العام من الذين استهوتهم أفكار الغرب ونهجوا نهجهم، فلا يشربون كأس الروية إلا إذا كانت من أيدٍ غربية، ولاحرج -فيما أظن- إن أخذنا بلُبّ تلك الأفكار وقذفنا بقشرها الزائف عرض الحائط
كوالالمبور، يونيو 2006
ذيبان