حَبَنْظَلْ بَظاظاْ الفصلُ الثالث
نفس المَنْظرِ السّابقِ مع تغييرٍ بسيط، لاَ بدَّ مِنَ الإشارةِ إليه.
اختفى كُرسيُّ العرش، والخنزيرُ جَلَسَ على ظَهرِ رجُلٍ جَثَا على يديْهِ ورُكبتيه.
الخنزير:
لم ألتقي بعلي الزئبق سوى مرّاتٍ قليلة، لانشغالي بتحقيقِ رغباتِ زوجَتَهُ دَليلة.
هذا السِكِّيرُ المتعفنُ المتشرِّد، يبكي ويلطِمُ ويَنوح.
يعاقرُ الخمرَةَ لَيلَ نَهار، في حانةٍ حقيرةٍ تُدعى الغُرابُ المذبوح.
عندما تزوجت أُمّي أبي، والعكسُُ هنا غيرُ صحيح، فهيَ التي تَزوَّجتْهُ بلا شُهودٍ ولا عقْدٍ صريح.
كانَ سَيِّدُ الرِّجالَ وزَعيمُ الصَعاليك، دَوَّخَ صاحبَ الشَرِطة وأقَضَّ مَضجعَ سلطانَ المَماليك.
فارسٌ شُجاعٌ مغوارٌ لاَ يُشَقُّ له غبار، ذاعَ صِيتَهُ ودارَت شُهرتهُ على الأمصار.
قويٌّ كالثور، منكاحٌ كالأسد، جميلٌ كالغزال، ألهبَ قلوبَ العذارى، وأَحرَقَ قلوبَ الرجال.
ومِن جملةِ ما ألهبَ مِنْ قُلوبِ النِّساء، كانَ قلْبُ أُمّي الَّتي دَعَتهُ ذاتَ ليلةٍ للعشاء.
وإلى سريرٍ دافئٍ وَثير، وحَرْيرٍ ناعمٍ مُثير، وهمساتُ حُبٍّ، وعِطرٍ وإغراء.
تنشُدُ ساعةَ حُبٍّ صادقةٍ تُسعدُ بها، تهنَأُ مع مَن أحبَّتْهُ ولَو مرَّةً في حياتها.
لكنَّ أبي خذَلها وهَجَرَها في نفسِ اللَّيلةِ، بعدَ أن أكَلَ عشاءها.
الحِرباء:
تدَّعي أُمّي بأنّي كنتُ حَصادَ تلكَ الليلَةَ العصماء، وأبي ينفي ذلك ويؤكد بأنَّها لم تكن عذراء.
لم أهتمّ كثيراً بهَذهِ المهاتَراتُ الصفيقة، فَلا أحد يعلمُ عن أيِّ شيءٍ مَهْما سعى سوى نصفِ الحقيقة.
أمّا الحقيقةُ الكاملةُ الَّتي لاَ أعرفُ سِواها، هيَ أنِّي حَبَنْظَل بَظاظاْ.
الخنزير:
المهم...ترَكها أبي في تلك اللَّيلةِ تَتَلوَى في نارِ غيظِها.
أقسمت بجمالِها على أن تُمَرِّغَ أنفَهُ في التُّرابِ، وتثْأرُ لكرامتها.
هيَ أرادَتْ أن تُسيطِرَ عليه ومَن معهُ مِنَ الصَّعاليك، لِتَضْرِبَ بهم مَن يُنافسُها مِنْ أعيانِ المَماليك.
لَكنَّ الرِّياح لم تجري كما اشتهَت أُمّي، وقلبت مَرْكَبَها أمواجُ عنفوانُ أبي.
ومِن يومِها...صارَ هَذا المسكينُ عُرضَةً للمصائبِ والهزائمِ والويلِ المُنظَّم، فإنَّ كَيدَهُنَّ عظيم، وَكَيدُ أُمِّي دَليلة أشَدُّ وأعظم.
ولم تخْمَد نارُها إلّا حينَ رأتهُ معدماً سكِّيراً محطم.
الببَّغاء:
لاَ تلومُوا أُمّي أيها السّادَةُ ولا تحقدوا عليها، فإنَّ ما فَعَلَتهُ هو عَيْنُ الصَّواب.
فهَذا الرَّجلُ المخبولُ حادَ عن الواقع، وقصَدَ السَّراب.
ترَكَ تَرَفَ القصورِ ودِفئَ الخمورِ ولَذَّةَ الأطعمةِ الفاخِرةِ والشَّراب.
تَرَكَ نعومةَ الحريرِ ولَذَّةَ السَّريرِ مع فاتِنةٍ في رَيعانِ الشَّباب.
ترَكَ كُلَّ هذا، وسَكَنَ الكهوفَ مع الكِلابِ، يشربُ بَولَها ويأكلُ الذُّباب.
وفوقَ كُلَّ هذا...
جاؤوا صَعاليكَُهُ وبايعوا أُمّي بينَ أقفيةِ الجواري وقرقعَةِ النِخاب.
برَبِّكم...ألا يستحقُّ هذا المعتوْهُ، أضعافَ ذاكَ َالعِقاب؟.
الخنزير:
أحياناً كانت أمِّي تتذكَّرُ عدوَّها اللَدود، أو رُبَّما حنينٌ لِحُبٍّ وحيدٍ موءود.
فتجود عليه بكيسٍ كبيرٍ مِنَ الدَّنانير، كنتُ أبدُلُها دَراهِماً وأستكثِرُها على هذا المأفون.
أَدورُ على الحاناتِ أسألُ عن حيٍّ مدفون.
وعِندما ألقاهُ، كانَ يَرْمِقُني بنظراتٍ تُرعِبني، فأرمي حِمْلي وأهرُبَ مَخَافةَ أن يضرِبني.
لَكنَّهُ كانَ يَلتِقطُني مِنْ رقْبَتْي ويرفعُني في الهواء، يضحكُ ويبكي ويَصرخُ بصوتٍ كالعِواء.
أُنظُروا إلى هذا الجُرَذُ القبيحُ، يطيرُ كنسْرٍ في السَّماء.
إنَّ أُمَّهُ البلْهاءُ تدَّعي أنَّهُ ابني، ودليلُها على ذلك أنَّهُ يشبهُني.
حقّاً إنَّهُ يشبهُني...كما يشبهُ الذُبابَ الفراش، يشبهُني...كما يشبهُ البُلبُلَ الخفّاش.
ويسرِعُ أصحابُهُ ويُنزِلوني مِنْ يديه، فيما هو يمزقُ كيسَ الدَنانيرِ وينثُرُها حواليْه.
رُغمَ كُلَّ القرَفِ والنُفورِ اللَذانِ كانَ يرسمهما أبي على وجهه.
إلّا أنِّي كنتُ أقرَأُ فيهِ خطّاً يقول، لَعَلِّي حقّاً كنتُ ابنهِ.
صحيحٌ أنَّهُ كانَ يُمسكُني بكُلِّ قوةٍ لديه، لَكنّي كنتُ أشعرُ بِحَنانٍّ يَسري عبرَ يديه.
الحِرباء:
لم أدري بأنَّ أبي يحبُّ أُمّي هذا الحُبُّ الشديد، إلّا عِندما أسرعتُ إليه أزفُّ لهُ خَبَرَ موتها السَّعيد.
حينَ صَفَعَني وبصَقَ على وجهي، ومنَعَهُ حُرّاسي مِنْ فعلِ المزيد.
لقد سعت أُمّي دائماً لوِصاله، وكانت على الدَّومِ تطلُبُ لِقائِه.
لَكنَّهُ كانَ يرفضُ بصورةٍ قاطِعة، ويصِفُها بالمحتالةِ المخادعة.
كانت أُمّي تحبُّ أبي ومعَ ذلك أرادت قتْلَهُ لأجلي، وكانت تمقُتُ السُّلطان ومعَ ذلك أرْضَت رغباتهِ لأجلي.
كانت تُلَمِّعُ نهدَيها ليَراني فيهما السُّلطان، وتنحَلُ ردْفَيها ليعجَبَ بي السُّلطان.
وتُدَوِّرُ خَصْرَها كي يُحبُّني السُّلطان، وتُعَطِّرُ شفتيها حتَّى لاَ تزكمُ رائحتي أنْفَ السُّلطان.
إنَّ جمالَ وحُسْنَ أُمّي كانَ يوازي ذكائَها اللّامحدود، ومهارتُها في استثمارِ ذلك كانت لأبعدِ الحدود.
فكم مِنْ أُمَراءٍ وقوّادٍ ووزراء قَعُّوا لها ساجدين.
ووهبوها قُصورَهم وذهبَهُم لقاءَ نظْرةٍ راضيَّةٍ مِنْ عينيها السّاحرتين.
وأعتقدُ جازمًا أنَّهُ ما مِنْ رجلٍ في هذا العالم، يرفضُ ودَّها.
إلّا أبي...الرَّجلُ الَّذي شقَّ عصا الطّاعةِ وحطَّمَ قلبَها.
ترَكَها تبيعُ السَّعادةَ للجميعِ في النَّهار، وتستجديها في الليلِ مِنْ دموعٍ كأنهار.
ربَّما لأجل كُلِّ هذا اختارَتهُ مِنْ بينِ الجميعِ ليكونَ أبي!.
أهوَ الحُبُّ والوفاء؟...أَم هوَ الحِقدُ والانتقام؟...ذاكَ هو السرُّ الأبَدِي؟.
الببغاء:
رَفَضَ أبي كُلَّ شيء، حتَّى محاولاتِي لانتشالِهِ مِنْ تلك الحانةِ الحقيرة.
عرَضْتُ عليه مَنصَبَ الوالي وقاضي القُضاةِ وقائدَ الجيش، وأن يكونَ لهُ ألف جارِيةٍ وسريرة.
إلّا أنَّهُ وبعِنادِ البغلِ رَفَضَ كُلَّ ذَلكَ، وأصرَّ أن يبقى صعلوكاً ينامُ في الدروبِ والمسالك.
لَكنِّي أنا السُّلطانُ المعَظَّمُْ، سُلطانُ كُلَّ زمانٍّ وعصر، جَرْجَرْتُهُ رُغماً عنهُ وأحضَرْتُهُ مقيَّداً إلى القصر.
لأُبْقيهِ تحتَ جناحِ سطوتي وهَيْبتي، وأُبْعُِدهُ عن الساعينَ وراءَ كَشْفِ عورتي.
الخنزير:
هل عَرفْتُم الآنَ أيها السّادَةُ مَنْ هو أبي؟.
هل تشاهدوه...أُنظروا أمامكم... وليَنظُر كُلَّ واحدٍ منكم ويتأمل.
َنزِلوا نظرَكُم نحوَ الأسفلِ...والأسفل...
آه، أخيراً أيها السّادَةُ...عثرْتم عليه.
نعم هذا صحيح، إنَّهُ الرَّجلُ الَّذي أجلِسُ عليه.
برَبِّكم...أكانَ عبرَ العصورِ سلطاناً جَلَسَ على كُرسيٍّ مثلَ هذا الكرسي.
طبعاً لاَ، فأنا سلطانٌ غيرُ عادي...أنا حَبَنْظَل بَظاظاْ.
وللحديثِ تَتِمَّة