المركز الرابع لأبطال الفساد في العراق !!
الباحث : عبدالوهاب محمد الجبوري
طالعتنا وسائل الإعلام أن العراق تحرك من المركز الثاني إلى المركز الرابع في مستوى الفساد حسب التصنيف الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية ضمن تقريرها الذي صدر مؤخرا وأعطى للعراق والسودان درجة ونصف الدرجة في مستوى النزاهة من أصل 180 دولة، وبالتالي فان العراق حلّ رابعا بعد أن كان في المركز الثاني ، وكان تقرير سابق لمنظمة الشفافية العالمية الصادر أوائل تشرين الثاني عام 2006 قد اظهر أن هاييتي اشد الدول فسادا، إذ حصلت على 1.8 درجة تلاها العراق برصيد 1.9..
هنا نعيد صياغة الخبر فنقول : أن أبطال الفساد في العراق هم الذين حصلوا على المركز الرابع عالميا في الفساد وليس العراق – أرضا وشعبا وتاريخا وحضارة – وهو بريء مما يرتكب باسمه من أعمال مشينة ومؤلمة وجرائم وفساد وقتل وتخريب ودمار ..
فظاهرة الفساد – وان كانت هي ظاهرة عالمية – لكنها بدأت تأخذ في العراق أبعادا خطيرة حتى باتت تهدد المجتمع العراقي لما لها من نتائج سلبية تطال كل مقومات الحياة لعموم أبناء الشعب، فتهدر الأموال والثروات والوقت والطاقات وتعرقل أداء المسؤوليات وإنجاز الوظائف والخدمات، وبالتالي تشكل منظومة تخريب وإفساد تسبب مزيداً من التأخير في عملية البناء والتقدم ليس على المستوى الاقتصادي والمالي فقط ، بل في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية ، ناهيك عن مؤسسات ودوائر الخدمات العامة ذات العلاقة المباشرة واليومية مع حياة المواطنين ، ولعل من ابرز مسببات بروز هذه الظاهرة هو الاحتلال وإفرازاته على كافة المستويات ، وكان في مقدمة من سهل ظهور الفساد وانتشاره وشجع عليه وطبقه منذ الأيام الأولى للاحتلال هم المحتلون أنفسهم حتى امتد الفساد إلى لجان الأمم المتحدة العاملة في العراق ..
فمنذ الأيام الأولى للاحتلال سمحت قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني لعصابات المجرمين والسرّاق والقتلة المحترفين، ومن لهم مصلحة في تخريب هذا الوطن إلى ارتكاب أفظع عمليات النهب والتخريب والحرق المتعمد لمختلف وزارات الدولة ودوائرها ومؤسساتها الثقافية والعلمية، ومتاحفها وذاكرتها السياسية والأدبية والعلمية وتاريخها العريق، في أكبر عملية نهب وتخريب منظم في العالم لبلدٍ بهذا الغنى والعمق الحضاري كالعراق ..
كل هذا جرى تحت سمع وبصر قوات الاحتلال، وقد كان الباحث شاهدا على ما حصل ورأى بأم عينيه كيف سمح جنود الاحتلال للعصابات والغوغاء – قسم منهم جلبهم المحتلون معهم عند دخولهم العراق بعد أن تم تدريبهم في معسكرات خاصة في أوربا للقيام بمثل هذه الأعمال وقسم آخر كان قد تم تهيئتهم في بعض دول الجوار لهذا الغرض أيضا - بنهب وسرقة كل وزارات الدولة ومؤسساتها والدور الحكومية وحتى دور المسئولين وكبار الضباط السابقين والممتلكات الشخصية لكثير من المواطنين لم تسلم من هذه العمليات ، في حين كانت مفارز خاصة من قوات الاحتلال تحمي وزارة النفط والمؤسسات والدوائر التابعة لها ومنعت أي شخص من التقرب إليها ، وهذا يفسر احد أسباب احتلال العراق وهو الاستحواذ على نفطه والهيمنة على باقي ثرواته المختلفة ..
وفي نفس السياق تسببت إجراءات الاحتلال المذكورة ، إلى حدوث انفلاتات في هذه الظاهرة حيث امتدت من الأفراد والمؤسسات الخاصة والحكومية إلى بنية الدولة ونخبها السياسية وتحولها إلى بديهية سياسية اجتماعية اقتصادية ، لتصبح أكثر خطورة عندما يتم استخدامها من قبل جهات مختلفة لتعزيز قواها السياسية والاقتصادية والأمنية لتعظيم منافعها الخاصة بتكاليف ضخمة على حساب عملية التنمية الاقتصادية الاجتماعية التي حل محلها في العراق ما يعرف بـ (عملية أعادة الأعمار )..
ومن إفرازات هذه الظاهرة وانعكاساتها المؤثرة في الجسد العراقي أيضا هو ذلك الخلل الجسيم الذي يصيب أخلاقيات العمل وقيم المجتمع مما يؤدي إلى شيوع حالة ذهنية لدى الأفراد تبرر الفساد وتجد لـه من الذرائع ما يبرر استمراره ، ويساعد في اتساع نطاق مفعوله في الحياة اليومية ، إذ نلاحظ أن(الرشوة) و(العمولة) و(السمسرة) أخذت تشكل تدريجياً مقومات نظام الحوافز الجديد في المعاملات اليومية، والذي لا يجاريه نظام آخر ، ويرى باحثون ومتابعون للوضع العراقي أن (مضاعفات الفساد) عندما تتفاقم مع مرور الزمن، وتصبح(الدخول الخفية) الناجمة عن الفساد والإفساد هي الدخول الأساسية التي تفوق أحياناً في قيمتها (الدخول الاسمية) ، مما يجعل الفرد يفقد الثقة في قيمة(عمله الأصلي) وجدواه، وبالتالي يتقبل نفسيا فكرة التفريط التدريجي في معايير أداء الواجب الوظيفي والمهني والرقابي ..
والاسوا في ظاهرة الفساد المتعددة الأشكال هو الاستخدام السيئ للسلطة العامة من أجل كسبٍ شخصي أو مكانة اجتماعية بطريقة مخالفة للقانون والشريعة والمعايير الأخلاقية وهو يمثل انتهاكا صارخا للمصلحة العامة وانحرافا عن السلوك غير المشروع وغير المقبول دينيا أو أخلاقيا أو اجتماعيا ...
ومع اقتراب موعد الانتخابات القادمة - التي ستجري في كانون الثاني عام 2010 – بدأت تشهد أروقة البرلمان العراقي صراعات سياسية تطل برأسها لتأخذ من محاربة الفساد منصة تنطلق منها الكتل السياسية المتناحرة للظهور بمظهر المتصدي للفساد طمعا في حصد مزيد من الأصوات في الانتخابات النيابية المقبلة، وهو ما يؤشر أن الفساد في العراق بشتى مظاهره سيظل – كما وصفه خبراء عالميون - مشكلة فتاكة ومستوطنة على جميع المستويات، فقد التهم مليارات الدولارات وعطل عملية إعادة الأعمار وضاعف معاناة العراقيين، لكن الاسوا ما فيه أن عفونته وصلت إلى أرزاق الناس وصحة أبدانهم فرفعت نسبة الوفيات بين أبنائهم ، وخاصة الأطفال نتيجة سوء التغذية وانتشار الأوبئة ، حتى أن تقرير منظمة (أنقذوا الأطفال) الأميركية جعلت العراق ضمن مجموعة من أفقر دول العالم مثل بوتــسوانا وزمبابوي في نسبة بقاء الأطفال على قيد الحياة ..
وطالما بقي الاحتلال وإفرازاته التي تأسس عليها منذ العام 2003 فان الفساد سيظل إحدى الآفات التي تنخر في الجسد العراقي إلى أن يمنّ الله على العراقيين بمن سينقذهم من هذه المحنة وسوف يأتي اليوم الذي سيحاسب فيه كل من فرّط بحقوق شعبه ونهب ثرواته وسلم بلده للأجنبي والمحتل ويقينا فان العراقيين الغيارى لن يصبروا على ضيم إلى ما لا نهاية بعون الله ..