اغتيال أكثر من 5500 عالم عراقي والفاعل مجهول
عزالدين بن حسين القوطالي
في الذكرى الخامسة لحرب العراق سؤال: من يتكتّم على عصابات قتل العقول العراقية التي ذهب ضحيتها أكثر من خمسة آلاف عالم وجامعي عراقي حتى الآن؟ وما هي نتائج التحقيقات التي أجريت في هذه القضية؟ والفضيحة أن ملفات المتهمين بهذه الجريمة أحيلت على المحاكم الجنائية العليا في بغداد، لكن أي مرجع عراقي رسمي، قضائي أو سياسي، لم يكشف حتى اللحظة أية معلومة تتصل بجرائم التصفية التي استهدفت الآلاف، وكأن المقصود التستر على هذه الجرائم ومرتكبيها أو الذين حرّضوا عليها ولا يزالون. والمطلوب في النهاية -وهذا ما بات يعرفه الجميع- تفريغ العراق من عقوله كي يسهل قياده، ومنع العلماء الذين هاجروا من العودة كي لا يكون للعراق مستقبل في المدى المنظور.
من قتل العلماء العراقيين؟
حتى الآن، ورغم مرور خمس سنوات على بدء المجزرة التي تستأصل رؤوس العراق وأدمغته، لم يجب أحد عن السؤال. الذين اعتُقلوا يُعدّون بالآلاف، والذين أُطلق سبيلهم بعد التحقيق يُعدّون بالمئات، لكن أي قرار ظني أو اتهامي لم يُنشر، وأي تفصيل لم يتسرّب عن هويّة القتلة، والجرائم التي ارتُكبت تعدّ بالآلاف، والعراق يُفرَّغ كل يوم من النخبة، وليس من يدل على الفاعلين أو المتهمين. وفي معلومات صحفية أن عملية وأد العقول العراقية التي بدأت في اليوم الثاني لسقوط بغداد، تتوزّع بين أطراف ثلاثة:
- الطرف الأول هو (الموساد) الذي أوفد مجموعات سرّية إلى العراق لمطاردة العلماء والباحثين والمفكّرين والأطباء، لاسيما الطاقمين النووي والكيميائي، وتصفيتهم بناء على قرار اتُّخذ على أعلى المستويات الأمنيّة في إسرائيل.
- الطرف الثاني هو المخابرات الأمريكية المركزية، التي قدّمت عروضاً مغرية للعلماء العراقيين من أجل التعاون معها، بينها تأمين عقود عمل لهم في الولايات المتحدة وضمان سلامتهم، والذين رفضوا هذه العروض تمّت مطاردتهم وتصفيتهم على مراحل.
- الطرف الثالث هو فريق مذهبي عراقي (متضرّر) من حروب صدّام حسين السابقة، وقد صدرت إليه التعليمات بالانخراط في حملة التصفية بناء على توجيهات خارجية.
حتى الآن، كل ما صدر عن السلطات العراقية يقول إن (جماعات مسلّحة مجهولة) قتلت عشرات الأكاديميين والباحثين، واستهدفت كذلك الأطباء والمهندسين وكبار الموظّفين الحكوميين السابقين، لكن هذه (الإيضاحات) لا تكشف هويّة هذه الجماعات لا بصورة مباشرة ولا غير مباشرة، وكأن المقصود أن يستمر التعتيم على المجرمين كي تتواصل عملية الذبح التي تستهدف الجامعيين العراقيين إلى ما لا نهاية.
اللائحة الأولى التي نُشرت، وضمّت مئات العلماء العراقيين الذين تعرّضوا للاغتيال، ظهرت في مواقع إلكترونية انفردت بنشر أسماء بضع مئات من الأكاديميين والباحثين خُطفوا وقُتلوا في جامعات العراق، في حين نشر موقع آخر لائحة ثانية وذكر أن عملية خطف العلماء تتّسع، ولا يُستبعد أن تكون هناك (جهات أجنبية) وراء الظاهرة لإفراغ العراق من كوادره المميّزة. والتصريحات الأولى التي صدرت حول هذه العمليات جاءت على لسان طبيب في وزارة الصحّة العراقية، هو الدكتور محمود العباسي، الذي قال: (إن هذه الظاهرة تحتاج إلى بحث واستقصاء لأنها ليست عملاً عبثياً، وإنما هي من تخطيط جهات أجنبية، وأصابع الاتهام تتجه نحو «الموساد» الإسرائيلي الذي يُعدّ الجهة الوحيدة التي تمارس مثل هذه الجرائم، لأنه سبق أن اغتال عدداً من علماء الجامعات العراقية وأساتذتها، لاسيما في بغداد والمنطقة الشمالية).
كل هذا حصل في مرحلة الحكم الانتقالي، مباشرة بعد احتلال بغداد، مع حديث تكثّف في تلك المرحلة عن دخول مجموعات من (الموساد) مختلف المدن العراقية، تحت حماية الجيش الأمريكي، بحثاً عن علماء الذرّة العراقيين وأشهر علماء الكيمياء. في الفترة نفسها، وبعد مضيّ بضعة أشهر على انتهاء الاجتياح، نشر أحد المواقع الإلكترونية معلومات أكثر تفصيلاً. وقد استند الموقع إلى تصريحات أدلى بها الدكتور زياد عبد الرزاق، وزير التعليم العراقي السابق (في زمن صدّام) يقول فيها: (إن 15500 عالم وباحث وأستاذ جامعي عراقي فُصلوا من أعمالهم في سياق الحملة الأمريكية-الإسرائيلية التي استهدفتهم، وقد تكتّمت وزارة الداخلية العراقية على نتائج التحقيقات التي طاولت المتّهمين في عمليات الاغتيال ضد أصحاب الكفاءات العلمية العراقية، في حين أطلقت السلطات الأمريكية عدداً منهم ورفضت الكشف عن نتائج التحقيقات التي أجريت معهم).
في السياق نفسه، اتّهم وكيل وزارة الصحّة العراقية عامر الخزاعي (أيادي خفيّة وخبيثة بالوقوف وراء هذه الظاهرة، بهدف تعطيل عملية النهوض بالعراق من جديد)، وشاركت في هذا الاتهام رئيسة مركز الدراسات الفلسطينية في جامعة بغداد هدى النعيمي التي قالت إن (الموساد) يقف وراء التصفيات، وإن عروضاً إسرائيلية قُدّمت إلى فريق من العلماء العراقيين للعمل في إسرائيل، وتبلّغ أصحابها رسائل تقول: عليكم أن تختاروا بين القبول أو الاغتيال!
في الوقت نفسه حذّرت (هيئة علماء المسلمين) في العراق من أن أعداداً كبيرة من العلماء يتعرّضون للضغوط من أجل الرحيل عن بلادهم، وأن الهيئة تلقّت نداءات استغاثة من علماء وأطباء يشكون من أنهم مهدّدون إذا هم لم يتركوا أعمالهم ويهاجروا.
وقد تكثفت التهديدات إلى حدّ أن مجموعة كبيرة من الباحثين العراقيين وجَّهت رسائل عبر الإنترنت بعنوان: (علماء الأمّة مهدّدون) طلب موقِّعوها من الجهات العربية المعنيّة العمل على إنقاذهم من عمليات الدهم والاغتيال والتصفية التي يتعرّضون لها، خصوصاً الخبراء منهم في مجال التسلّح. وقد ذكرت مصادر صحفية أن الولايات المتحدة نقلت إليها أكثر من سبعين عالماً عراقياً، ودفعت بهم إلى معسكرات خاصة كي تضمن عدم قيامهم بتسريب معلومات أو معارف عسكرية إلى جهات تصفها الدوائر الأمريكية بأنها (معادية) وتشكّل خطراً على المصالح الأمريكية. وتشير المصادر نفسها إلى أن هؤلاء العلماء موجودون في المكان نفسه الذي نقلت إليه مجموعة علماء من مختلف الجنسيات، كما يعملون في برامج تطوير الأسلحة الليبية في طرابلس الغرب على أيدي رجال المخابرات الأمريكية.
في مجال آخر، كشفت المصادر نفسها أنه رغم التعاون الوثيق بين (الموساد) وال(سي.آي.إيه) في عملية التحضير للحرب على العراق، إلا أن صراعاً نشأ بين الجهازين محوره استقطاب العلماء العراقيين بطرق خاصة إلى الداخل الأمريكي كما إلى الداخل الإسرائيلي، وقد استخدمت إسرائيل في هذه المحاولة الأسلوب الذي استخدمته بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عندما استدرجت عشرات العلماء الروس مع برامجها التسليحية، ونقلتهم إلى قاعدة سرّية في وسط إسرائيل.
وما يؤكّد الدور الإسرائيلي في خطف وقتل أو استقطاب العلماء العراقيين، التصريحات التي أدلى بها في 8 نيسان/أبريل 2004 جنرال فرنسي متقاعد إلى القناة الخامسة في التلفزيون الفرنسي، أكد فيها أن أكثر من 150 جندياً من وحدات (الكوماندوس) الإسرائيلية دخلوا الأراضي العراقية في مهمة تستهدف اغتيال العلماء العراقيين الذين كانوا وراء برامج التسلّح العراقية الطموحة في أيام النظام السابق، وقد قدّمت أسماء الإسرائيليين إلى لجنة مفتشي الأسلحة الدولية التي ترأسها هانز بليكس في حينه. ومما قاله الجنرال الفرنسي أن مخطط الاغتيال هذا تمّ وضعه من قِبل مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين، وإن لديه معلومات دقيقة عن الغرض المقصود منه، وهو تصفية العلماء الذي خطّطوا للقوّة الصاروخية العراقية ووضعوا أسس البرنامج النووي، كما ساهموا في برنامج الأسلحة الكيميائية الذي أرعب إسرائيل، وعددهم 3500 عالم من ذوي الخبرات العالية، بينهم نخبة تتكوّن من 500 عالم اشتغلوا في تطوير مختلف الأسلحة.
وقد نشر أحد مراكز الدراسات الاستراتيجية تقريراً مفصّلاً عن أبعاد المخطط الأمريكي- -الإسرائيلي الذي يهدف إلى منع العراق من إعادة بناء ترسانته العسكرية، واستقصاء المصادر التي استقى منها العلماء العراقيون معلوماتهم ومعارفهم، ومنع انتقالهم إلى أي بلد عربي أو إسلامي، وتحذيرهم من معاودة نشاطاتهم تحت أية صورة من الصور، في المجالات التي ترى واشنطن أنها محظورة عليهم.
ويوضح التقرير أن المخطط يقوم على عدد من المحاور الرئيسة وأبرزها:
- تدمير البنية التحتية العراقية المتطوّرة التي سعى العراق إلى بنائها منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، مستفيداً من قدراته المالية التي وفّرت له التكاليف الباهظة لامتلاك الأسلحة المتطوّرة، ومستثمراً حالة الدعم الأمريكي والغربي له تحت مظلّة التحالف الذي كان قائماً بينهما في ذلك الوقت. وقد بدأ تنفيذ هذا المخطّط عندما قامت إسرائيل بقصف المفاعل النووي العراقي (تموز) في حزيران/يونيو من العام 1981، ثم أُعقب باستصدار واشنطن مجموعة من القرارات غير المسبوقة من مجلس الأمن تدعو إلى تدمير هذه البنية ونزع أسلحة العراق عقب حرب الخليج الثانية، وبقيام بوش باستغلال هذه القضية كمبرّر لإعلان الحرب على العراق، وغضّ القوّات الأمريكية الطرف عن عمليات النهب والسلب التي أعقبت احتلال بغداد، والتي طاولت أكثر من 70% من المختبرات والأجهزة داخل الجامعات ومراكز البحث العلمي في العراق.
- أما المحور الثاني من المخطّط فيقوم على ملاحقة العلماء والخبراء الفنّيين العراقيين والعرب الذين عملوا في برامج التسليح العراقية. وفي هذا السياق، يقول التقرير إنه منذ بدء البرنامج النووي العراقي، عملت إسرائيل على تعقّب العلماء العرب الذين كانت لهم صلة بتطوير هذا البرنامج، وهو ما حدث مع عالم الذرّة المصري (يحيى المشدّ) الذي استعين به كحلقة وصل مع مؤسّسة الطاقة الذرّية في فرنسا. لكن عناصر من (الموساد) استطاعت اغتياله في باريس أثناء مهمّة له هناك في صيف العام 1980. كذلك يوضح التقرير، أنه رغم أن النفط كان وما زال الدافع الرئيس لتلك الحرب، فإن استهداف العلماء العراقيين كان عاملاً مهمّاً أيضاً، وهو ما عبّر عنه البريغادير جنرال (فينسنت بروكس) من مقرّ القيادة المركزية الأمريكية قبل شهرين من الحرب، عندما تحدّث عن أهمية العلماء العراقيين بالنسبة إلى الولايات المتحدة، حيث قال: (إن واشنطن لها أهداف أخرى غير الإطاحة بصدّام، على الأخص مقدرة العراق على تطوير أسلحة نووية أو كيميائية أو بيولوجية ضمن برنامج القضاء على أسلحة الدمار الشامل)، كما عبّر عن ذلك بوضوح (جاك بوت) رئيس بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية في العراق قبل الحرب حين قال: (يجب أن نحدّد ما إذا كانت توجد قدرات نووية في العراق أم لا؟، وبالنسبة لي فإن ذلك يشمل العقول والأسلحة). كما تحدّث العديد من الدوائر داخل أمريكا عن هذا الموضوع، فقد دعا (جون بي ولفثال) عضو برنامج حظر انتشار الأسلحة النووية في مؤسّسة (كارنيغي)، وهو مستشار سابق لسياسات منع الانتشار النووي في وزارة الطاقة الأمريكية، إلى استقطاب علماء العراق مذكّراً بما حدث بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، حيث تعاونت الولايات المتحدة وأوربا واليابان على إغراء علماء الأسلحة السوفييت، لضمان عدم قيامهم ببيع خبراتهم أو أية مواد تحت تصرّفهم كسباً للرزق، وأوضح أنه يمكن تبنّي الحل ذاته في العراق، فبدلاً من تعقُّب هؤلاء العلماء والخبراء، فمن الأفضل أن تُمنح غالبيتهم عفواً عاماً مقابل تعاونهم. وكتب (مارك كلايتون) في صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور) في تشرين الأول/أكتوبر 2002، محذّراً من العقول المفكّرة التي تقف وراء المخزون العراقي من الأسلحة، وقدّم لائحة بأسماء علماء العراق الذين تدرّبوا في الولايات المتحدة، وقال: (إن هؤلاء العلماء والفنّيين أخطر من أسلحة العراق الحربية، لأنهم هم الذين ينتجون هذه الأسلحة)، ودعا المفتشين الدوليين إلى ضرورة إيجاد هؤلاء الأشخاص إلى جانب مهمّتهم في البحث عن أسلحة الدمار الشامل العراقية.
ويشير التقرير إلى أن واشنطن اتخذت العديد من الإجراءات لتحقيق هدفها في تفريغ العراق من علمائه قبل إعلان الحرب عليه، فقد أصرّت على تضمين قرار مجلس الأمن الرقم 1441 الذي صدر في العام 2002، فقرة تجبر العراق على السماح للمفتشين الدوليين باستجواب علمائه وفنّييه حتى لو تطلّب الأمر تسفيرهم هم وعائلاتهم خارج البلاد، لضمان الحصول على معلومات منهم عن برامج التسلّح العراقية. كما أقرّ الكونغرس الأمريكي في مطلع العام 2003 قانون (هجرة العلماء العراقيين) الذي ينصّ على منح العلماء العراقيين الذين يوافقون على تقديم معلومات (ذات صدقيّة) بشأن برامج التسلّح العراقية تصريحَ إقامة دائمة في الولايات المتحدة. وقد حصلت، بعد الحرب على العراق، على قوائم بأسماء هؤلاء العلماء، لاسيما الذين ساهموا في برنامج التسلّح العراقي، من لجان التفتيش التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرّية التي تعاقبت زياراتها للعراق قبيل الحرب.
ويشير التقرير إلى أن الخطة الأمريكية عملت على إجبار العلماء العراقيين على الاختيار بين عدّة بدائل هي:
] العمل داخل العراق شريطة التزامهم عدم تقديم خبراتهم إلى دول معيّنة تحدّدها واشنطن، وقد أعدّت الخارجية الأمريكية في هذا الصدد خطة حملت اسم (مبادرة رعاية العلوم والتكنولوجيا والهندسة في العراق) فاقت ميزانيتها 20 مليون دولار، من أجل توظيف العلماء العراقيين في أبحاث سلمية داخل العراق.
] إغراء هؤلاء العلماء بالعمل في الولايات المتحدة ذاتها، مع منحهم حق الإقامة فيها.
وقد أكّدت مصادر علمية رفيعة المستوى في العراق، أن ثمّة مفاوضات تدور مع الكثير منهم لنقلهم إلى مراكز بحثية غربية، كما عُرض على العديد منهم السفر إلى إسرائيل، والعمل في جامعاتها ومعاملها التي تتسم بدرجة عالية من التطوّر والتقدم التكنولوجي والعلمي، والحصول منها على درجات علمية. وقد استجاب بعضهم بالفعل لمثل هذه الدعوات، وعلى رأس هؤلاء الدكتور كنعان مكية رئيس قسم الدراسات الشرق الأوسطية في جامعة بوسطن والمحاضر في العديد من الجامعات الأوربية، وطاهر لبيب أستاذ علم الفيزياء النووية، ومحمود أبو صالح المتخصّص بالتكنولوجيا. أما من يرفض من العلماء العراقيين التعامل مع هذه الخيارات السابقة، فإن المصير الذي ينتظره ما زال يكتنفه بالغموض.
ومن خلال مراجعة دراسات أخرى تعود إلى مطلع التسعينيات من القرن الفائت، يتبيّن أن المؤسسات الأمنيّة والعسكرية الأمريكية كانت منذ ذلك الوقت تركّز على الخبرة التي يملكها العراقيون. وفي مقال ل(مارتن أنديك) نُشر في مجلة (الشؤون الخارجية) في العام 1993، نقرأ: إن الاهتمام الأمريكي بالعراق يرجع إلى أسباب عدّة أهمها الخبرة العراقية الكبيرة والمتراكمة في مجال التصنيع العسكري والبحث العلمي، وهناك آلاف العلماء العراقيين الذين يشكّلون بحق مصدر خطر في الشرق الأوسط لأنهم قد ينقلون خبراتهم إلى دول عربية وإسلامية.
ولم يُخفِ الأمريكيون اهتمامهم بموضوع العلماء العراقيين منذ بدء التحضير للحرب الأخيرة، إذ ركّزوا على الأسماء، وطالبوا المحقّقين في لجنة (الأنفوميك) بضرورة إعطاء الأولوية لاستجواب هؤلاء العلماء، وتحديد أسمائهم، الأمر الذي مهّد في مرحلة ما بعد الاحتلال لملاحقتهم، وتنفيذ خطط موضوعة سلفاً للتعامل معهم. وفي بعض الإحصاءات غير الرسمية أن شهر أيار/مايو 2003 شهد مقتل 458 عالماً وباحثاً عراقياً، وأن العدد ارتفع إلى 751 في حزيران/يونيو ثم إلى 872 في آب/أغسطس. وقد استقرّ متوسط عدد هذه الاغتيالات على 650 ضحيّة في الشهر، اعتباراً من آب/أغسطس 2003 حتى أوائل العام 2004.
وتقول إحصائية صادرة عن عدد من المنظّمات غير الحكومية التي قامت بزيارة العراق بعد الحرب، إن صناعة الاغتيال التي ازدهرت بعد احتلال العراق، حملت آلاف الأطباء والمهندسين والباحثين والجامعيين على مغادرة العراق قبل أن تشملهم لائحة التصفيات الطويلة في غياب الرادع الأمني. وتؤكد هذه المنظّمات أن التصفيات كانت تجري في الشارع من دون إنذار مسبق، قبل أو بعد صلاة الجمعة، عندما يتأكد الجناة من هويّة الشخص المراد قتله، وفي كل الحالات كانت التحقيقات تُحفظ تحت عنوان أن (الفاعل مجهول).
إحصائية أخرى أعدّتها (رابطة الأساتذة الجامعيين) في بغداد تؤكّد أن 80 في المئة من عمليات الاغتيال استهدفت العاملين في الجامعات، وأكثر من نصف القتلى يحملون لقب أستاذ أو أستاذ مساعد، وأكثر من نصف الاغتيالات وقعت في جامعة بغداد، ثم البصرة، ثم الموصل والجامعة المستنصرية، و62 في المئة من العلماء الذين تمّت تصفيتهم يحملون شهادة دكتوراه دولة من جامعات غربية، ثلثهم مختص بالعلوم والطب، و17 في المئة منهم أطباء ممارسون، وقد قُتل ثلاثة أرباع الذين تعرّضوا لمحاولات اغتيال، والربع الذي نجا فرّ إلى الخارج.
وتبقى شهادة ذات دلالة خاصة وردت على لسان العالم العراقي الدكتور نور الدين الربيعي، الأمين العام لاتحاد المجالس النوعية للأبحاث العلمية، رئيس أكاديمية البحث وأحد أبرز العلماء العراقيين في مجال التكنولوجيا النووية. يقول الربيعي إن التقدّم التقني للعراق كان أحد أسباب الحرب، وقد سبق لمادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية أن صرّحت بقولها (ماذا نستطيع أن نفعل مع العراق غير تدمير عقوله التي لا تستطيع القنابل الذرية أن تدمّرها، فتدمير العقول العراقية أهم من ضرب القنابل).
يضيف الربيعي: (لقد تحقّق الوعيد الذي أطلقه جيمس بيكر في وجه طارق عزيز وهما مجتمعان في جنيف في العام 1999، إذ قال: ''إذا لم تتعاونوا معنا فسوف نعيدكم إلى عصور ما قبل الوسطى''). ويستطرد: (إن اغتيال علماء العراق جزء من إستراتيجية الفوضى المنظّمة التي اعتمدها الاحتلال لتطويع العراقيين وإخضاعهم، وعلى أساسها تمّت استباحة قصور الدولة ومنشآتها الحكومية ومصارفها وجامعاتها ومصانعها ومراكزها الهندسية العسكرية ومتاحفها ومكتباتها إلى جانب كنوزها التراثية).
ويبقى السؤال مطروحاً: لماذا التغطية على المجزرة التي استهدفت علماء العراق؟ ولماذا لا يتم نشر محاضر التحقيق كاملة مع الموقوفين المتّهمين، أو عناوينهم العريضة على الأقل؟
واضح تماماً أن التحقيقات التي تمّت كشفت بالأدلّة القاطعة هويّة الفاعلين والجهات التي تقف وراءهم، لأن أحكاماً قضائية صدرت في حقهم تراوح بين الإعدام والسجن المؤبّد، فلماذا تتلكأ السلطات العراقية في الجهر بالحقيقة من أجل حماية من بقي حيّاً في المجتمع الأكاديمي العراقي؟