#الزاويه_المتنوعه
#حكمه_جدتي
تقول إحداهن :
عشت وأنا صغيرة لفترة مع جدتي...تلك العجوز التي لم تنل قسطاً كافياً من التعليم ، لكن رزقها الله بدلاً من ذلك حكِم فطرية عجيبة وإيماناً عميقاً....
كانت تمر بالبيت أحياناً ظروف إقتصادية صعبة مثلما يحدث في كثير من بيوت الناس لأي سبب ( مثل.. ألا يستطيع خالي إرسال مال لها ) ولا أدري كيف كانت تدبر أمر البيت اثناءها إلى أن تمر الأزمة بسلام.
لكن في يوم لا أنساه..
مرت جدتي بأزمة طاحنة مفاجئة لم تكن في الحسبان... حيث نزلت للسوق لتشتري بعض الحاجيات فضاع منها كيس نقودها أو سرقه أحدهم...
فعادت للبيت ودخلت فوراً وهي شاردة نحو دولاب الملابس لتخرج آخر ما تبقى من نقود ولا أنساها حين تسمرت وهي تنظر للخمسة الباقية في البيت كله..
وأمسكت بها لدقيقة كاملة تنظر إليها وكأن نهر من الأفكار والحسابات المعقدة يمر بعقلها وظهرت لأول مرة في عيْنَيّ المرأة القوية دموع الحيرة والعجز...
ثم كأنها قررت حلاً مفاجئاً ، فالتفتت إلي بحماسة وتصميم تطلب مني أن أساعدها فيما ستفعله.. لكن ما طلبته كاد يصيبني بالجنون.
طلبت مني أن أنزل لشراء عشر بيضات وربع كيلو عدس.. فظننت أنها ستطبخه لنا.. ولكن ..!!
أخذت تطبخ العدس في استغراق وإتقان.. وتصاعدت رائحته الجميلة لتغمر البيت.. وسلقت البيض ، وسخنت بعض أرغفة الخبز.. ووضعت بعض الملح والفلفل في ورقة صغيرة ، ثم أخذت كل هذا.. ونزلت إلى الشارع.. وأعطته لبعض الفقراء في الحي
كدت أجن.. فقد نفد ما عندنا من مال.. وكدت أصرخ فيها : على الأقل كنت أعطني بيضة منهم
وكأنها قرأت ذلك في عيني المذهولة.. فقالت في إيجاز وثقة كلمتين فقط :
(اصبري.. )
رجعنا البيت قبيل العصر.. ولم يكن أمامنا إلا أن ننام لبعض الوقت.
لكننا استيقظنا على صوت طرق مزعج لباب البيت.. فإذا بولد ممن يبيعون في السوق يسألها :
( كيس النقود هذا لك يا حاجة)؟؟
كان سقط منها أمام محله ، ولما حاول اللحاق بها تاهت منه في زحمة السوق .. ولأنه أمين فقد سأل الباعة حوله بعد نهاية السوق عمن يعرف بيت السيدة التي مواصفاتها كذا وكذا والتي تأتينا كل أسبوع فأرشدته إحدى البائعات .
ولم تمض ساعة..
حتى ارتفع صوت طارق آخر
فإذا بصديق لخالي عاد من سفر ليعطينا دين عليه لخالي اقترضه قبل السفر مع هدايا وحلويات .
يومها قالت جدتي :
(يا بنتي.. اللقمة تزيح النقمة..كل ما تضيق بك وتلاقي روحك مضايقة.. اطعمي فقير او محروم)
قلت لها ضاحكة : (طيب كنا نعطي حاجة ثانية أحسن من العدس).
قالت: العدس من الاكل الذي ربنا ذكره في القرآن الكريم.. وكذالك أنا أعطيه للناس لأني أحبه..
قدمي للناس من اللقمة التي تحبيها..
سيعطيك ربنا ويفك كربك
كبرت فيما بعد وعرفت التأصيل الشرعي لثقافة جدتي
عرفت الحديث القدسي
(انفق يا ابن آدم أنفق عليك)
وتعلمت قول الله تعالى :
(وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين)
لم تكن جدتي تحفظ هذه النصوص.. لكن هذا اليقين يسري في كيانها كله.
كانت في أيام الشتاء الباردة تسلق البيض وتوزعه على رجال الأمن الواقفين في الشارع ..!
أو تعمل بعض الطعام وتعطيه لعامل النظافة.
كبرت وقرأت الكثير عن فضائل الإنفاق في سبيل الله وآثاره على العبد في الدنيا والآخرة.
فاستقبلتها في يقين من عاين كل هذا بعينيه ، ورأى كيف يستر الله أسرة بسيطة كبيرة العدد قليلة الرزق عبر سنوات ويعبر بهم نهر الحياة في بساطة وبركة ويسر.
تعلمت أن التعامل مع الله تجارة رابحة.. وأن من تعامل مع الله عرف كرمه ولطفه ورحمته... فقط تعامل معه بيقين...