حلقة أخرى من كتابى: "من كُتَّاب الشيخ مرسى إلى جامعة أكسفورد- محطات على مسيرتى الروحية"
إبراهيم عوض
وبعد وفاة والدى كانت كرة القدم وصيد الطيور، وبخاصة الهدهد ذو العرف الملون الجميل وأبو فصادة، الذى لا يكفّ عن ترعيش ذيله، وتطييرُ النموس وطيارات الورق ساعة العصارى على الزراعية تمدنا بزاد عظيم من البهجة. وكانت القرية على فقرها وقَشَف المعيشة فيها أمتع منها الآن، وكانت الحقول والبساتين تحيط بها قريبا من بيتنا بخلاف الوضع الحالىّ، إذ يجب علىَّ الآن أن أمشى مسافة كبيرة داخل الشوارع والحارات الجديدة التى نشأتْ مع توسع العمران بالقرية قبل أن أجد نفسى فى النهاية وسط الحقول حيث أحب دائما أن أكون وأتنزه وأفنى فى الطبيعة وأنا أجوس وحدى بين الغيطان والأشجار والنخيل والجداول والطيور والمزروعات فى سكون وسكينة. ولم تعد فى قريتنا أية حدائق منذ وقت بعيد.
ولا تزال هناك فى خزانة عقلى ذكرى جميلة أرانى فيها، وأنا طفل صغير، فى الحقل مع بعض أقربائنا ضحى يوم صيفى جميل، وقد غمر الماء زراعتهم، ولعلها البرسيم، وقد أخذت الفراشات تطير حولى، والمكان كله خضرة نضرة، وأنا منطلق على حريتى سعيدا هانئا أفيض ابتهاجا، فقد كان أهلى تجارا ليس لهم أرض يزرعونها كأقاربى هؤلاء، فكان الذهاب إلى الحقل والانطلاق بين أحضان الطبيعة شيئا مذهلا بالنسبة لى. وكثيرا ما ركبت النورج مع بعض أقاربنا هؤلاء حين يأتى الصيف ويدرسون القمح فى الجرن، فيدور النورج بعجلاته الحديدية المسنونة فوق أعواد القمح عدة أيام حتى ينتهوا من "الدِّرَاس" كما يسمونه. وذات مرة كنت راكبا النورج من الخلف واقفا على عارضته السفلية، وأحد الفلاحين من جيران بيت خالى يسوقه ويفرقع بالفرقلة للجاموستين اللتين تشدانه فى شكل دائرى، وإذا بى أفقد توازنى وتسقط قدمى تحت العجلات، فأخجل من الصياح. ولكن ربنا ستر، وتنبه جارنا الفلاح، فأوقف النورج وأنقذنى. وكانت ساقى تؤلمنى إيلاما شديدا من الجروح التى أصابتنى والتى تفاقمت بفعل اشتداد الحر.
وما زلت حتى الآن أعشق التجول وسط الغيطان بعيدا عن المساكن، ومتى ما زرت القرية، على قلة ما أزورها الآن على عكس ما كنت أفعل قديما، أنتهز أية فرصة لآخذ جولة بين الحقول حيث أرتدّ بسرعة فأصير ذلك الصبى القديم الذى يريد أن يذوب فى عناصر الطبيعة، وأتمنى على الله أن يبعثنى يوم القيامة فى مثل هذه الخضرة وبين هذه الأنهار، وأسمع أصوات هذه الطيور، وتشملنى هذه السكينة العجيبة. وبين الحين والحين أتطلع إلى السماء وأبتهل صمتا أو همسا إلى الله أن يرحمنى ويتجاوز عن عيوبى وأخطائى وتقصيرى. وهنا أرجو ألا يفهم القراء أننى ملاك، فابتهالى لربى فى وسط هذا السكون لا يعنى أبدا أننى رجل تقى نقى، بل يعنى أننى أحبه سبحانه ولا أريده أن يعذبنى. ولا أظن إلا أن كل الناس يكرهون العذاب ويبتهلون إلى ربهم أن يتجاوز عن أخطائهم وخطاياهم. أم هناك من يدعوه عز وجل أن يقذف به فى النار؟
ومرة من هذه المرات منذ سنوات بعدما كبرت وصرت أستاذا جامعيا كنت أجوس خلال الحقول على شط جدول قريب من القرية فيما وراء المقابر ورأيت هناك رجلا ريفيا طيب القلب دائما ما كنت أداعبه كلما مررت به، وكان مستلقيا تحت شجرة صفصاف، فقلت له بعد أن توقفت عنده وتحادثنا قليلا: يا عمّ سْدَحْمَد، هل يمكنك أن تصف لى الجنة كما تتصورها؟ فأخذ يشير بيده إلى الحقول والنباتات من حوله قائلا: ستكون مثل ما نراه حولنا الآن: برسيم وبصل وأشجار. وأخذ يعدد ألوان النباتات الموجودة فى الحقول آنذاك. فضحكت مسرورا بالإجابة وقلت فى نفسى: يمينا لتكونن أحسن البشر حظا لو كُتِبَ لك يا إبراهيم أن تنجو من العذاب فيبعثك الله يوم القيامة فى مثل ذلك المكان ببصله وبرسيمه وشجره ومائه وطيره وسكينته وهدوئه ونظافته وشمسه الحنون ونسيمه العليل. وهل أنت طائل؟ المهم ألا يُلْقَى بك فى النار. ثم مضيت وأنا أستعجب من الرد العبقرى الذى سمعته من الشيخ الطيب سائلا المولى أن يجعله من أهل الجنة.
والآن إذا ما نظرت إلى أبرز ما بقى فى ذهنى من أحداث تلك المرحلة، أى المرحلة الإعدادية الأزهرية، فإنى لا أزال أذكر كيف كنت أمشى فى طرقات القرية فى إجازة الصيف التى سبقت انتقالى إلى السنة الرابعة الإعدادية فى معهد طنطا الأحمدى وأنا أقرأ فى كتاب "الحسين أبو الشهداء" للعقاد. ولا أظننى كنت أفهم الكتاب جيدا، لكن المهم أننى كنت حريصا على القراءة فى مثل هذا الكتاب، وكنت حريصا أيضا على ألا تفارقه عيناى حتى أثناء المشى. وكان ذلك فى الإجازة التى تفصل بين السنتين الثالثة والرابعة، إذ كانت المرحلة الإعدادية الأزهرية أوانذك أربع سنوات، بينما الثانوية خمس.
وكانت المرحلة الإعدادية الأزهرية تسمى قبل ذلك: "الابتدائية"، وظلت تحتفظ بهذه التسمية إلى أن انتقلنا إلى السنة الثالثة، فتغيرت تسميتها، ودخلتها اللغات الأجنبية فى نفس التوقيت، فكان من نصيبى دراسة اللغة الفرنسية. لم يخيرونا فى ذلك، بل فرضوه علينا فرضا، إذ جعلوا الفرنسية من نصيب الفصول الأربعة الأولى، والإنجليزية من نصيب الفصول الباقية. ولما كان اسمى "إبراهيم"، أى فى أول فصل، كان لزاما علىَّ أن أدرس الفرنسية. وقد كان. وفى البداية ألفيت الأمر عسيرا بعض الشىء، إذ دخل بنا الأستاذ سريعا على الجمل الكاملة بما فيها من أفعال متصرفة لا ندرى ما علاقتها بمصادرها، وبالذات صيغ الفعلين: "être" و"avoir"، اللذين يبتعدان فى التصريف عن مصدريهما ابتعادا تاما فلا أستطيع الربط بين الأمرين بخلاف ما عليه الوضع فى العربية، فضلا عما لاحظته، فى كل كلمة تقريبا، من وجود حروف لا تنطق، فماذا أصنع فيها؟ صحيح أن الأستاذ قد علمنا بعض القواعد التى تحكم النطق فى الفرنسية، إلا أننا كنا فى البداية كالقطط المغمضة لم نتنبه الانتباه الكافى لما يقول.
بيد أن الله سبحانه وتعالى قد قيض لى أخا لأحد زملائى اسمه كمال الصروى، والعجيب أننى لست متأكدا من اسم زميلى نفسه، ولعله فتحى، وكان أبوهما شيخا أزهريا، وكانت أسرتهما تسكن قريبا من المعهد الدينى بجوار محطة السكة الحديد بطنطا، فأفهمنى أنه ينبغى أن أضع نقطة تحت كل حرف لا يُنْطَق، وشَرْطَة تحت كل حرفين متجاورين لا يُنْطَقان. كما كنت أضع، فوق الحرف أو الحروف التى يختلف نطقها عن كتابتها، النطق الفعلى لها. وبهذا انحلت أكبر عقدة فى تعلم اللغة الأجنبية حتى إننى كنت الأول فيها دائما، وحصلت فى كل سنة من السنتين اللتين قضيتهما بعد ذلك فى الأزهر على 39 درجة من40. ولا أستطيع فى هذا السياق أن أنسى فضل كمال الصروى، بارك الله فيه. ترى أين هو الآن؟ وأين أخوه؟ لقد طوتهما عنى الحياة مثلما طوتنى عنهما. وكان أستاذ المادة يشجعنى بقوة ويباهى بى، فأعطانى هذا، إلى جانب الثقة التى بثها فىَّ والدى رحمه الله، ثقة جديدة فى نفسى لدرجة أننى فى السنة الرابعة كنت قد أخذت مع زملائى إجازة امتحان آخر العام دون أن ندرس مع أستاذ الفرنسية، وهو أستاذ آخر غير هذا، خمسة دروس كاملة تمثل ثلث المقرر، فلم أجد أية صعوبة فى أن أستذكرها بنفسى دون أية مساعدة من أحد، وحصلت فى الامتحان على شبه الدرجة النهائية مثلما حصلت عليها فى امتحان التجربة الذى أخذناه فى منتصف العام، وكذلك الأمر فى النحو، وربما الصرف أيضا، على عكس الرياضيات، التى حصلت فيها فى هذا الامتحان التجريبى على درجة النجاح الدنيا من مجرد استذكارها سريعا بنفسى قبيل الامتحان، إذ كنت، كما أشرت من قبل، قد أهملتها إهمالا تاما كان من الممكن أن يتسبب فى رسوبى وانقطاعى من ثم عن التعليم. وكنت الطالب الوحيد من قريتى الذى اجتازها فى ذلك الامتحان.
لكن الله سلم، وأفلت العبد لله من الفشل برحمة منه تعالى وفضل، وبالثقة التى بثها فىَّ أبى وبعض أساتذتى، أما البعض الآخر فلا أظننى كنت أُوحِى لهم بأى ذكاء أو تميُّز، كأستاذ الجغرافيا مثلا وأستاذ التاريخ وأستاذ العلوم، وكذلك أستاذ الرياضيات، وكان اسمه عاطف، وكان أحمر الوجه أنمش ألثغ ينطق السين ثاء، وكان ماهرا فى مادته ومتحمسا تحمسا ناريا، بينما أكتفى أنا بالنوم فى حصته، فيتركنى فى حالى وأنا متلفف الرأس فى بطانة الكاكولا شبه الحريرية أستمتع بالدفء والنعاس اللذيذ، وإن ظللت فى ذات الوقت أشعر بتأنيب فى ضميرى جراء شعورى بتخلفى عن زملائى، الذين كنت أسمع من بعيد، وأنا نائم، أصواتهم يجاوبون أسئلة الأستاذ ويحلون معه المسائل بصوت عال متحمس بل ملتهب تكاد نبراته تحرقنى إحراقا، فأغوص فى النوم أكثر وأكثر بغية الابتعاد عن مشاعر الهم واليأس. أما حين كنت أستيقظ وأحاول تعطيل الحصة كما يفعل التلاميذ الكسالى فى مثل تلك الحالة فقد كان الأستاذ عاطف ينهرنى ويقول لى مقرعا: "اُثْكُتْ يا عَيِّل. أنت لن تفلح أبدا"، فـ"يَثْكُتُ العَيِّل"، وقد ازداد إحساسه بالعجز والهوان. لكن الله الكريم قد سَلَّم مرة أخرى وأنقذ العَيِّل المهمِل الكسلان من عدم الفلاح. الحمد لله! ترى ماذا كان يمكن أن أكون لو كنت قد تركت التعليم؟ إن أهلى تجار، ومن المؤكد أننى كنت سأكون تاجرا مثلهم. بيد أن الرعاية الإلهية كان لها كلام آخر. والطريف أننى لم أحنق على الأستاذ عاطف قط. لكن بالله عليكم أيها القراء لم ينبغى أن أحنق عليه، والخيبة كانت خيبتى أنا، وبُنِّيَّةً أيضا؟
وفى السنة النهائية لى بالأزهر كنت أحرر مجلة حائطية، وكنت أستعرض فيها مهاراتى الكتابية البدائية الساذجة ظانا أننى كاتب كبير نحرير. وأذكر مرة أن أستاذ مادة الفقه وقف أمام المجلة وهو يَشْرَئِبُّ حتى يمكنه قراءتها لأنه لم يكن طويلا بما فيه الكفاية، فأخذت أنظر إليه من جُنُبٍ وأنا سعيد لا تسعنى الدنيا من الفرح، لأفاجأ به ينادينى ويعاتبنى قائلا إنه سوف يبلغ الأستاذ صِدِّيق عوض (مدرس النحو، ولا علاقة بين لقبه ولقبى، فهو من قرية أخرى لا علاقة لها بقريتى، ولم تكن لى به أية معرفة سوى أنه كان يدرس لنا النحو والصرف) بأن إبراهيم عوض يرفع اسم "إن" المتأخر. الله أكبر! إذن فأنا لا أزال ولدا صغيرا يقف على الشاطئ ويظن نفسه مع ذلك سباحا كبيرا. ومن يومئذ وأنا أتنبه إلى تلك الغلطة ولا أقع فيها، وأضحك كلما وجدت أحدهم يرتكبها من الصحفيين والكتاب الذين أقرأ لهم، وكثير ما هم، إذ أتذكر عتاب الشيخ لى وما شعرت به ساعتئذ من خزى. أما الآن فلم يعد الطلاب يهتمون بشىء من هذا، بل إن كثيرا منهم حتى فى أقسام اللغة العربية لا يستطيعون كتابة أسمائهم كتابة صحيحة، ودعك من النحو والصرف. وقد قصصت على القراء كثيرا من طرائفهم فى ذلك المجال فى كتاب لى عن د. ثروت عكاشة فى الفصل الخاص بالميجر طومسون وما قاله عن مواطنيه الفرنسيين، وهى طرائف تبعث على الهم والنكد لتَدَهْدِى حال التعليم على هذا النحو البشع مثل أى شىء فى حياة العرب والمسلمين فى الفترة النَّحِسَة الحاليّة من تاريخهم، الذى لم يعد منذ وقت طويل بالمجيد.
ومع هذا فقد كان بعض زملائى يشجعوننى ويتحدثون عنى بوصفى أديبا. ومن ذلك أننى كنت أسكن فى إحدى حارات شارع الحلو بطنطا فى تلك السنة حيث يسكن الحجرة التى تقع فوق حجرتنا بعض الزملاء الأزاهرة من قرية أخرى، وكان أكبرهم شابا يسبقنى فى الدراسة بعام ويسمى: وحيد، فكان كلما ضمنا مجلس مع بعض من لا يعرفنى من الزملاء أشاد بى ورفعنى إلى السماء، وكأننى أتيت بالذئب من ذيله. ولا ريب أن لوحيد وأمثاله ممن كانوا يتعطفون علىَّ بكلمات الثناء المعطرة دَيْنًا عظيمًا فى رقبتى. ترى أين هم الآن؟ لقد ابتلعتهم زحمة الحياة مثلما ابتلعتنى أنا أيضا، اللهم إلا إذا تصادف أن قرأ أحدهم هذه السطور فتذكر ذلك الصبى البائس الذى كانوا يحنّون عليه بعبارات التشجيع ذات التأثير الساحر. والحمد لله أن لم تفسدنى تلك العبارات ولم تخرجنى عن طورى.
وكنت فى ذلك الحين أحاول تقليد أسلوب كامل الشناوى فى عموده: "ساعات"، الذى كان يكتبه بجريدة "الأخبار" تارة، والعقاد تارة أخرى. أما فى حصص الإنشاء فكنت موفقا إلى حد معقول، لكن كان هناك شاب أكبر منى قليلا اسمه أحمد سنبل يشتغل أبوه مدرسا فى قريتهم: الرجدية على طريق طنطا- المحلة الكبرى، وكان يكتب موضوعات إنشائية قوية يضمنها العبارات المحفوظة بسلاسة عجيبة، وكان يقف بناء على طلب الأستاذ فيقرأ موضوعه قراءة جَهْوَرِيّةً تستولى على لبى رغم أنه كان منافسا لى، وأحسبه كان يحظى من الأستاذ بتقدير أكبر من تقديره لى. وكان معنا فى نفس الفصل تلميذ من قريته يدعى: أحمد مسلَّم، يتحمس له ويقلل من شأنى بالقياس إليه، فكنت أسلّم ضمنا بما يقول مع بعض الشعور الطبيعى بالغيظ، إذ لم تكن موضوعاتى سوى اجتهادات خالصة من قِبَلى لا أضمّنها شيئا من تلك العبارات المحفوظة فتبدو باهتة بعض الشىء. والعجيب أننى سألت بعد زمن طويل عن الزميل صاحب الموضوعات الإنشائية البارعة فقيل لى إنه اختصر الطريق ودخل مدرسة المعلمين فيما أظن، مكتفيا بشهادتها المتوسطة. غريبة!
أما كيف كنت أحصل على ما أريد قراءته من الكتب، فأقول لك، أيها القارئ، إننى كنت أقرأ ما يحضره زملائى معهم من كتب يخرجونها لمطالعتها فى الحصص الفاضية كما صورتُ ذلك فيما مضى من هذه الصفحات. كما كنت أشترى بعض ما أحتاجه من مكتبة صغيرة للكتب القديمة بشارع القاضى يملكها شاب اسمه مصطفى فافا (مع ملاحظة نطق الفاء الثانية مثل حرف الـ"v". لماذا؟ لا أدرى؟ وما معناها؟ لا أدرى أيضا والله! وبالمصادفة البحتة احتجت أن أرجع إلى كتاب فوزى العنتيل عن "التربية عند العرب" لوضع كتاب عن أدب الأطفال كلفنى به قسم اللغة العربية التى أعمل به، فبحثت عنه فى مكتبتى الخاصة لأفاجأ بنسخة من الكتاب فيها، وحين فتحتها وجدت خاتم مكتبة "فافا" على صفحة الغلاف الداخلية كالآتى: مكتبة فافا- توكيل دار لمعارف- طنطا شارع القاضى ت 3527"، فشعرت بنشوة كبيرة). فكنا نبدل الكتب التى قرأناها ونأخذ مكانها كتبا أخرى لقاء نصف قرش. وكان ذلك الشاب رقيقا معنا يعاملنا بلطف. ثم رأيته بعد سنوات طويلة فى مكتبة بنفس الشارع بعد مكتبته الأولى بعدة دكاكين قريبا من ميدان الساعة، لكنها مكتبة فخمة تحتوى على الكتب الجديدة المجلدة تجليدا فاخرا، وقد أطلق لحيته فى أناقة ولبس نظارة طبية ظريفة، ومعه زوجته المحجبة. باسم الله، ماشاء الله! وقد فكرت مرارا أن أحمل إليه بعض كتبى على سبيل الهدية اعترافا منى بجميله الكبير علىَّ وعلى أمثالى ممن كانوا يترددون على دكانته الصغيرة ويستبدلون بما قرأوه من كتب كتبا أخرى لم يقرأوها. وربما فعلتُها عما قريب (كنت فى طنطا منذ سنة ونصف، فسألت عنه ابن أخيه فى دكان قريب من دكانته الأولى، فأخبرنى أنه قد انتقل إلى رحمة الله، فملأنى الأسف). والغريب أن إمكاناتى المالية فى ذلك الحين كانت جِدَّ شحيحةٍ. لكن ماذا تقول فى الغرام بالقراءة والرغبة المجنونة فى أن أدخل الكلية التى تخرّج الأدباء كما كنت أعتقد فى سذاجة آنئذ؟ وهأنذا قد تخرجت من الكلية التى تخرج الأدباء، لكن دون أن أصير أديبا أو ناقدا أو أى شىء، ودون أن يحتفل المجتمع بنا، فنحن لا نقدم له طعاما ولا شرابا ولا ملابس، فلم بالله عليك ينبغى أن يهتم بنا أحد فى مجتمعاتنا العربية التى لم تعد منذ وقت طويل تفكر إلا فى الطعام والشراب والتناسل؟
لقد كان طعامنا جَشِبًا فى ذلك الوقت لا يكاد يخرج عن الفول والفلافل والجبن القريش الذى كانت جدتى ترسله لى يوم الجمعة فى السلالى مع عربة الأجرة التى كنا ننتظرها بفارغ الصبر، مع قطعة من اللحم وبعض البيض المسلوق والقُرَص والخبز الفلاحى ("العيش الـمُرَقْرَق" حسب تسمية أهل قريتى له، أو "العيش البَطّ"، بمعنى "المبطوط"، طبقا لما صار بعضهم على الأقل يطلق عليه)، ذلك الخبز الذى لم نكن مغرمين به آنذاك، والآن أشتريه "بشىءٍ وشُوَيَّات" بعدما اختنقنا من خبز الأفران السىء فى القاهرة. فكان السائق يسلم كلا منا السَّلاَّلى الخاص به ومعه بعض القروش، فنعود إلى المسكن ونحن متأبطون سلاليّاتنا، والخجل يسربلنا من منظرنا الغريب الذى ينم على أصلنا الريفى الكئيب. أقول ذلك لكى يعرف التلاميذ والطلاب فى هذا الجيل أن القراءة لا تتوقف على اليسر المادى، وإلا لَكُنَّا أبغض الناس لها ولَكُنَّا أجهل الجهلاء لما كنا نعانيه من فقرٍ ذَكَرٍ. لقد كنا نوفر بعض القروش الشحيحة التى كان أهلونا يرسلونها إلينا، لنشترى بها الكتب، تلك التى كانت تفتح لنا فى جدار حياتنا الصُّلْب الغليظ القاسى نافذة نطل منها على عالم الفكر والأدب، فنشعر أننا بشر راقون رغم كل ألوان الفقر والبؤس التى كانت تسود حياتنا. ولم نكن نشكو قط جشوبة طعامنا ولا قلته. بل كنا نوفر من تلك القروش الزهيدة ما ندخل به السينما أيضا. يا ألله! ترى كيف استطعنا تحمل تلك الحياة؟ وكيف لم نسقط إعياء ويأسا وعجزا؟ ليس هناك من جواب سوى أنها العناية الكبرى! لقد شاءت، فكان ما شاءت.
وهنا أخرج قليلا عن السياق لأقول إننى قد كتبت أولا فى الفقرة السابقة أننا "لم نكن نشكو جَشَبَ طعامنا"، ثم مضيت فى الكتابة لا ألوى على شىء. بيد أننى قد حاك فى نفسى شىء من صيغة المصدر هذه رغم أنها تجرى على القياس، إذ الفعل حسبما أعرف هو "جَشِبَ يجشَب"، وهو فعل لازم، ومن ثم يقتضى القياس أن يكون مصدره: "جَشَبٌ". لكنى بعد قليل عدت فتساءلت: ألا يمكن أن تكون تلك الصيغة غير موجودة فى المعجم؟ ومع أننى أرى وجوب الجرى مع القياس إلى حد بعيد بناء على أن الواحد منا، بالغة ما بلغت إحاطته باللغة، ليس كاتوبا يحتوى على كل شىء أو يتذكر كل شىء فى المعاجم، فقد آثرت هذه المرة الرجوع إلى القواميس، وهى قريبة منى لا تحوجنى إلى أكثر من ضغطة على فأرة الكتابة، إذ هى مشحونة فى الجهاز أمامى، لأفاجأ أن الصيغة هى "جُشُوبَة" (رغم أن صيغة "فعولة"، و"فَعَالَة" أيضا، هى المصدر القياسى من الأفعال التى على وزن "فَعُلَ يَفْعُلُ" لا التى على وزن "فَعِلَ يَفْعَلُ" كما هو الوضع مع الفعل الحالى)، وأن من الممكن أيضا أن نقول: "جَشَب الطعامُ يَجْشُب" (من باب "نَصَرَ"). فغيرتُها من "جَشَبٌ" إلى "جشوبة" لا لشىء إلا لكى أَسْلَم من الاتهام بالجهل. وكله إلا هذا الاتهام!
صحيح أنى كثيرا ما أقف أمام طلابى مقرا بجهلى الشديد، لكن إقرارك بعيبك شىء، ورضاك بسماع هذا العيب ذاته على لسان غيرك شىء آخر. وبالمناسبة فقد عرفت أن صفة الطعام فى تلك الحالة ليست "جَشِبٌ" فحسب، بل هى أيضا "جَشْبٌ" و"جَشِيبٌ" و"مجشوبٌ" و"مِجْشَابٌ". الله أكبر! والآن لماذا خرجت عن السياق واستطردت كل هذا الاستطراد؟ لقد فعلت ذلك لأبين للقارئ أننا كلنا أمام العلم صغار، فلا ينبغى أبدا أن نستنكف من الرجوع إلى الكتب والمعاجم أو استشارة الآخرين، لأن ما نعرفه بجانب ما نجهله هو نقطة فى محيط.
وبالمناسبة أيضا كنت قد استخدمت أمس فى حضور زميل لى أعمل معه فى أحد المشاريع الثقافية، وهو د. عبد العزيز نبوى الأستاذ بتربية عين شمس، كلمة "تَوَفَّرَ" بمعنى "تجمَّع وكَثُر"، فقال لى إن الصواب هو "تَوَافَرَ"، أما "تَوَفَّرَ على كذا" فمعناه اتجه بهمته إليه وانكب عليه. فأجبته أننى أتصور الاستعمالين صحيحين، لكنه أصر على ما يقول. وكان معنا "المعجم الوسيط" فوجدته يقول ما قاله الزميل الفاضل، وإن كان قد ذكر صيغة "وَفَّر" بمعنى"كَثَّر"، وهو ما يجعل استعمال "تَوَفَّرَ" بالمعنى الذى استخدمتها له صحيحا على سبيل المطاوعة قياسا، فسكتُّ ما دام المعجم لا يفكر بطريقتى.
ثم لما عدت إلى البيت وجدت "تاج العروس" يقول: "والوافِرُ: البحرُ الرابع من بحور العَرُوضِ. وَزْنُه "مُفاعَلَتُنْ" ستّ مرّات. كذا! وفي اللسان: "مُفاعلتنْ مفاعلتن فعولنْ" مرَّتين، أو "مفاعلتن مفاعلتن" مرَّتين. سُمِّي هذا الشَّطرُ: "وافِرًا" لأن أجزاءَه مُوَفَّرة له وُفورَ أجزاءِ "الكامل"، غير أنه حُذِف من حروفه فلم يَكْمُل. والمَوْفور والمُوَفَّر منه، كمُعَظَّم: كلُّ جُزءٍ يجوز فيه الزِّحافُ فيَسْلم منه. قال ابنُ سِيدَه: هذا قول أبي إسحاق. قال: وقال مَرَّةً: "المَوْفُور: ما جازَ أن يُخْرَمَ فلم يُخْرَم، وهو فَعُولُنْ ومَفاعيلنْ ومُفَاعَلَتُن"، وإن كان فيها زِحافٌ غير الخَرْمِ، فلم تَخْلُ من أن تكون موفورةً. قال: وإنّما سُمِّيت موفورةً لأنّ أَوْتَادَها تَوفَّرت. منَ المَجاز: تَوَفَّرَ عليه، إذا رَعَىَ حرماته وبَرَّه...". ومن هذا النص نرى أن هناك "توفر" بالمعنى الذى استعملتها له، وأن "توفر على" هو استخدام مجازى لا حقيقى.
ثم لم أكتف بهذا، بل بحثت فى كتب "الموسوعة الشعرية" الإماراتية وشعرها، فألفيت الإمام الشوكانى يستعملها بهذا المعنى ذاته فى بيت شعر له، فضلا عن بعض الشعراء المحدثين الآخرين، كما ألفيت عددا من كبار الكتاب فى العصور الأولى يصنعون صنيعى كالتوحيدى ولسان الدين بن الخطيب وياقوت الحموى وصلاح الدين الصفدى والحريرى وأبى هلال العسكرى وغيرهم ممن لا أذكر أسماءهم الآن. جاء فى "جمهرة الأمثال" للعسكرى مثلا فى شرح المثل القائل: "مات عريض البِطَان": "خرج من الدنيا سليما لم يثلم دينه. وقيل: معناه أنه خرج منها وماله متوفر كثير، ولم يُرْزَأ منه شيئا". وفى "خزانة الأدب" للبغدادى: "أنه لا يتصور في الفعل المرفوع أن يكون بدلاً من فعل مرفوع، وذلك لأن سبب الإعراب متوفر فيه مع قطع النظر عن التبعية، وهو تجرده عن الناصب والجازم، فرفعه لتجرده لا لكونه تابعا لغيره". ومع هذا كله فإنى لا أفكر فى مجادلة صديقى فيما قاله. لماذا؟ لا أدرى. وهل يعيبنى أن أكون أنا المخطئ؟ أبدا. أما هو فما قاله صحيح، إلا أن وجه الخلاف هو إنكاره صحة ما قلت، وهو ما أرى أنه صحيح أيضا.
كما لاحظت فى يوم آخر، وأنا أراجع تجربة طباعية لأحد الكتب، أن مَنْ كَتَبَ الجزء الذى أراجعه من الكتاب قد ضبط عين كلمة "عقد" (بمعنى مجموع السنوات العشر) بالفتح، وكنت أظنها بالكسر تصورا منى أننى قد راجعتها فى المعاجم فألفيتها مكسورة. ومن ثم سارعت دون تفكير إلى تصحيح الفتحة إلى كسرة عدة مرات، ثم بدا لى أن أفتح المعجم لأرى ضبط الكلمة كرة أخرى لأن الزميل الذى ضبطها بالفتح مدقق، وغالبا ما يستشير المعاجم، فوجدتها بالفتح، فعدت إلى معاجم أخرى قديمة وحديثة فوجدتها بالفتح أيضا. وهنا حاولت أن أعرف السبب فى أننى كنت مُصِرًّا على كسرها رغم ذلك، فخطر لى أنْ ربما قِسْتُها على "العِقْد" الذى يُلْبَس فى الرقبة. لكن هل هذا يكفى بالنسبة لى أنا الذى أحب التحقق من كل شىء بنفسى؟ هذا من أعجب العجب!
وكنا أحيانا ما نذهب فى السنة الرابعة الإعدادية إلى مكتبة البلدية فى دارةٍ جميلةٍ (بمقياس ذوقنا فى ذلك الزمان طبعا) فى آخر شارع النحاس قبالة السجن العمومى، فنقرأ بعض ما يتيسر لنا من كتب مثل روايات المنفلوطى المترجمة، أو بالأحرى: التى يُظَنّ أنها مترجمة. وسمعت فى ذلك الحين بمصطفى صادق الرافعى ابن طنطا، وإن لم أذكر أننى قرأت له أوانذاك شيئا. كما سمعت من زميل لى بـ"الدكاترة" زكى مبارك، ولا أظن أننى قرأت له هو أيضا فى ذلك الحين أى شىء مما كتب. ومع هذا فتأبى الظروف إلا أن تتم قراءتى لأول كتاب أطالعه للدكتور زكى مبارك فى شارع النحاس هذا، إذ كنت قد انتهيت من امتحان الثانوية العامة، وكنت أنزل عند زميل لى هو المرحوم أحمد الزاهد قريبا من النهاية الأخرى من الشارع من جهة شارع البحر، وتحديدا عند تقاطع النحاس مع شارع الشيخة صباح، وكأنى واحد من الأسرة بسرير خاص بى بناء على إلحاح والدته السيدة الطيبة الكريمة النبيلة ذات القلب الكبير التى كانت تفتح بيتها لأصدقاء أولادها يأكلون ويشربون حتى لقد عددتُ أكواب الشاى التى قدمت لنا ذات مرة بعد انتهائنا من الغداء فألفيتها تقترب من العشرين كوبا، طيب الله ثراها وأسكنها أعلى فراديس الجنة، ووقع فى يدى كتاب "العشاق الثلاثة"، فقرأته وأنا فى حال رومانسية عجيبة، وطرت إلى السماوات العلا مع صاحبه فى حديثه عن جميل بثينة وكُثَيّر عزة، ثم بالذات عن العباس بن الأحنف، الذى أعجبت به وبشعره إعجابا هائلا، وكذلك باسم صاحبته "فوز"، التى كانت ولا تزال فى حدود علمى هى الفتاة الوحيدة المسماة بهذا الاسم البديع. وقد كانت أيضا أول مرة أعرف أن المصدر من "فَتَنَ" يمكن أن يكون "فُتُون" حسب استعمال زكى مبارك، الذى كان يستكثر من استخدام تلك الصيغة بدلا من "فتنة"، وهو ما أخذته عنه وأكثرت منه استحسانا للصيغة الجديدة وحبا فى زكى مبارك رحمه الله. كما تنبهت فى ذلك الوقت إلى إكثاره أيضا من عبارة "وبعد"، "أما بعد"، "وبعد فأما بعد"، "وبعد فماذا أريد أن أقول؟"، وهو ما توقفت أمامه بعض الشىء عند دراستى له.
ومنذ ذلك اليوم دخل زكى مبارك عقلى وذوقى، ولم يخرج قط. بل لقد وضعت عنه كتابا كبيرا فى نحو ثلاثمائة صفحة وخمسين درست فيه أسلوبه، أسلوبه فقط دون أى شىء آخر. واهتبلت تلك الفرصة فدفعت عنه ما اتهمه به طه حسين من تهم سخيفة. وخرج الكتاب من قلبى كأنه طلقة الرصاص. ترى أكان يدور فى خيالى أثناء قراءتى أول كتاب من كتبه أننى سوف أكتب يوما عنه رحمه الله؟ والغريب أننى لم أؤلف أى كتاب عن العقاد مثلا رغم أن العقاد هو كاتبى الأثير، بل هو عندى عملاق الشعر والنقد والأدب والفكر الذى لا يمكن أن يضارعه مضارع، وإن كنت قد حللت له ثلاث قصائد كاملات فى كتابى: "فى الشعر العربى الحديث- تحليل وتذوق"، كما تحدثت فى فصلين كاملين عن منحاه النقدى فى كتابىَّ الآخرين: "نقد القصة فى مصر" و"مناهج النقد العربى الحديث"، فضلا عما كتبته عنه من فقرات هنا وهناك فى كتبى الأخرى.
أما المنفلوطى فقد دارت الأيام وعدت إلى روايته: "ماجدولين" منذ عدة أعوام، ووضعت عنها دراسة أقارن فيها بين الأصل الفرنسى والنسخة المنفلوطية بينت خلالها ما عثرت عليه فى صنيع المنفلوطى من تقديم فى الأحداث وتأخير وتبديل وحذف وإضافة، علاوة على النفحة العربية الإسلامية التى أضفاها على الرواية فى بعض المواقف. وأشركت معى عند ذاك سلوى الصغيرة، أقصد التى كانت صغيرة فى ذلك الحين، لأنها الآن طالبة فى كلية الهندسة على سن ورمح، فقرأتها معى وأبدت رأيها فيها، وشرحت لها أنا ذكرياتى مع الرواية حين كنت طالبا فى آخر المرحلة الإعدادية.
وهناك مصدر آخر أمدنى بعدد من الكتب الجميلة فى الإجازة التى كانت تفصل بين أزهريتى ومدرسيتى، أى بعد الانتهاء من المرحلة الإعدادية، وهو الزميل إبراهيم ربيع، الذى كان طالبا بمدرسة التجارة الثانوية، وكان من طلاب قريتى الذين يقرأون، فكنت أذهب إلى بيته فى عز الظهر و"العفاريت مُقَيِّلة" بتعبير أهل القرية عندنا، وأقف خلف العضادة اليمنى من الباب وأناديه فيخرج لى فأطلب منه كتابا فيعطينيه عن طيب خاطر رغم أنه لم يسبق أن كانت بيننا صداقة من قبل. بل إن الذكريات البعيدة كانت كفيلة أن تباعد بينى وبينه لأنه كانت هناك فى بداية الخمسينات من القرن الماضى بركة كبيرة فى المنطقة التى يقوم فيها بيتهم غويطة جدا لدرجة أنه قد غرق فيها ولد أو أكثر ونحن أطفال، وكنت أذهب لأصطاد منها، فكان يخرج ويخطف منا السنانير ويجرى بها إلى بيته مفسدا علينا متعتنا. إننى أضحك الآن وأنا أتخيل ما كان يحدث حينذاك، وكيف انقلبت الأمور فصار الولد المشاغب صديقا أوشبه صديق لى يعيرنى الكتب.
ومنذ بضعة عشر عاما فكرت أن أهديه بعض كتبى اعترافا بالجميل العظيم الذى طوق به عنقى، فسألت عنه أحد إخوته، وهو يسكن قريبا من بيتنا القديم، فإذا به يباغتنى بأنه قد مات منذ فترة، فبُهِتُّ. رحمه الله رحمة واسعة وأدخله الجنة. لقد كان لطيفا فى ذلك الحين أشد اللطف وأَرَقَّه إن جاز أن تجتمع الشدة والرقة فى شىء، وهما هنا تجتمعان بمشيئة الله، التى لا تقف فى وجهها مشيئة. ومن الكتب التى أذكر أنى استعرتها منه "أمسيات قرب قرية ديكانكا" للقصاص الروسى نيقولاى جوجول، و"عودة ابن البلدة" لتوماس هاردى، وهو الكتاب الذى لم تتسع الإجازة لقراءة الجزء الثانى منه فقرأته فى السنة الدراسية التى تلت تلك الإجازة بمكتبة المدرسية الأحمدية الثانوية التى التحقت بها بعد تركى المعهد الدينى. وما زلت أذكر وصف هاردى لسقوط بطل الرواية فى النهر ومصارعته أمواجه فى آخر الكتاب، وإن كنت لا أذكر الظروف التى حدث فيها ذلك.
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فإن أول كتاب طويل أقرؤه كان رواية "غادة كربلاء" لجرجى زيدان، الذى صادفته فى صندوق مهمل على سطح بيت صديق الصبا والأزهر محمود نحلة، الذى أصبح أستاذا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب- جامعة الإسكندرية والذى قرأت معه بعد ذلك بصوت عال بعض الكتب فى دَوَّاسَة مئذنة الجامع الكبير بوسط القرية أثناء القيلولة، وعَرْف شجرة ذقن الباشا يهب علينا فينعش حياتنا القَشِفة، فكأننا فى الجنة يلاطف وجوهنا النسيم الحنون المضمخ بالعطر. و"الدواسة" هى الشرفة التى تدور بالمئذنة قرب نهايتها العليا المدببة والتى يطوف عليها المؤذن وهو ينادى الناس للصلاة. كما كنا نذهب إلى حديقة أحد أقارب والدته قريبا من الوحدة المجمعة من ناحية الطريق المفضى إلى عزبة الزواوى حيث نقضى الظهرية نقرأ أو نتناقش، مع الاستمتاع بالورد البلدى من أحمر وأبيض، وما أدراك ما الورد البلدى؟ ونتناول ما نجده هناك مما تخرجه الحقول فى موسم الصيف، كل ذلك دون أن ندفع مليما واحدا لقاء ذلك.
وممن قرأنا لهم فى تلك الفترة حسين عفيف. قرأنا له أنا ومحمود نحلة كتاب "الزنبقة"، وكنا نتبادل قراءته بصوت عال فى الدواسة المذكورة. ولمن لا يعرف حسين عفيف ولم يسمع به من قبل أسوق إليه المقالة التالية لفاروق شوشة، التى كتبها قبل أحد عشر عاما فى الذكرى المئوية لميلاد الكاتب الرقيق، والتى يجدها القارئ فى عدد الخامس عشر من سبتمبر 2002 من جريدة "الأهرام" المصرية تحت عنوان " حسين عفيف
في الذكري المئوية لميلاده". وهذه هى المقالة كاملة لأهميتها فى التعريف بذلك الكاتب الحالم شبه المجهول لدى الأجيال الحالية:
"مازلت أذكر اليوم والرجل واللقاء كأنه حدث بالأمس القريب, بالرغم من مرور واحد وأربعين عاما عليه. كان ذلك في أحد أيام شهر سبتمبر عام1961 حين دخل عليَّ، في مكتبي بإذاعة البرنامج الثاني (لبرنامج الثقافي الآن) في شارع علوي المجاور لشارع الشريفين حيث مبني الإذاعة الرئيسي في قلب القاهرة، دخل علي رجل وضيء السمت والمحيا، نحيل كأشد ما يكون النحول,، لكنه النحول الذي يصيب العشاق المستهامين، خفيض الصوت والنبرة,، يخطو في حياء جم، ويتحدث في ألفة ممزوجة بالتواضع، وفي يده ديوانه "الأرغن"، الذي صدر له منذ شهور قليلة عن دار المعارف. وعرفني بنفسه، وتواضعه الجم لايفارقه: حسين عفيف الشاعر ومدير التفتيش القضائي بوزارة العدل. كان يبدو من سمته أنه يخطو إلي الستين وأنه من النوع الكتوم الذي يقتصد في البوح، فهو لا يتكلم كثيرا ولا يثرثر. وبدأت أتصفح ديوانه وهو جالس أمامي يرقبني في صمت متأمل. كنت قد قرأت له علي صفحات "الأهرام" عددا من مقطوعاته النثرية المتوهجة بالشاعرية والإيقاع الداخلي والغني الروحي والتأمل الشفيف. وقرأت له قبلها روايته: "زينات"، التي تكشف صفحاتها عن صدمته في تجارب شبابه الأولي، وكأنها تضم أصداء وظلالا وأطيافا لهذا الحب الأول وهذه الشحنة العاطفية المبكرة التي أوصلته إلي نهاية حزينة جعلته يكتفي، طوال حياته، بالغناء للمرأة والعزف علي أوتار الحب دون أن يقترب منها اقترابا حقيقيا يجعل منه زوجا وأبا، فظل عزبا حتي رحيله.
وانتهيت من تصفح "الأرغن" لأستأذنه في عرض الديوان ومناقشته من خلال برنامج "مع النقاد"، الذي أُسْنِد إليَّ أمر تقديمه بعد انتقال صاحبته الإعلامية الكبيرة الأستاذة سميرة الكيلاني من الإذاعة للعمل بالتليفزيون ضمن الكوكبة الأولي من الرواد الذين تم علي أيديهم وضع اللبنات الأولي في العمل التليفزيوني: سعد لبيب وصلاح زكي وعباس أحمد، ثم لحقت بهم همت مصطفي وآخرون. لم يتحمس حسين عفيف كثيرا لهذا العرض. ويبدو أنه كان حريصا علي إهدائي ديوانه لتقديم مختارات منه في برنامج "شاعر وديوان"، الذي كنت أقدم من خلاله مختارات من روائع الشعر العربي: قديمه وحديثه، وكان بمثابة النافذة الأولى للدواوين الأولى في حركة الشعر الجديد أو الشعر الحر، الذي كان يذاع من إذاعة البرنامج الثاني لأول مرة في الوقت الذي كانت لجنة الشعر بالمجلس الأعلي للفنون والآداب، ومقررها الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، تنظر إليه باعتباره نثرا، وتحيله إلي لجنة النثر بالمجلس. لكنني اكتشفت، بعد ذلك، أن عدم حماسه لمناقشة الديوان كان بسبب عزلته وانطوائيته وحرصه علي عدم المشاركة في أية حوارات أو مناقشات. ومشاركته في البرنامج سوف تتطلب بالتأكيد حديثا عن النفس وقراءة لبعض المختارات وإسهاما في الحوار وتعقيبا علي الآراء التي يبديها النقاد، الأمر الذي جعله يتمسك بموقف الاعتذار. لكنه لان آخر الأمر حين ذكرت له أني أفكر في أن يكون الناقدان اللذان سيناقشانه هما الدكتور محمد مندور والدكتور محمد غنيمي هلال، ويبدو أنه كان يكن لهما احتراما وتقديرا كبيرين.
كان تسجيل البرنامج بعد هذا اللقاء بأسبوعين، وفاجأني الناقدان باتفاقهما علي العديد من المحاور الرئيسية أبرزها التأثر الواضح في ديوان "الأرغن" بشاعر الهند والإنسانية طاغور: في قالب شعره وموضوعات تجاربه وصوره، وفي تطور حياته العاطفية، فضلا عن روح التأمل الشفيف ومحاولة النفاذ إلي الأسرار الأولي للحياة والكون والتوحد مع الطبيعة إحساسا ونبضا وعاطفة. وهو الأمر الذي حدا بالدكتور محمد غنيمي هلال إلي كتابة دراسية نقدية تحليلية للديوان نشرها بعد إذاعة البرنامج يوضح فيها كثيرا من النقاط التي أثارها الحوار. ويعد الديوان فتحا جديدا في الأدب العربي، إذ هو ضرب من الشعر العربي الحر غير المقيد بقافية أو وزن في معناها التقليدي سبق فيه الشاعر إلى نوع من التجديد في الشعر قد يكون النقد العربي بَعْدُ غير مهيأ لاستقباله، خاصة والمعركة بين ما سَمَّوْه: الشعر الجديد والقديم لـمّا تخفّ حدتها بين فريقي النقد المتصارعين. ثم يقول في دراسته التي يتضمنها كتابه: "دراسات ونماذج- في مذاهب الشعر ونقده" الصادر عن نهضة مصر: ولعل الأستاذ حسين عفيف قد استجاب في ديوانه لروح الشعر كما نفهمه في العصر الحديث، ألا وهو التصوير للمشاعر، أي إيرادها في صور تبعد بها عن التجريد من ناحية، وعن السرور والتعبير من ناحية أخري. ولا قيمة للموسيقي في هذا المفهوم إلا بمقدار ما تشد من أزر هذه الصور وتضيف إلي إيحاءاتها. وبهذا نفرق بين النظم والشعر. فإذا توافرت موسيقي الكلام وخلا من التصوير فإنه يكون نظما لا شعرا في حين لو توافرت روح التصوير للنثر وخلا من الموسيقى التقليدية فإنه يكون قد توافرت له روح الشعر.
ويلاحظ الدكتور هلال في ذكاء تأمل ونفاذ بصيرة ودقة حس ووعي أن حسين عفيف، في ديوانه، يري ما يراه طاغور من أن عبادة الجمال من عبادة الله، وأن الكون يعاني الألم لانفصاله عن الروح السرمد حتى يعود إليه بالموت. ولهذا كان الألم طابع الوجود: "لا أغنية جميلة لا يشيع منها الأسى
الذي ينبع في نفوسنا من عين مجهولة. لا زهرة لا يقطر منها الندى
ولا سرور لا يعبر عن نفسه بدمعة يذرفها في صمت. لا شيء أبدا لا يدين للألم. الوجود نفسه كان ألما كبيرا منذ انفصل عن الروح الشريد"
ولا يفوت غنيمي هلال، كما لم يفت الناقد الكبير الدكتور محمد مندور، في مناقشته لشعر حسين عفيف، وجود نزعة أبيقورية نهمة تتوقف عند تفاصيل الجسد في نشوة حسية عارمة تجاور نزعته الصوفية المتأملة والمتطهرة التي تسود معظم قصائده. لكن حيرة الشاعر الكبرى أمام مصير الإنسان والحياة والكون ترتطم بافتتانه بالجمال البشري في تجلياته المحسومة، وكأنه يعيش صراعا بين المطلق والنسبي، الخالد والفاني، الباقي والزائل. وهو أمر يختلف فيه حسين عفيف عن طاغور ويبتعد عن عالمه ابتعادا كليا.
وعندما يقترب غنيمي هلال، علي سبيل المثال، من بعض مقطوعات حسين عفيف في ديوانه: "الأرغن" فإنه يرى في قصيدته الثانية والخمسين انعطافا إلى عالم طاغور، وحبيبته تسأله: أذاكري أنت إذا حان الفراق؟ فيجيبها حسين عفيف بقوله: سأذكرك كلما غرد طائر فأبلغني منك رسالة، وسأقطف الأزهار في الصباح وأضعها في الجدول ليحملها إليك، وأضمخ بالعطر النسيم الساري ليملأ به جوك. ارقبيني في كل شيء وانظريني في كل شيء. وإذا ما رأيت كوكبا يتهادى فاعلمي أني خررت صريع هواك، ولا تترقبيني بعد ذلك!
فهو يرى أن مثل هذا الشعر المنثور يحمل أصداء من القصيدة الأربعين لطاغور في ديوانه: "البستاني."، لكنها أصداء بعيدة لا ترتفع إلي مستوي دقة موقف طاغور وشموليته وروعة تصويره لهذا الموقف وهو يقول: احتفظي بهذا الوهم لحظة، ولا تنبذيه في سرعة القسوة حين أقول: سأهجرك أبدا، فخذي قولي على أنه الحق ليغشاك هنيهةً ضباب يهيم علي الأهداب السوداء من ناظريك، ثم ابتسمي في مكر ما بدا لك حين أعود من جديد!
أروع ما في حسين عفيفي أنه لم يضع كلمة "شعر" على دواوينه هذه بدءا بديوان "الأرغن" فديوان "الغدير" فديوان "الغسق" فديوان "حديقة الورد" فديوانه الأخير:"عصفورة الكناريا"، وترك لقرائه، وللنقاد من بعدهم، أن يطلقوا علي هذه الكتابات ما يشاؤون من تسميات. أما هو نفسه فيفاجئنا علي غلاف ديوانه: "الغسق" بقوله: "مقطوعات من الشعر المنثور, تعصر لب الحياة في كأس تحوي قيمتها الأصلية مصفاة مما يشوبها، تغني منها القطرة عن البحر. هدفها إيقاظ القلب باللفظ المشع والايحاء الهامس ليبصر الحقائق بنفسه من خلال إشراقاته ويكتشف طريقه الذي يضله مغمضا. فالقلب يبصر ما لا تراه العين، ويلهم كالطير اتجاه الريح، وهو أبعد إدراكا من العقل وأصوب".
ويقول عن ديوانه: "عصفورة الكناريا": "ما هو بشعر ولا هو بنثر. لا يصارح بل يوحي لتفهم وحدك، وفي إيجازه يكاد يطوي العوالم طيا. فكم ضاق بالشرح صدر، وضاع في التيه هدف". إنه إذن كما يقول في ختام ديوانه: "حديقة الورد": "شعر منثور يجري وفق قوالبَ عفويةٍ يصبها ويستنفدها أولا بأول. لا يتوخى موسيقى الوزن، ولكنه يستمد نغمه من ذات نفسه. لا يشرح، ومع ذلك يوحي عبر إيجازه بمعانٍ لم يقلها. ليس كشعر القصيد ولا كنثر المقال، ولكنه أسلوب ثالث. ومعاناته في أنه يأبى إلا أن ينضبط دون الاستعانة بضوابط".
أفضل تعريف لهذا اللون من الكتابة الشعرية أن نقرأه في ذاته دون أن نقع في ولع التصنيف والسبق النقدي المتقافز. هذا لون من الكتابة الأدبية سماه صاحبه بـ"الشعر المنثور"، لا علاقة له بما يسمى الآن بـ"قصيدة النثر", كما أنه لا علاقة لقصيدة النثر بكتابات سابقة في تاريخ إبداعنا العربي. والذين يحاولون اصطياد مشابهات أو مقاربات بين قصيدة النثر ونماذج عربية سابقة عليهم أن يكفوا عن هذا التحايل لإضفاء شرعية ليست مطلوبة ولا تضيف شيئا. والأجدى أن يقال إن قصيدة النثر لدينا هي امتداد لقصيدة النثر في الكتابات الأوروبية، وصدى للترجمات التي شاعت لها في العربية, وبخاصة للشاعر سان جون بيرس.
أما حسين عفيف فهو خارج هذا السياق كله, ولا علاقة له من قريب أو بعيد بقصيدة النثر، وليس رائدا لها كما يزعم البعض. ولنتأمل ما يقول: "انتابت فؤادي رعشة مقدسة حين حمل إليَّ الفجر باكورة مقدمك، ورأيتك تخرجين إلى الوجود من أكمامك في زمرة العذارى اللاتي زفهن إليه هذا الصباح. ولقد راعني منك أنك زهرة موفورة الحسن، عذراء قد حسرت أكمامك للتو، فبدت مأخوذة بسحر الضياء، وأقبلت تنهل منه وهي مبهورة، فهبطت إليك من غصني واجفا، وحييتك بأنشودة عذبة من نغمي المبحوح، تقبلتِها في خفر وأومأتِ إليَّ باسمة. ورددتها لي بكأس من نداك رشفتُ فيها أنفاسك العطرة، ثم طرت أنا البلبل إلى غصني المياد أحمل بقلبي عبير الحب، وأنشره في البكور أهازيج.
إذا ما انقشع الظلام يازنبقتي، وتثاءب عنك الفجر بيضاء فارعة بين أترابك، فانتظري بلبلك. لقد بات ليله ساهرا يصوغ لك الأغاني، ويرقب الصبح علي الضنى ليلقيها على سمعك. وإنه لمن وحي سحرك ما نضده، ومن وجده المبرح ما أترعها بالشجى. لم لا يغني على هواه وقد سلبه الحب وقاره؟ ألم تشبه فتنة منك طاغية أردته سكران؟ أنا آتٍ أغرد مع الفجر، فانتظري مقدمي. ولسوف أرسلها أناشيد تأخذ بالألباب من أعلى الأيك. تري أأنت معيرتي وقتئذ سمعك, ومصغية للمشبوب من نجواي؟".
هأنذا أعود، في مناسبة الذكرى المئوية لميلاده، إلى ذكرياتي البعيدة مع هذا الشاعر المبدع والانسان الجميل المرهف من خلال رسائله الأنيقة المنمنمة التي كان يخصني بها كلما استمع، عبر برامجي الإذاعية، إلى قراءات من دواوينه, وإلى استضافتي له في حلقة من البرنامج التليفزيوني: "الأمسية الثقافية" في الشهور الأولى من عمر البرنامج خلال عام 1977، وقبل رحيله بقليل. ويومها كان بصحبته صديقه رجل القضاء الأديب العالم المستشار وجدي عبدالصمد، الذي كان بدوره صديقا لصفوة من كبار المبدعين والمفكرين. وكانت استضافة شاعرنا في الأمسية فرصة لتقديم سطور من سيرة حياته. فقد ولد في السادس من ديسمبر 1902 بمدينة طنطا. الأب كان يرأس المحكمة الشرعية بالقاهرة. وتقول "موسوعة أعلام الفكر العربي" الصادرة عن مكتبة مصر في جزئها الثاني: إن شاعرنا لم يعرف الاستقرار في تعليمه أو روابطه الانسانية على نطاق المجتمع بسبب تنقل والده الدائم بين المحاكم في طنطا والقاهرة والزقازيق وأسوان، مما كان سببا من أسباب انطوائيته وحبه للعزلة. تخرج في كلية الحقوق عام 1928, وفي سنة 1929 اشترك في تأسيس جمعية لشباب الحقوقيين ونشر كتيبا تحت عنوان "أزمة الحقوق"، ثم كتابا بعنوان "البطالة" سنة 1932. انضم إلى جماعة "أبوللو" سنة 1934، ونشر في مجلتها، قبل أن تحتجب، بعض قصائده التي التزم فيها عمود الشعر العربي. أصدر أول ديوان له بعنوان "مناجاة" عام 1934, ثم ديوانه: "وحيد" عام 1938، فمسرحية "سهير"، ثم ديوانه: "الزنبقة". وفي سنة 1939 أصدر ديوانه: "البلبل" وروايته الشهيرة: "زينات". وفي سنة 1940 أصدر ديوانه: "الأغنية"، ثم ديوان "العبير" سنة 1941. وبعد توقف لمدة عشرين عاما، بسبب عمله القضائي وعدم استقراره، عاود إصدار إبداعاته: "الأرغن" 1961، "الغدير" 1965, "الغسق" 1968، "حديقة الورد" 1968، وأخيرا "عصفورة الكناريا" 1977. وفي السادس من يونيو عام 1979 كان رحيل حسين عفيف عن سبعة وسبعين عاما دون أن يحس برحيله أحد، فقد مضى في هدوء كما عاش حياته كلها في هدوء بعيدا عن ضجيج الحياة الأدبية والثقافية وصراعاتها التي يدور معظمها حول ما ليس ينفع الناس غير طامع في جائزة أو شهرة أو ذيوع صيت، فحسبه أنه قال كلمته ومضى. وستظل كلماته تتحدث عنه وتشير إليه بأروع وأبقى مما يصنفه النقاد والدارسون".