الإمام ابن كثير المفسر
اسمه ونسبه :
هو إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن ضوء بن زرع، الشيخ الإمام العلامة عماد الدين أبو الفداء ابن الشيخ شهاب الدين أبي حفص القرشي البصروي الدمشقي الشافعي ، المعروف بابن كثير[1] . وُلِد سنة 701هـ/ 1301م[2] ، في قرية مجيدل من أعمال بُصْرى الشام[3] ، وعاش في دمشق[4] .
طفولته و تربيته : كان للبيئة المحيطة بابن كثير أثر كبير في نشأته ؛ فقد كان أبوه خطيبًا ببلدة مجيدل القُرَيَّة إلى أن توفِّي سنة 703هـ ، وبقي ابن كثير تحت رعاية أخيه كمال الدين عبد الوهاب ، الشقيق والشفيق ، وترعرع في طفولته في هذه القرية مدة أربع سنوات ، وهي سن الطفولة يتيمًا بعد فَقْد الوالد ولكنه امتلأ قلبه من ذكريات الطفولة ، ونَعِم بآثار والده المعنوية ، وحفظ أحاديث الناس عن خطب والده ، وأقواله المأثورة ، وأشعاره المحفوظة ، وأدرك بحسِّه منزلة العالم المخلص ، وأثره في الحياة والمجتمع ، ومكانته في القلوب والنفوس ، وسمع من إخوته وأخواته سبب تسميته بإسماعيل ، تيمنًا بأخيه الأكبر (من أبيه) الذي سلك طريق العلم ، فأخذه عن والده .ثم ارتحل إلى دمشق لاستكمال التكوين العلمي ، فاختطفته يد المنون في شبابه ، فوُلِد للوالد هذا الابن الأخير فسمَّاه إسماعيل ليكون كأخيه في طلب العلم ، فاتجه ابن كثير رحمه الله تعالى إلى تحصيل العلم منذ السن المبكر؛ ليقرَّ عين والده في قبره ، وليصبح كأبيه في قلوب الناس .ولما بلغ ابن كثير السابعة من عمره ، ارتحل بصحبة أخيه الشقيق عبد الوهاب إلى مدينة دمشق التي كانت مَوْئِلَ العلماء ، وحاضرة العلم ، ومركز الحضارة ، وينبوع العطاء ، ومحط الأنظار، و مرابع المعرفة التي يفد إليها العلماء والطلاب من كل حدب وصوب .و كان أخوه عبد الوهاب بمنزلة الأب والأستاذ الأول لابن كثير، الذي أخذ منه الشيء الكثير، واستمر في ملازمته والاستفادة من علمه طوال حياته التي امتدت إلى سنة 750هـ .ويحدثنا ابن كثير - رحمه الله تعالى - عن رحلته إلى دمشق بصحبة أخيه عبد الوهاب ، فيقول : " ثم تحولنا من بعده ( بعد وفاة الوالد ) في سنة سبع وسبعمائة إلى دمشق، صحبه كمال الدين عبد الوهاب ، وقد كان لنا شقيقًا ، وبنا رفيقًا شفوقًا ، وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمسين ، فاشتغلت على يديه في العلم ، فيسَّر الله تعالى منه ما يسر، وسهَّل منه ما تعسر" [5] .واستقر ابن كثير في دمشق، وصار ابنًا من أبنائها ، وعالمًا من علمائها ، وخطيبًا ومدرسًا فيها ، وأحبها من قلبه فلم يفارقها حتى مات ودُفن فيها ، وكان وفيًّا لها فكتب تاريخها ، ووصف أفراحها وانتصاراتها ، وبكى أحزانها وأتراحها ، وشارك في أحداثها ، وكان له دور فاعل في ذلك حتى صار يُشار إليه بالبنان : محدِّثًا ومفسرًا ، ومدرسًا ورئيسًا ، ومصلحًا وداعيةً ، ومعلمًا ومؤرخًا [6] .
ملامح شخصيته وأخلاقه : لقد حبا الله ابن كثير - رحمه الله - بكثيرٍ من الصفات الحميدة ، والشمائل الكريمة ، والخلال العذبة ، والتي لا يتصف بها إلا العلماء الأخيار الأفذاذ ؛ ومن هذه الصفات : 1- الحفظ: وهب الله ابن كثير حافظة قوية ، وذاكرة ممتازة ، وموهبة متفوقة ، فكان قادرًا على حفظ العلوم والمتون ، واكتناز المعلومات ، وظهر أثر ذلك في مصنفاته ؛ فقد حفظ ابن كثير القرآن الكريم وهو في الحادية عشرة من عمره ، كما صرَّح بذلك في تاريخه [7] ، وحفظ التنبيه في الفقه الشافعي ، وعرضه سنة ثماني عشرة ، وحفظ مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه [8] ، وحفظ المتون المتنوعة في العلوم ؛ ولذلك وصفه عدد من العلماء بحفظ المتون ، فقال شيخه الذهبي : " ويحفظ جملة صالحة من المتون والرجال وأحوالهم ، وله حفظ ومعرفة "[9] .وقال عنه تلميذه ابن حِجِّي : " كان أحفظ مَن أدركتاه لمتون الأحاديث ، وأعرفهم بجرحها ورجالها ، و صحيحها و سقيمها ، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك " [10] . 2- الإستحضار: اقترنت صفة الحفظ عند ابن كثير بصفة أخرى وهي صفة الاستحضار؛ مما يدل على المنحة الإلهية له بقوة الذاكرة، وقلة النسيان. وهو من أعظم المواهب الإلهية، وأكبر ميزة للعالم والمصنِّف والفقيه ؛ لذلك كان ابن كثير يستحضر المتون والكتب والعلوم حتى لفت نظر المحققين والمحدثين ، فهو ينقل من مصادر عدة ، ولكنه يضع المعلومات بصيغته وأسلوبه الخاص به ، مما يرجح أنه كان يكتب ويصنف من ذاكرته وحافظته ، ويتصرف بذلك حسب مقتضى الحال والمقام [11] . 3- الفَهْم الجيد: هذه الصفة من المنح الإلهية للإنسان ، ومن التوفيق الرباني له ، وتتأثر بالعوامل المكتسبة عن طريق الإخلاص ، والتقصِّي والدراسة، والاستيعاب والاجتهاد ، وتحرِّي الدقة العلمية ؛ مما تساعد صاحبها -بفضل الله تعالى وتوفيقه - على الفهم الجيد ، والإدراك الصحيح ، والاستنتاج المقبول[12] ؛ لذلك يقول عنه تلميذه ابن حجي : " وكان فقيهًا جيد الفهم ، صحيح الذهن " [13] . 4- خفة الروح : وهذه الصفة من الصفات الحسنة للإنسان عامَّةً ، ومن عوامل التفوق والنجاح في التدريس والوعظ خاصَّةً ، وتدل على سماحة النفس ، والاهتمام بالطلاب ، والتخفيف عنهم ، والترويح في التدريس[14] . 5- الالتزام بالحديث والسُّنَّة : من صفات ابن كثير أنه كان حريصًا على التزام السنة ، والدعوة إلى إتباع السلف، وهو ما يظهر عند مراجعة مؤلفاته وكتبه ؛ ولا غرابة في ذلك فهو المحدِّث الفقيه الحافظ لأحاديث الرسول ، وكان ابن كثير رحمه الله يحارب البدع ، ويدعو إلى تركها ، ويساهم في إنكارها ، ويفرح لإبطالها ، ويسجِّل هذه المشاعر والعواطف والمبادئ في كتبه ومصنفاته ، وكان يتتبع البدع ويتألم لوجودها ، ويسعى لإبطالها، ويهلل لإلغائها [15] . 6- الخلق والفضيلة والموضوعية : كانت أخلاق ابن كثير رحمه الله حميدة ، ويلتزم الفضائل والقيم ، وسعة الصدر، والحلم ، والصداقة المخلصة ، والتقدير لشيوخه ؛ فقد ترجم لعدد كبير منهم في تاريخه ، وأثنى عليهم خيرًا ، وعدَّد مناقبهم ، وأثبت فضائلهم ، واعترف بالأخذ عن الأساتذة ، وحسن الصحبة للزملاء والمعاصرين [16] .7- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا من المبادئ الإسلامية الرشيدة في الدعوة والنصح والإرشاد ، والتكافل والتناصح بين أفراد الأمة والمجتمع ، وهو واجب عيني على كل مسلم قادر ومستطيع أن يقوم به [17]؛ لحديث رسول الله"مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ ..." [18] . ويتأكد واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الدعاة والعلماء والمصلحين ، ثم على الحكام والمحكومين ؛ وكان ابن كثير يعرف واجبه في هذا الجانب الخطير، ويؤدِّي حقه في مرضاة الله تعالى للحاكم والمحكومين ، لا يبتغي بذلك إلا الأجر والثواب من الله تعالى ، ولا يخشى في الله لومة لائم ؛ فيقول الحق ، ويقرر الشرع ، ويؤدي الأمانة ، ويبلِّغ حكم الله تعالى في كل الأمور والظروف والأحوال ، ولو كان الأمر يتعلق بشئون الحكم ، والخلاف بين الأمراء الذين يحاولون أن يتحصنوا بفتوى كبار العلماء ، ويجعلوها ذريعة لتحقيق مآربهم [19] . 8- إنصاف الخصوم : يقول الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] . و العدل مطلوب من الحكام والقضاة ، ومن كل ذي ولاية وسلطة مهما تنوعت واختلفت وتفاوتت درجتها ، وذلك بإنصاف الناس -وحتى الخصوم - من النفس ، وحينئذٍ يصبح الإنسان من السابقين إلى ظلِّ الله تعالى يوم القيامة .والعدل من الفضائل ، وخاصةً إذا كان الأمر مع الخَصْم ، فهو أعلى درجات العدل بأن ينصف الإنسان خصمه من نفسه ، وهذه المرتبة العليا لا يبلغها إلا القلة ، وتدل على أن صاحبها بلغ رتبة عالية من تطبيق أحكام الشرع وآدابه ، ومراقبة الله تعالى في ذلك ، حتى يجاهد نفسه فيخضعها للحق ، ويقف بها عند جادَّة الصواب ، ولا يستسلم لهواه وأهوائه .وهذا ما حدث مع ابن كثير - رحمه الله - في ترجمته لكثير من خصومه في الرأي والفكر والمواقف، فيصفهم بالحق والعدل ، ولا يتجنى عليهم ، ولا ينقصهم صفة لهم ؛ ومن الشواهد الكثيرة على ذلك نجد في (البداية والنهاية) أنه كان بين ابن كثير وبين قاضي القضاة تقي الدين السبكي خصومة فكرية ، وتشاء الظروف أن تُوجَّه اتهامات إلى قاضي القضاة بالتفريط في أموال الأيتام ، وطُلِب من المفتين أن يضعوا خطوطهم بتثبيت الدعوى ضده لتغريمه ومحاكمته ، ويصل الأمر إلى صاحبنا العلامة ابن كثير ذي الخُلُق الكريم ، والموقف العادل، فيأبى الكتابة ، ويُنصِف قاضي القضاة ، ويوقف الافتراء والاتهام إلى أن يتبين الحق ، ويسجِّل ذلك في تاريخه في أحداث سنة 743هـ [20] . 9- الإصلاح الديني : نزل الإسلام صافيًا من السماء ، وبلغه رسوله عليه الصلاة والسلام حتى لحق بالرفيق الأعلى ، وقد ترك أمته على المحجة البيضاء ، والتزم الصحابة - رضوان الله عليهم - بهذا الطريق القويم ، وأدوا الأمانة ، ونشروا الإسلام في الخافقين ، وسار التابعون وتابعو التابعين على نهجهم ، فكانوا خير القرون في تطبيق الإسلام ، ونصاعة مبادئه . ثم بدأ يعلق به الغبار مع الأيام ، وتُضاف إليه بعض الأمور التي لا تتفق مع جوهر الدين ، وتُلحق به البدع والخرافات شيئًا فشيئًا ، وقد تستشري في بعض الأحيان لتشوه صورة الإسلام النقية . وهنا يأتي دور العلماء والدعاة والمصلحين الذين ينادون بالدعوة إلى تطبيق الإسلام ، والعودة إلى مبادئه الصافية ، وتطهيره من البدع والخرافات . وقد ظهر في القرن السابع والثامن الهجريين علماء أفذاذ يمثلون هذا الاتجاه الإصلاحي ، وكان الأشهر والأبرز في هذه المدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية ، الذي وقف في وجه البدع والخرافات الموجودة والمنتشرة في ذلك الوقت ، ورفع الراية في وجه المبتدعة وغلاة الصوفية . وكان من نتيجة ذلك أن انقسم العلماء والفقهاء والحكام والناس في شأن ابن تيمية إلى فريقين، فتحامل عليه علماء الصوفية ، وكثير من الفقهاء والقضاة حتى وشوا به عند الحكام، فوقف بعضهم بجانبه، والبعض الآخر وقف ضده ، وكان من الذين وقفوا مع ابن تيمية وناصروه ابن كثير رحمه الله [21] .
شيوخه : أخوه الأكبر عبد الوهاب بن عمر بن كثير كمال الدين [22] ، وعيسى المطعم ، وأحمد بن الشيخة ، والقاسم بن عساكر، ومحمد بن محمد بن محمد الشيرازي ، وإسحاق بن يحيى الآمدي ، ومحمد بن أحمد الزراد ، وابن قاضي شهبة ، وابن الزَّمْلَكاني ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، وبرهان الدين الفزاري (ابن الفِرْكاح) ، ومحمد بن شرف الدين البعلبكي الحنبلي ، وابن الشحنة ، وعبد الله بن محمد بن يوسف المقدسي ، وأبو الفتح الدَّبُوسي ، وعلي بن عمر الواني ، ويوسف الختني ، ومؤرخ الشام البِرْزالي ، والحافظ أبو الحجاج المِزِّي ، ومؤرِّخ الإسلام الذهبي ، وشمس الدين الأصفهاني ، وغيرهم [23] .
تلاميذه : من أشهر تلاميذ ابن كثير: سعد الدين النووي [24] ، وشهاب الدين بن حجي [25] ، وابن الجزري [26] ، و الزركشي [27] ، وغيرهم .
مؤلفات ابن كثير: (تفسير القرآن العظيم) ، و(البداية والنهاية) ، وكتاب (التكميل في معرفة الثقات والضعفاء و المجاهيل) جمع فيه كتابي شيخيه المِزِّي والذهبي وهما : " تهذيب الكمال في أسماء الرجال" و"ميزان الاعتدال في نقد الرجال" ، مع زيادات مفيدة في الجرح والتعديل . و(تخريج أحاديث أدلة التنبيه في فروع الشافعية) ، و(تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه) ، و(فضائل القرآن) ، وكتاب في السماع ، ومسند الشيخين ، والنهاية في الفتن والملاحم ، والمقدمات ، ومسند عمر بن الخطاب والآثار المروية عنه .وكتاب (الهَدْي والسَّنَن في أحاديث المسانيد والسُّنَن) وهو المعروف بجامع المسانيد ، جمع فيه بين مسند الإمام أحمد و البزار وأبي يعلى ومعجمي الطبراني مع الكتب الستة : الصحيحين والسنن الأربعة ، ورتبه على الأبواب . و(طبقات الشافعية) مجلد وسط، ومعه مناقب الشافعي ، وشرع في (شرح صحيح البخاري) ولم يكمله ، وشرع في كتاب كبير في (الأحكام) وصل فيه إلى الحج ، واختصار علوم الحديث ، اختصر فيه مقدمة ابن الصلاح المعروفة ، وسمَّاه (الباعث الحثيث) ، و(مسند الشيخين) يعني أبا بكر وعمر، و(السيرة النبوية) مطوَّلة ومختصرة ، و(الاجتهاد في طلب الجهاد) ، و(قصص الأنبياء) ، وغيرها [28] .
منهج ابن كثير في تفسيره : أ- تفسير الآية بعبارة سهلة ، وبأسلوب مختصر، يوضِّح المعنى العام للآية الكريمة .ب- تفسير الآية بآية أخرى إن وجدت ؛ حتى يتبين المعنى ، ويظهر المراد ، وقد يذكر ابن كثير عدة آيات في تفسير الآية الأولى، وكأنه يجمع بين الآيات المتشابهة والمتماثلة في المعنى ، والمتحدة في الموضوع ، فتأتي الآيات المتناسبة في مكان واحد .ج- رواية الأحاديث بأسانيدها غالبًا، وبغير إسناد أحيانًا لإلقاء الضوء النبوي على معنى الآية ؛ لأن وظيفة الرسول التبليغ والبيان . د- تفسير القرآن بأقوال الصحابة ؛ حيث يُردِف ابن كثير في تفسير الآية ما وصله من أقوال الصحابة في تفسير هذه الآية ، حسب المؤهلات التي يمتلكونها . هـ - الاستئناس بأقوال التابعين وتابعي التابعين ومَن يليهم من علماء السلف ، وخاصةً أهل القرون الأولى الذين شهد لهم النبي بالخيرية ، وحملوا الدعوة والإسلام [29] . و- الإسرائيليات: نتج عن روايات بعض الصحابة وبعض التابعين وجود الأحاديث والروايات المأخوذة من مصادر أهل الكتاب، والتي تُسمَّى الإسرائيليات ، ومعظمها غير صحيح وغير معقول ، وأكثرها غرائب وطرائف . وقد نوَّه ابن كثير على وجود هذه الإسرائيليات في مقدمة تفسيره ، فقال : " تُذكر للاستشهاد لا للاعتضاد "[30] . وكان ابن كثير ينبِّه على الإسرائيليات والموضوعات في التفسير، تارةً يذكرها ويعقِّب عليها بأنها دخيلة على الرواية الإسلامية ، ويبين أنها من الإسرائيليات الباطلة المكذوبة ، وتارةً لا يذكرها بل يشير إليها ، ويبيِّن رأيه فيها . وقد تأثر في هذا بشيخه ابن تيمية ، وزاد على ما ذكره كثيرًا ، وكل من جاء بعد ابن كثير من المفسرين ممن تنبه إلى الإسرائيليات والموضوعات ، وحذر منها .ولا عجب في هذا ، فهو من مدرسة عُرفت بحفظ الحديث ، والعلم به روايةً ودرايةً ، وأصالة النقد ، والجمع بين المعقول والمنقول ، وهي مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه : ابن القيم ، والذهبي ، وابن كثير، وأمثالهم . ز- الأحكام الفقهية : يتعرض ابن كثير عند تفسير آيات الأحكام إلى بيان الأحكام الشرعية ، ويستطرد في ذكر أقوال العلماء وأدلتهم ، ويخوض في المذاهب ويعرض أدلتهم . حـ - الشواهد اللغوية والشعرية : اعتمد ابن كثير على اللغة العربية في فهم كلام الله تعالى الذي نزل باللغة العربية ، ويجب أن يفسر حسب مقتضى الألفاظ ، وأساليب اللغة ، ودلالات الألفاظ ، وشواهد الشعر التي تدل على المعنى ، وتوضِّح المراد . ط - الأعلام والرجال : حرص ابن كثير على ذكر الأعلام الذين نقلت عنهم الآراء؛ ليكون دقيقًا في نقله ، مع المحافظة على الأمانة العلمية ، فجاء تفسيره زاخرًا بأسماء العلماء وأعلام الرجال . ك- قوة الشخصية : عرض ابن كثير لأحاديث متعددة ، وروايات كثيرة ، وأقوال مختلفة ، ولكنه لم يقف عند هذا الحد ، بل كانت شخصيته العلمية واضحة وبارزة ، فكان يبين درجة الأحاديث ، ويثبت صحة أكثرها ، ويضعِّف بعض الروايات ، ويعدِّل بعض الرواة ، ويجرِّح بعضًا آخر؛ وكل ذلك لباعه الطويل في فنون الحديث وأحوال الرجال . وسار على هذا النهج في إيراد الأحكام الفقهية ، وآراء المذاهب ، فيعمد إلى بيان الراجح منها ، والموافق لدلالات الآيات الكريمة . ي- الاقتباس : كان ابن كثير رحمه الله يعتمد على من سبقه من المفسرين ، وينقل عنهم ، ويصرح بذلك ؛ ومنهم إمام المفسرين ابن جرير الطبري ، وابن أبي حاتم ، وابن عطية ، وأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية [31] .
آراء العلماء فيه : قال عنه الذهبي : " الإمام الفقيه المحدِّث البارع عماد الدين ، درس الفقه وأفتى ، وتفهم العربية والأصول ، ويحفظ جملة صالحة من المتون والرجال وأحوالهم ، وله حفظ ومعرفة "[32] . وقال الذهبي في المختص : " الإمام المفتي، المحدث البارع ، ثقة ، متفنن ، محدث متقن "[33] . وقال عنه السيوطي : " الإمام المحدث الحافظ ، ذو الفضائل ، عماد الدين ... "[34] .وقال عنه المؤرخ الشهير ابن تغري بردي : " الشيخ الإمام عماد الدين أبو الفداء ... ، وجمع وصنَّف ، ودرَّس وحدَّث وألَّف ، وكان له اطلاع عظيم في الحديث والتفسير والفقه والعربية وغير ذلك "[35] .وقال ابن حبيب فيه : " إمام ذوي التسبيح والتهليل ، وزعيم أرباب التأويل ، سمع وجمع وصنَّف ، وأطرب الأسماع بقوله وشنَّف ، وحدَّث وأفاد ، وطارت أوراق فتاويه إلى البلاد ، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رئاسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير"[36] . وقال عنه الزركلي : " حافظ مؤرخ فقيه "[37] .
آراء العلماء في مؤلفاته : قال السيوطي عن تفسير ابن كثير: " وله التفسير الذي لم يؤلَّف على نمطه مثله "[38] . وقال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة : " وسارت تصانيفه في البلاد في حياته ، وانتفع بها الناس بعد وفاته "[39] . وقال الذهبي في المعجم المختص : " وله تصانيف مفيدة "[40] .وقال ابن تغري بردي عن كتابه (البداية والنهاية) : " وهو في غاية الجودة ... وعليه يعول البدر العيني في تاريخه "[41] .
وفاته : اتفق المؤرخون على أن ابن كثير - رحمه الله - تُوفِّي بدمشق يوم الخميس ، السادس والعشرين من شعبان سنة 774هـ/ 1373م عن أربع وسبعين سنة ، وكانت جنازته حافلة ومشهودة ، ودُفن بوصية منه في تربة شيخ الإسلام ابن تيمية لمحبته له ، وتأثره به ؛ لينعم بجواره حيًّا وميتًا [42] . وقد رثاه أحد طلاب العلم فقال :
يتبع